الجمعة 16 كانون الأول (ديسمبر) 2016

في ذكرى انتفاضة أطفال الحجارة

الجمعة 16 كانون الأول (ديسمبر) 2016 par عوني فرسخ

قبل 39 عاماً صدمت شاحنة «إسرائيلية» شاحنتين عربيتين فقتلت 4 عمال من مخيم جباليا، ما فجر المظاهرات الغاضبة في أكبر مخيمات قطاع غزة. وسرعان ما عمت مظاهرات الغضب القطاع وامتدت لمدن ومخيمات الضفة الغربية. إذ اندفع آلاف الشباب يقذفون قوات الاحتلال وسيارات المستوطنين بالحجارة وزجاجات المولوتوف، غير مبالين بالرصاص الحي المنهمر عليهم، ولا بالغاز المسيل للدموع وكل ما حشدته «إسرائيل» من وسائل قمع الجماهير الغاضبة ووضعته بتصرف الجيش.
وكانت الممارسات العنصرية عشية تفجر الانتفاضة توصف بالغطرسة والتعالي وتعبر عن شعور مفرط بالانتصار على الشعب الأعزل، فيما كان صناع القرار «الإسرائيلي» يتصورون أنهم أحكموا قبضتهم على الحراك الوطني الفلسطيني بعد إخراج فصائل المقاومة من بيروت وتوزيعها بعيداً عن الوطن المغتصب، وما بدا عليه غالبية عناصرها من شعور باليأس والإحباط.
صحيح أن الانتفاضة تفجرت عفويا لم يسبقها إعداد وتدبير، ولكنها كانت نتاج تراكمات عقدين من المعاناة في ظل احتلال عنصري مارس قمع الحريات السياسية والمدنية وحرية التعبير واقترف شتى الجرائم من هدم المنازل، إلى اقتلاع أشجار الزيتون وغيرها من الأشجار المثمرة، وتجريف التربة، واغتيال المقاومين، حتى وإن كانت مقاومتهم سلمية، واعتقالهم وتعذيبهم في المعتقلات والسجون، وتشديد الأحكام عليهم.
ولم يكن الأطفال بمعزل عما كان يتعرض له الآباء والأخوة الكبار والأقارب والجيران، ولا عما يشاهدونه من ممارسات عنصرية، ولا يسمعونه من أخبار المقاومة وإشادة ببطولات الشهداء وصمود المعتقلين، بحيث أنهم نضجوا مبكراً ونما وعيهم الوطني، وتنامى شعورهم بالمسؤولية عن الاستجابة الفاعلة للتحدي الصهيوني. ولقد توصل أطفال الانتفاضة إلى أسلوب في التصدي للعدوان لا يحتاج أي تجارة سلاح أو صفقات ذخيرة، ولا خطوط تمويل ولا قوات خلفية، ولا دعم خارجي، فالأحجار ملء الطرقات والأزقة، والمقاتلون بها من الأطفال لم يكن عليهم إلا أن يمدوا أيديهم ويقذفوا بها أعداء شعبهم وأمتهم.
كما عبرت الانتفاضة عن ثقة مواطني الضفة والقطاع باستطاعتهم تغيير الواقع المأزوم بقدراتهم الذاتية: فقد دشنت انتفاضتهم مرحلة جديدة في الصراع العربي - الصهيوني، إذ جعلت من الأرض المحتلة مسرح الصدام الأول والأساسي، فيما وجد فيها الفرد والجماعات السياسية والاجتماعية مجالا للمساهمة في عمل وطني. إذ لم يسبق لمواطني الأرض المحتلة إمساك مستقبلهم بأيديهم بقوة كما فعلوا منذ انطلاق انتفاضتهم. وقد أبدعوا حلولا ذاتية لما يواجهونه من تحديات ومشكلات. بحيث أنشئت على مدى الضفة والقطاع لجان الاكتفاء الذاتي في مجالات التربية والتعليم والصحة والزراعة والدفاع، التي ضمت المعلمين والمهندسين الزراعيين الذين قاموا بتوزيع بذور النباتات، وقدموا الإرشادات لاستنباتها في حدائق المنازل.
كما شكلت قيادة الانتفاضة قوات ضاربة من شباب أقوياء البنية لم يجاوزوا العشرين، كلفت بتنفيذ برامج القيادة الوطنية. وكان في مقدمة مهامها مواصلة التصدي للجيش وعناصر الإدارة المدنية «الإسرائيلية»، ومواجهة خارقي الإضرابات وعملاء سلطة الاحتلال وأجهزته الأمنية. إلى جانب تنظيم الفتيان الذين تجاوزوا الخامسة عشرة في صفوفها. وقد انتشرت في قاعدة التنظيم الهرمي للقوات الضاربة الخلايا المحلية، ولكل منها قيادة ذاتية، بحيث استعصى على جهاز المخابرات وعملائه اختراقها. والثابت تميز قيادة الانتفاضة بقدرتها على الصمود، وإفشالها محاولات سلطة الاحتلال تعطيل أنشطتها المقاومة ما اعتبر إنجازاً وطنياً غير مسبوق. فيما شكلت اللجان الضاربة نواة اللجان الشعبية التي ظهرت في الصدارة في مارس 1988 في تصديها لأجهزة الاحتلال.
وفي مواجهة الانتفاضة شكل رابين ما أسماه «هيئة إدارة الحرب»، التي اعتادت عقد اجتماعات أسبوعية، شارك فيها 30 جنرالاً وسياسياً ومحللاً استراتيجياً، ما يدل على القلق الذي أحدثته الانتفاضة لدى صناع القرار .
ولقد عرّت الانتفاضة الصهيونية، وممارسات العدو القمعية كما لم تعر من قبل. حيث إن مشاهد المقاومة السلمية بالحجارة قدمت صورة مؤثرة للعالم أجمع. إذ حين اعتمد الجيش «الإسرائيلي» إطلاق الرصاص الحي على أطفال الانتفاضة، فإن مشهد الصبية مسلحين بالحجارة في تصديهم للمصفحات والمدافع الرشاشة قدّم رسالة مؤثرة وصلت لقلب وعقل العالم. بحيث أن الانتفاضة خلال أسابيع قليلة نجحت في لفت الأنظار للقضية الفلسطينية بأكثر مما نجحت فيه كل المنظمات والفصائل وخطف الطائرات واحتجاز الرهائن وماراثون «المفاوضات» المثقل بالتنازلات. إذ فرضت على المجتمع الدولي حضوراً للشعب المقاوم بالحجارة جيشاً مسلحاً بأحدث وأفتك الأسلحة.
وبالإنجازات التي حفلت بها انتفاضة أطفال الحجارة كان البرهان العملي على ما يختزنه الشعب العربي الفلسطيني من مكون حضاري، وإرادة صمود وممانعة عصية على الاستلاب، متميزة بتواصل العطاء والقدرة على الاستجابة الفاعلة في صراع الوجود واللاوجود الذي فُرض على شعب فلسطين وأمته العربية بإقامة الكيان الصهيوني على ترابه الوطني.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165303

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عوني فرسخ   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165303 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010