الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر) 2016

جدار العزل الأخوي!

الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر) 2016 par عبداللطيف مهنا

“المحاسيم”، جمع “محسوم” بالعربية، وهي كلمة عبرية فُرضت على يوميات العامة الفلسطينيين فتسللت لدارجتهم، وتعني الحواجز العسكرية الاحتلالية الصهيونية المنتشرة في طول الضفة الغربية وعرضها، فاصلةً بين مدنها، عازلة بين قراها، وقابضةً على مداخل مخيمات اللاجئين فيها، بل وتجدها بين أحياء بعض مدنها، كالقدس والخليل مثلًا. وهي إذ من مهمتها أن تحيل حياة الفلسطينيين إلى جحيم، حيث في انتظاراتها الطويلة المتعمدة تلد الحوامل ويموت المرضى في سيارات الإسعاف، وتحوِّل تجمُّعاتهم إلى معازل ومعتقلات، تطورت إلى ميادين رماية يطلق فيها جند الاحتلال النار على مطلق شاب أو شابة، وحتى تلميذ في مدرسة، قد يتوهم جندي منهم، أو يخطر بباله، أو حتى من باب التسلية وتنفيسًا للحقد، أنه ربما يحمل سكينًا في جيبه، أو يخفيه في حقيبته، وبعدها ما هم إن تبين أن الضحية أعزل، كل ما في الأمر أن المسألة تطوى مذيلةً بعبارة أنه لم يمتثل لأمر التوقُّف، أو كان يحمل سكينًا لم يحمله.
هذه “المحاسيم”، أو بوَّابات المعتقلات والمعازل الكبيرة، تمظهرت في أشكال أخرى متعددة، منها الأسوار التهويدية العازلة، أو الخانقة، الملتفة حول مزق التواجد الفلسطيني في الضفة، والأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة المطلة والمسوِّرتين لقطاع غزة المحاصر برًّا، تعضدهما البوارج الحربية بحرًا، والطيران بطيارين أو بدونهم جوًا…باختصار إن لهذا المصطلح الاحتلالي مدلولًا واحدًا لدى الفلسطينيين هو فوق الحجز والاحتجاز، وليس دون الاعتقال والأسر، وأكثر من المهانة والإذلال، وأقرب إلى القتل العمد… لكن الأنكى والأمرَّ هو أن لـ”المحاسيم” العبرية ما يردفها عربيًّا، من تلكم، مثلًا، معبر رفح القابض على أنفاس الغزيين، والذي لا يدع لهم مجالًا للتنفس فيما خلا أيام تنفيسيةً معدودة المرات في العام.
…وإذا كان أكبر هذه “المحاسيم” هي أكثرها تضييقًا وأحكمها عزلًا، أو خنقًا وقهرًا، أي الأسوار التهويدية العازلة الممتدة لمصادرة الأرض وأسر البشر داخل الوطن المُغتصب، فإن انتقال عدواها، أو اعتماد مثالها، في مخيمات الشتات الفلسطيني في دنيا العرب، هو ضرب يعادل اللامعقول والأكثر من جلل، لا سيما في راهن أمة تكسَّرت على جسدها المثخن بجراحات الفتن والتدخل الأجنبي النصال على النصال… في هذا الراهن، وربما اغتنامًا لفرصته، سمعنا من غيارى اللبنانيين، قبل غيرهم، ما يطلقون عليه هم لا سواهم، “جدار العار” اللبناني قبل أن نشاهد في التلفزة أبراجه المُحدِّقة بأزقة مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين وبينما كتله الخرسانية تشاد ويتواصل التفافها من حوله.
نعم، ومن أسف، إن هذا ما يحث الآن في لبنان، وإذ هو يحدث، فالبراءة من عاره للبنان لبنانيي تلكم الدماء الزكية التي لطالما سالت وامتزجت مع دماء الفلسطينيين في الخندق الواحد في معاركهما الواحدة ضد أعداء الأمة ودفاعًا عن فلسطينها، ولا من براءة للبنان القطرية ذات التكوين الطوائفي بعنصريتها المقيمة المترتبة على تكوينها فالمكتسبة للمناعة المضادة لمستحقات انتمائها القومي… هذا التكوين الطوائفي الذي لطالما لاقى منه اللاجئون الفلسطينيون معاملةً يصفها بعض اللبنانيين قبل منظمات حقوق الإنسان الدولية بغير الإنسانية، جوهرها حرمانهم من أبسط الحقوق المدنية…نكتفي هنا بذكر حالتين تساويان التهجير المكمِّل لما بدأته النكبة، أو محاولة إعادة إنتاج اللجوء، وهما حرمان الفلسطيني من مزاولة ما ينوف عن سبعين إلى ثمانين مهنة، ومن حق التملك، وحتى من سبق وأن امتلك بيتًا فلا يحق له أن يورثه لبنيه، وكذا الرعاية الصحية، وكله بذريعة الحؤول دون التوطين!
وهنا، يعرف القاصي والداني حقيقةً خُطَّت بالدم الفلسطيني على مدار سبعين عامًا، وهي أنه لا يوجد فلسطيني واحد يريد توطينا خارج فلسطينه، أو يرضى عن العودة لها بديلًا. وأخرى، هي أن الكينونة الطوائفية العنصرية الرافعة لفزاعة التوطين هي إياها من جنَّست الأثرياء الفلسطينيين عندما لجأوا إليها مع أموالهم عقب النكبة، ومن جنَّست لحسابات تتعلق بطبيعة تكوينها إياه 55 ألفًا من الفلسطينيين لانتمائهم لديانة معينة في خمسينيات القرن الماضي، ولاحقًا، ضمن بازارات محاصصاتها الطوائفية وترضياتها أكملت تجنيس ما تبقَّى منهم، ومعهم، أو مقابلهم، من عرفوا بلاجئي القرى الحدودية السبع شمال فلسطين المحتلة، والمفارقة أن تجنيس الأخيرين تم باعتبار أنهم كانوا لبنانيين، لكن دون اعتبار قراهم كذلك، إذ يتوجب حينها المطالبة باستعادتها من محتليها!
يسجَّل في لبنان 480 ألف فلسطيني، والمقيمون منهم فيه قرابة نصفهم، واثني عشر مخيمًا، دُمِّر اثنان، هما تل الزعتر وجسر الباشا، وثالث بات أطلالًا وإعادة إعماره برسم التأجيل، أي المنع، هو نهر البارد، والتسعة كانتونات بؤس ومراتع تهميش والتعامل الرسمي معها أمني لا غير، وفوقه، قلَّصت الأونروا خدماتها بزعم شح في التمويل… والجديد هو إفادة الأشقاء من المثال الصهيوني بنقله حرفيا وتطبيقه في عين الحلوة ليُضرب من حول مخيم يحوي ما يزيد عن السبعين ألف نسمة ولا تزيد مساحته عن الكيلو متر مربع واحد جدارًا عازلًا ذا أبراج مراقبة بذريعة الحؤول دون دخول أو خروج “إرهابيين” إليه أو منه، ذلكم في تجاهل تام لحقيقة انعدام ما يتهدد أمن لبنان فلسطينيًّا… وأن مثل هكذا إجراء هو خير وصفة لاختلاق “الإرهابين” إن هم افتقدوا.
… إذا ما تذكرنا مقولة قديمة للوزير اللبناني السابق نقولا فتوش تصف الفلسطينيين بـ”نفايات بشرية”، ندرك أن جدار العزل الأخوي في عين الحلوة لا يعدو “محسومًا” تهجيريًّا رديفًا لـ”محاسيم” الجدران التهويدية الترانسفيرية الصهيونية ومكملًا لها، وإلا فما الفرق؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 39 / 2165626

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبداللطيف مهنا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165626 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010