السبت 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2016

عام على انتفاضة القدس: المشهد المُهيأ لكل الاحتمالات

السبت 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 par علي بدوان

عام كامل، بالتمام والكمال، مَرَّ على انتفاضة القدس الأخيرة، انتفاضة السكاكين، والشباري، والمولوتوف، والحجارة، على يد الأجيال الجديدة الصاعدة من فتيان وشبان وشابات فلسطين، من أبناء القدس والخليل وغيرها من مدن ومخيمات وبلدات وقرى الأرض المحتلة عام 1967.
انتفاضة فجّرها، ويفجّرها كل يوم، فتيان وشبان بعمر الورد، ممن اعتقد الاحتلال بأنهم أجيال جديدة لا علاقة لها بالماضي القريب ولا بالحاضر الوطني الفلسطيني، فقد راهنت “إسرائيل” بأنها أمام جيلٍ فلسطينيٍ قادم لا يهتم كثيرًا بهويته الوطنية، يواكب الحداثة والتطور، ويلبِسُ لباسًا غربيًّا وقصاتِ شَعرٍ عصرية، كما ليس له علاقة لا بدين ولا بوطنية، فجاء الفعل الفلسطيني ليثبت في انتفاضة القدس أن هذا الجيل هو الجيل الأكثر إقدامًا وشجاعة، بل سبق غيره بأنه لم يحتج قادة ميدانيين أو فصائليين لتوجيهه، بل قاد وتحمل المسؤولية بنفسه، وهنا كانت الصاعقة التي ضربت رأس القرار في دولة الاحتلال الصهيوني.
جاءت انتفاضة القدس، انتفاضة لم يكن اندلاعها ضمن حسابات القيادات “الإسرائيلية” على المستوى الأمني أو السياسي، ورغم “بدائية وتواضع” الوسائل المُستخدمة فيها من قبل الفتيان والشبان والشابات من أبناء فلسطين، بالمقارنة مع انتفاضة الأقصى التي سبقتها، إلا أن هذه الانتفاضة كان لها آثار وتداعيات واضحة على الجمهور الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، وكذلك على قياداته السياسية والأمنية والعسكرية، التي دخلت في رهانٍ خاسر على ضياع الأجيال الفلسطينية الجديدة. وقد دلّت في مؤشراتها القاطعة على أن الشعب الفلسطيني لن يستكين تحت طبقات اليأس والإحباط، وقد بلغت حالة الاحتقان وحالة التذمر حدودًا عالية في دواخله، وخصوصًا عند قطاع الشباب الصاعد والمتحمس، حيث الشهيد ضياء تلاحمة، والشهيد مهند الحلبي، والشهيد فادي علون، والشهيد عبدالرحمن شادي عبيدالله … وغيرهم.
إن الوسائل المستخدمة في فعاليات القدس الوطنية، وانتفاضة فتيانها وشبانها وشاباتها لم تصل إلى حد ما تخشاه “إسرائيل” من انتقال العمليات من دائرة السكين وإطلاق النار إلى تفجير الحافلات والمقاهي، لكن لهذه الانتفاضة تأثيرات كبرى على القطاعات كافة في دولة الاحتلال، فزرعت بشجاعة شبانها وشاباتها وفتيانها، مساحة كبيرة من الهلع والخوف في صفوف جيش الاحتلال ومجموعات المستوطنين، أدّت في بعض الأحيان إلى إطلاق النار بالخطأ من قبل الجنود “الإسرائيليين” على بعضهم، أو على يهود آخرين ظنًا بأنهم عرب، كما حدث في عملية بئر السبع الشهيرة.
وعليه، أوضح مراقبون أمنيون ومتابعون من داخل البيت الصهيوني، بأن انتفاضة القدس لم تصل إلى ما وصلت إليه انتفاضة الأقصى من وسائل وإمكانات، إلا أنها توازت معها في مساحة ما نشرته من الهلع والخوف، والذي ساهم وفق المعطيات “الإسرائيلية” إلى تراجع السياحة الداخلية على سبيل المثال، بشكلٍ كبير في مناطق القدس، وتل أبيب وغيرهما.
إن مقدماتِ انتفاضةِ القدسِ بَدَت ملموسة منذ وقتٍ ليس بالقصير، في مقدماتٍ ما زالت تُهيئ بالفعل لنهوض شعبي فلسطيني في الداخل، سيهز المنطقة بأسرها حال انفجاره على الأرض، ومردّ ذلك إلى عدة أسباب وعوامل، فالوضع الفلسطيني في الداخل يزداد احتقانًا كل يوم وكل ساعة، ويعتمل على مرجل من الغليان المتواصل على ضوء الانسداد الكامل والعملي لأفق عملية التسوية في المنطقة، وخاصة على مسارها الفلسطيني “الإسرائيلي”، وعلى ضوء تصاعد عنف الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، وسيادة منطق الصلف والغطرسة عند قادة “إسرائيل” وعموم التشكيلات الحزبية والسياسية في الدولة العبرية الصهيونية التي بدا فيها المشهد مع ارتفاع منسوب سياسات اليمين واليمين المتطرف بشقيه القومي العقائدي والتوراتي.
كما أن الفاقة الاقتصادية في تزايد بين عامة الناس وفي صفوف القطاعات المختلفة الريفية والحضرية وداخل المخيمات، فضلًا عن انتشار البطالة التي وصلت إلى معدلات عالية بلغت حدود “الجوع الكافر” لتقارب نحو 65% من الطاقة العاملة، وفق معطيات كثيرة من مصادر رسمية، وكلها بالإجمال نتيجة سياسات الاحتلال في هذا الجانب.
إضافة إلى ذلك، يتزايد الاحتقان في صفوف الناس في الداخل الفلسطيني مع حملات الابتلاع المستمر للأرض وتهويدها المتدرج، وخاصة في منطقة القدس وداخل أحيائها العربية والإسلامية والمسيحية. فقد ابتلع غول الاستيطان الزاحف مساحات إضافية من محيط القدس، ومن بيوت السكان داخل الأحياء الشرقية للمدينة، وهي أحياء تاريخية منذ العهد الأموي.
ومع هذا، إن حالة التصعيد والغليان في عموم الضفة الغربية ومناطق القدس، وحالة الاستعداد العالية لدى أبناء الشعب الفلسطيني للتضحية والإقدام، لا تعنيان أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قد باتت على الأبواب تمامًا. فالعوائق الكبرى ما زالت تعترض طريقها، من ناحية الواقع الموضوعي في المحيط العربي والإقليمي وحتى الدولي، والذاتي الفلسطيني. فالجميع يعلم أن الفلسطينيين في ظل الواقع الراهن لا يستطيعون وحدهم، في غياب أمتهم، مواجهة ما يجري لهم ولقضيتهم، فالذي شجع الاحتلال وحكومته على استمرار الحملات التصعيدية التي هودت الأرض وصادرت الأحياء وهدمت المنازل وشردت الإنسان، هو استمرارية غياب الدور العربي المطلوب تجاه القضية الفلسطينية وقضية القدس، والاتكاء على إستراتيجية “السلام خيارا عربيا وحيدا” في مواجهة سياسات الاحتلال.
إن اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة وعامة في الضفة الغربية يحتاج إلى حواضن مساندة سياسيًّا وماديًّا ومعنويًّا، حواضن عربية وإسلامية. كما يحتاج لحل الاستعصاء الأكبر في الساحة الفلسطينية والخروج من حالة الاحتراب الذاتي، والمتمثل بوجود الإنقسام الداخلي.
في هذا السياق، انتهجت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” نهج الإعدامات الميدانية، وعملت على توسيع ممارساتها لها خلال الفترات الأخيرة، في مناطق مُختلفة من الضفة الغربية، كان آخرها إعدام ثلاثة شبان دفعة واحدة من عائلة الرجبي في مدينة خليل الرحمن، وكلها تأتي تحت تُهمة محاولة طعن جنود الاحتلال أو مُستوطنين مُسلحين.
إن عودة “إسرائيل” لممارسة عمليات الإعدامات الميدانية الفورية في مُختلف مناطق الضفة الغربية في القدس والخليل وبيت لحم وعموم ومدنها وبلداتها وقراها ومخيماتها، جرائم حرب موصوفة بكل ما للكلمة من معنى، وهو ما يستوجب تدخل المجتمع الدولي ومحكمة الجنايات الدولية، لردع ووقف عربدة الاحتلال التي فاقت كل تصور.
هنا، ومن أجل كَسرِ المعادلة، وفي خطوة ملموسة من التحرك السياسي المطلوب في إطار المجتمع الدولي، تأتي أهمية تَلقف مَطلَب وفكرة إحياء مشروع قرار إرسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني من الاحتلال والاستيطان “الإسرائيلي” الاستعماري التوسعي، وهي فكرة سبق أن تم طرحها إعلاميًّا (فقط) في مرات سابقة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية وجامعة الدول العربية، وقد جوبهت برفض فوري من دولة الاحتلال ومن الإدارة الأميركية، بالرغم من أنها لم تأخذ طريقها للطرح العملي على المستويات الدولية المسؤولة.
إن طرح الفكرة إياها، وإن كانت صعبة التحقيق في الوقت الراهن بسببٍ من الرفض الأميركي لها، إلا أنها مسألة على غاية الأهمية لتقديم المبادرة السياسية المضادة لما تروجه الرواية “الإسرائيلية” بشأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولتحريك المجتمع الدولي، والضغط السياسي على “إسرائيل” لوقف عربدتها وسلوكها الفاشي اليومي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
لقد سبق وأن قامت الأسرة الدولية ممثلة بالأمم المتحدة ومجلس الأمن باتخاذ قرارات لها علاقة بحماية العديد من شعوب العالم التي كانت واقعة تحت نير الاحتلال إلى حين استقلالها التام، وحتى الشعوب التي كانت واقعة تحت نير الظلم والاستبداد الداخلي في بلدانها كما حديث في الكونجو ورواندا وغيرها من دول أميركا اللاتينية. حدث هذا في الكونجو ناميبيا على سبيل المثال، في ظل الانتفاضات التي قام بها شعب ناميبيا التي وقعت تحت سيطرة جنوب إفريقيا (زمن الحكم العنصري) بعد خروجها من التاج البريطاني، وهو ماقاد في النهاية الأمم المتحدة للتدخل المباشر على الأرض لتحمل المسؤولية المباشرة وحماية شعب ناميبيا، واعترافها بمنظمة (سوابو) باعتبارها الممثل الرسمي للشعب الناميبي في العام 1973، وصولًا لاستقلالها الكامل عن جنوب أفريقيا في العام 1985.
خلاصة القول إننا أمام مشهد فلسطيني في الداخل المحتل عام 1967 وتحديدًا في الضفة الغربية والقدس، مُهيّأ لكل الاحتمالات، بما في ذلك انطلاق حالة فلسطينية تَعتمل الآن على مرجل الغليان في الداخل الفلسطيني، وعلى كل القوى الفلسطينية في هذا المضمار التقاط ما يجري والبناء عليه، وتقدير الموقف بشكل سليم بجوانبه المختلفة، والإسراع في العمل لتجاوز كل المعيقات التي تعترض طريق وحدة النضال الفلسطيني، والخلاص من الانقسام الداخلي وبناء الشراكة الوطنية الحقيقية ذات البعد الاستراتيجي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي بدوان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010