السبت 20 آب (أغسطس) 2016

رأي في العلاقات العربية-العربية وثافة الإقصاء

السبت 20 آب (أغسطس) 2016 par زياد حافظ

إن التجزئة والتفتيت التي تشهدهما الأمة العربية ناتجتان، من بين أسباب عديدة لا داعي لذكرها في هذه المداخلة، عن ثقافة عبثية هي ثقافة الإقصاء. فهي من الأسباب غير المتداولة أو التي لا يُعطى لها الأهمية والتي تستحقّها. فالتجزئة والتفتيتمن ثقافة مناهضة لثقافة الوحدة.فهي ثقافة الرأي الواحد المفروض على الجميع. لذلك نجد أن مقاربة الشأن العربي عند أكثرية النخب العربية وفي العديد من وسائل الاعلام العربي مبنيةعلى قاعدة إماأنت معي أو إما أنت ضدّي. أي أن يكون القرار المطلوب أو الموقف السياسي لصالج جهة ما وذلك بنسبة مائة بالمائة أو أنه قرار مرفوض بالمطلق ومعه من يُطلقه. وهنا المشكلة.
فكيف نعالج وندير الاختلاف بالرأي خاصة وأن أمتنا متنوعة ونحن من الحريصين على التنوّع الموجود. فالثوابت والأهداف التي نؤمن بها وتتحكّم بمقارباتنا للأمور غير خاضعة للنقاش.والاجتهاد في التكتيكات للوصول إلى الأهداف يتطلّب قسطا من المرونة يكون الاجتهاد فيها مقبولا. أما اختزال الأمور بثنائيات جذّابة لا تعني أنها تعكس بالضرورة الحقيقة. فالتناقض المفترض في تلك الثنائيات ليس دائما صحيحا. فعلى سبيل المثال عمّ الفضاء الفكري والإعلامي ثنائية “الأصالة والحداثة” وكأنهما متناقضتان. فالحداثة تستلزم القطيعة مع التراث حسب وجهة نظر البعض أو أن الأصالة هي محصورة في التراث حسب وجهة نظر آخرين، وكلا الفرضيتين غير دقيقتين. أو ثنائية الديمقراطية والاستبداد وكأن الدمقراطية متناقضة مع الاستبداد وتتنكر لاستبداد المال وعوامل أخرى تفسد قرار المواطن. هذا بحث آخر خارج عن إطار اهتمامنا في هذا المقال. ف “الثنائيات” تعني إما الواحد أو الآخر بينما الأمور ليست بالضرورة كذلك ومن هنا تنشأ ثقافة الإقصاء.وما نريد أن نشدّد عليه هو أن ثقافة الإقصاء مبنية على فهم خاطئ أو مجتزئ للأمور. فالأخيرةليست بلونين أبيض أو أسود. الأمور في الحقيقة هي أشكال عديدة من الرمادية! وبالتالي الغلو في الموقف يتناقض مع الفطرة وما يتناقض مع الفطرة لا يدوم ويبطل.
من ضمن الخلافات التي عمّت الفضاء السياسي العربي الخلاف على طريقة التغيير. والاختلاف في استراتيجيات التغيير في الوطن العربي أدّت إلى تفشّي ثقافة الإقصاء. غير أنالتغيير المطلوب هو تراكمي في طبيعته وليس بالقوة عندما تكون الموازين المتصارعة متعادلة. فإما الثورة، أو الصدمة الكبرى، وزعزعة الأوضاع لتحريك الأمور، وإما التغيير عبر التراكم. المسار الأول بدايته معروفة وشعاراته جذّابة لكن نتائجه غير مضمونة أو مجهولة رغم “الأهداف” المعلنة له، والدلائل عديدة في هذا الموضوع (ليبيا، مصر، اليمن، سورية، العراق). أما المسار الثاني، فبطيء ويثير الإحباط في كثير من الأحيان، ولكن نتائجه معروفة وإن لم تكن مضمونة، ولا تعرّض المجتمعات العربية إلى أخطار هو بغنى عنها، وتحافظ على السلم الأهلي.
للأسف ثقافة الإقصاءالمترسّخة خارجة عن سياق العقل العربي الذي يستطيع بتكوينه أن يكون متعددا للأبعاد، أي أن يستوعب أكثر من احتمال واحد. بينما الثقافة المروّجة في الإعلام هي ثقافة الجذرية والاقصاء وأحادية البعد كما هو شائع في العقل الانجلوساكسوني. إما أنت معي أو أنت ضدّي (تذكّروا جورج بوش الابن). فلا مكان لكل الإيجابيات التي أتفق معك عليها إن لم تكن معي فيما أريده الآن. أحادية البعد متناقضة مع تعدد الأبعاد الذي يساعده في بلورته آلية العزل الموجودة في العقل العربي. فأحادية البعد في العقلتؤدّي إلى تكريس ثقافة الإقصاء والانفصام في الموقف. وآلية العزل ضرورة لفهم إمكانية استيعاب أكثر من احتمال في المقاربة دون المس في الجوهر. لا داعي الاسترسال هنا في تضاريس آلية العزل في العقل العربي، فهو موضوع خارج إطار بحثنا لكننا وجدنا أنه من الضروري الإشارة لها لدعم فكرة إمكانية تعدّد الأبعاد في العقل العربي. فتعدّد الأبعاد في العقل العربي يجعل ممكنا التفاهم على قضايا معيّنةوالاختلاف على قضايا أخرى في آن واحد دون الوقوع بفخ “الكل أو لا شيء” الذي ينتهي في كثير من الأحوال ب “لا شيء”! الانفصام في الموقف يختلف عن الازدواجية التي تدلّ على إمكانية تعدد الأبعاد في المقاربة بينما الانفصام حالة مرضية تعالج طبّيا وليس عقليا أو سياسيا.
هذا الاستطراد حول العقل العربي ضروري لتبيان عدة أمور. فالعلاقات العربية-العربية مصابة بحالة انفصام وليست بحالة ازدواجية. وحالة الانفصام تؤّدي إلى تفشّي ثقافة الاقصاء سواء كان تعبيرها “تخوينا” عند الجماعات السياسية الخارجة عن الإطار الديني، أو “تكفيرا” عند الجماعات الدينية المتشدّدة. كما نعتقد أن ثقافة الإقصاء من الأسباب الرئيسية لحالة التجزئة التي نعيشها في الوطن العربي. فعدم القبول بالرأي الآخر أو احترامه يؤدّي تلقائيا إلى موقف عبثي كالتخوين أو التكفير. كما يؤدّي إلى “انشقاقات” أو “حركات تصحيحية” على الصعيد التكوينات السياسية أو إلى انفصال على الصعيد الجغرافي والوطني، أو إلى نبذ العمل الجماعي والتفاهم على جوامع مشتركة. فعندما نطالب بالوحدة في مشروعنا النهضوي العربي كرد على التجزئة علينا أن نعي أن ثقافة الاقصاء مناهضة لثقافة الوحدة. احترام الرأي الآخر هو المدخل لثقافة الوحدة، والوحدة هي المدخل للنهوض بالأمة. فأمتنا متنوعة وعلينا أن نتمسّك بذلك التنوّع وعدم الوقوع بنظرية “العرق السياسي الصافي” لتكوين الأمة.
من هنا كانت قناعتنا كتيّار عروبي، ومن خلال مؤسساته الشعبية كالمؤتمر القومي العربي ومؤسساته الفكرية كمركز دراسات الوحدة العربية، في ضرورة العمل على تكوين الكتلة التاريخية بين مكوّنات الأمة من قوميين عرب وإسلاميين ويساريين وليبراليين. وكذلك الأمر في ضرورة تشكيل كتلة تاريخية جيوسياسية من العرب والإيرانيين والأتراك على قاعدة الندّية بين الأطراف والتكامل وليست على قاعدة القوّامة التي يمكن أن تعتقد بعض النخب أنها ممكنة. فهي مدمّرة وعبثية ومتنافية مع وحدة الموروث التاريخي والثقافي عند كل الأطراف.
بناء على ذلك فإن القرارات السياسية التي تهدف إلى إقصاء من الفضاء السياسي العام أي مجموعة سياسية فهي موازية لسياسة التكفير التي تتبعها الجماعات المتعصّبة والمتوحّشة. إن الدعوة لمواجهة مشاريع تلك الجماعات لا يمكن أن تقتصر على المواجهة العسكرية والأمنية. فإن كان العمل العسكري والأمني شرط ضرورة فهو ليس شرط كفاية. أي بمعنى آخر لا يمكن أن يكون النشاط العسكري والأمني في مواجهة تلك الجماعات عذرا لإعفاء النخب الحاكمة والطامحة للحكم من بذل المجهود الفكري والثقافي في مواجهة مشاريع الجماعات المتعصّبة. فالمواجهة بحاجة إلى كافة الطاقات الموجودة في الأمة ولا يمكن أن تكون “ألا كارت”، أي بانتقائية بالنسبة لمن ومتى يشترك بالمواجهة. وبالتالي تصبح سياسات “اجتثاث” قوى مناهضة للنظام الحاكم محكومة بالفشل وعبثية. ففي مصر مثلا، إن إقصاء بعض الحركات للإسلام السياسي من المشهد السياسي لا يساهم في تثبيت الوحدة الوطنية في مواجهة جماعات التعصّب والغلو. صحيح أن المطلوب من بعض هذهالحركات خطوات واضحة تفضي إلى مراجعة العديد من السياسات الخاطئة والمدمرّة لها وللدول التي تتحرّك فيها. كذلل سياسة إقصاء أو “اجتثاث” حزب البعث في العراق لن يساهم في مصالحة سياسية بين مكوّنات الشعب العراقي لمواجهة داعش.
في هذا السياق نذكّر أن المؤتمر القومي العربي كان اتخذ موقفا واضحا وصريحا وحازما مندّدا لقرارات سلطة الاحتلال في العراق من تسريح القوات المسلّحة والأمنية وإخراج حزب البعث من الفضاء السياسي. وما لا نستطيع فهمه هو استمرار تلك السياسة عند النخب الحاكمة في العراق بعد خروج قوّات الاحتلال. فالاستمرار في عدم التعاطي مع حزب البعث، الذي هو مكوّن أساسي في المشهد السياسي العراقي وغير مبنى على قاعدة المحاصصة الطائفية والمذهبية، هو موقف خاطئ ومناهض للموروث الثقافي والسياسي ليس فقط في العراق ولكن في الأمة. بالمقابل، فالمطلوب من البعثيين مراجعة صريحة وواضحة لسياسات أدّت إلى ما وصل إليه الوضع الداخلي في العراق. وعلى هذه الأساس يكون الحوار فالمصالحة فوحدة الموقف فالسلم الأهلي. فالتنوّع هو ما يثرى الأمة. والحوار مع جميع المكوّنات السياسية في المشهد العراقي هو شرط ضرورة وكفاية لبلورة موقف وطني يساعد في مواجهة التحدّيات التي تستهدف وحدة العراق وشعبه وثقافته واستقراره وتطوّره. والفتنة التي بدأت في العراق وامتدت إلى أقطار عربية لا يمكن القضاء عليها والعراق بعيدا عنها. بدأت الفتنة في العراق وبداية نهايتها هي العراق.
فالحل العسكري في مواجهة داعش لا يساعد في مسيرة المصالحة وضم الجراح إذا ما تنكّرت النخب الحاكمة لإشراك جميع المكوّنات. كما لا يساعد إذا ما لم يُقدّم رؤية جامعة لمستقبل الغد يجد الجميع فيه سببا للمشاركة به، بينما المشروع الداعشي مشروع إقصائي إلى أقصى الحدود! المقاربة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تقل أهمية عن المقاربة العسكرية والأمنية في مواجهة جماعات التعصّب والغلو. في رأينا، فإن الفكر هو الذي يُمكّن الانتصار على مشاريع إلغاء الفكر. كذلك الأمر في تونس والبحرين واليمن وسائر دول الخليج وسورية. وكذلك الأمر على صعيد جامعة الدول العربية حيث إخراج دولة مؤسسة (مع كسر السين) لها،أي سورية، هو خطأ أكبر من جريمة. كما يعني ذلك أن على الدول العربية التي لا تقبل برأي مخالف لرأيها في مقاربتها للواقع العربي أو الإقليمي أو الدولي أن تقوم بمراجعة لسياساتها المبنية على قاعدة “الكل أو لا شيء” وعلى قاعدة اللعبة الصفرية. فالتنازل للأمة ليس تنازلا بل مكسبا للجميع.
هنا لا بد لنا من توضيح كي لا يُستغل ما نقوله بأنه مدخل لتبرير ما لا يمكن تبريره. فنذكّر بأننا متمسّكون بثوابت الأمة وفي مقدمتها تحرير فلسطين، كل فلسطين، من البحر إلى النهر. فلا مساومة على ذلك. كما أن هدفنا هو وحدة الأمة والعمل على إقامة دولة الوحدة التي تحميها وتحمي موروثها الثقافي والحضاري وتعمل لإنتاج معرفة كرسالة للإنسانية كما سبقنا أجدادنا. وأخيرا، نؤكّد أن مشروعنا السياسي والفكري هو مشروع نهضة الأمة في الاستقلال الوطني، وعبر المقاومة لكافة أشكال الظلم كالظلم السياسي، والظلم الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، والتراجع الثقافي والحضاري الذي هو أيضا نوع من الظلم. فلا مساومة على هذه الثوابت.
إن سياسة “الضم ولمّ الشمل” عكس سياسة “الإقصاء”. فهي تخلق موازين قوة يصعب اختراقها والعبث بها. هكذا فقدنا الأندلس في الماضي البعيد، وهكذا فقدنا فلسطين والسودان، والله أعلم ما يمكن أن نفقدهإذا ما استمرّت النخب الحاكمة في سياسة الإقصاء. العقل السياسي هو بطبيعته ساعي إلى الضمّ ولمّ الشمل. إن سياسة “تدوير الزوايا” ليست مسارا عبثيا على الأقل طالما هناك إمكانية العمل على تحقيق التغيير والحفاظ على السلم الأهلي ومكوّنات المجتمع العربي. هذا يخالف العقل “الجذري” الذي يستقطب ولا يضم والذي يؤدّي إلى التطرّف. ونعيد ونكرّر أن “تدوير الزوايا” لا يعني أبدا تنازلات في المواقف المبدئية بل مرونة في أساليب الوصول وتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
امتنا ليست متطرّفة مهما تمسّكت بالثوابت التي تعتقد أنها تجسيد لهويتها. أمتنا أمة الوسط. الجماهير العربية ليست في رأينا مع “الفرز″ القسري الذي تطلّع إليه بعض الرؤوس الحامية. وتأكيدا لما نقوله فإن المحاولات العديدة لزرع الفتنة في لبنان فشلت حتى الآن والحمد لله. حافلة مرّت بحي عين الرمّانة في ضاحية بيروت في نيسان 1975 كانت الشرارة التي أطلقت الحرب الأهلية في لبنان والتي استمرّت 15 عاما. ما حصل خلال السنوات الخمسة الماضية من تفجيرات في مناطق مختلفة من العاصمة اللبنانية وضواحيها وفي طرابلس وفي البقاع كانت أضعاف وأضعاف بالحجم عن حادثة حافلة عين الرمانة. الشعب اللبناني لم يستجب لدعوة الفتنة المموّلة والمدفوعة من الكيان الصهيوني وحلفائه. فالوعي الشعبي وحكمة معظم القياديين كانا أقوى من ذلك وما زالايحملان في الذاكرة الجماعية اللبنانية الآم ومآسي الحرب اللبنانية التي لا يريد تكرارها أحد. فلماذا لا يأخذ بعض العرب العبرة من تلك التجربة؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165355

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع زياد حافظ   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165355 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010