الجمعة 3 حزيران (يونيو) 2016

الديمقراطية الأوروبية تحمي العرب

الجمعة 3 حزيران (يونيو) 2016 par رغيد الصلح

أشرنا في مقالات سابقة إلى الأخطار البالغة التي تهدد الأمن والسلام الدوليين والإقليميين، نتيجة صعود اليمين المتطرف في القارة الأوروبية. وأشرنا أيضاً إلى المخاوف المنتشرة في أوروبا وفي البلاد العربية من نتائج هذا الصعود ومضاعفاته. كذلك لفتنا النظر إلى ضرورة عدم الانخداع بمظاهر تمسك أحزاب اليمين المتطرف بآليات التنافس الديمقراطي واعتبارها دليلاً على عمق التزامها بالديمقراطية.
صحيح أن حزب «الحرية» النمساوي اليميني المتطرف سارع إلى إعلان قبوله بنتيجة الانتخابات العامة، رغم أن الفارق بينه وبين حزب الخضر الفائز لم يتجاوز البضعة آلاف من الأصوات. وصحيح أنه كان باستطاعة حزب «الحرية» أن يطعن بنتائج الانتخابات وأن يخلق جواً من البلبلة والخلل داخل المؤسسات النمساوية الديمقراطية عبر إثارة التساؤلات حول العملية الانتخابية ولكنه لم يفعل ذلك.
هذا كله صحيح، ولكنه يعني أن المتطرفين اليمينيين في النمسا أتقنوا-مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب الحرية في هولندا- الإفادة من مؤسسات النظام الديمقراطي لكي يصلوا من خلالها إلى الإمساك بالحكم وإلى تبديله على نحو ينسجم مع معتقداتهم العنصرية. فهؤلاء لا يريدون إدخال تعديلات إصلاحية على أنظمة الحكم في القارة الأوروبية، بل يريدون تغييرها جذرياً، بحيث تكون تعبيراً عن الفاشية الجديدة. ولشرعنة التغييرات الجذرية التي تعد بها أحزاب اليمين المتطرف، فإنه لا يكفي أن تنال أكثرية نسبية من المقاعد النيابية بل الأكثرية المطلقة.
إن الموقف من الاتحاد الأوروبي هو من أهم قضايا الانقسام اليوم بين الأحزاب الأوروبية سواء في أقصى اليمين أو يمين ويسار الوسط وأقصى اليسار. ولقد تحولت الانتخابات النيابية بصورة إلى مسرح للسجال الفكري والسياسي بصدد هذه القضية. بل إن البعض بات يشعر أن هذه القضية تجاوزت، من حيث اهتمام الرأي العام بها، القضايا الأخرى التي تستحوذ على اهتمام الناخبين. وإذا كان اليمين المتطرف يسجل المزيد من الإصابات في مرمى الوسط واليسار على هذا الصعيد، فإن بعض الأحزاب الأوروبية الحاكمة والمؤيدة للاتحاد الأوروبي اعتبرت أن طرح موضوع العلاقة مع الاتحاد على صعيد الاستفتاء سوف ينزع من يد اليمين المتطرف المناهض للاتحاد فرصة تحويل الخروج من الاتحاد إلى قضية رابحة.

في هذا السياق وتوخياً لمثل هذه الغاية دعت حكومة المحافظين البريطانية إلى استفتاء عام حول مسألة علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. ورغم أن ديفيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية يبدو واثقاً من قدرة حزبه على الفوز بالاستفتاء كما حصل عندما تمكنت الحكومة من الحاق هزيمة كبرى بالانفصاليين الإسكوتلنديين، ورغم أن بعض الاستطلاعات التي أجريت مؤخراً ترجح هذه النتيجة، ولكن هذا لم يمنع بروز بعض الانتقادات الموجهة إلى فكرة الاستفتاء. بل إن هذه الانتقادات طالت استخدام النخبة السياسية الحاكمة للاستفتاء حول أية قضية من قضايا المصير البريطاني.
تعبر هذه التحفظات ضد أسلوب الاستفتاء عن نظرة البريطانيين عموماً إلى النظام الديمقراطي البرلماني. فالديمقراطية البرلمانية تعني أن السيادة هي للبرلمان، وأنه هو المرجع الأول والأخير لأي شأن وطني عام، ولأية قضية أساسية تهم البريطانيين وتؤثر على مصير بلدهم. والبريطانيون، يعتقدون بحكم الثقافة السياسية الراسخة في بريطانيا أن المجلس المنتخب يملك أرقى الوسائل والآليات الديمقراطية والشرعية والأهلية الكاملتين للنظر في قضية العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، مثلما هو قادر على النظر في اية قضية أخرى تمس المصير البريطاني.
ورغم الاطمئنان الكامل إلى التزام الحكومة البريطانية الحالية بالمعايير الديمقراطية، إلا أن ناقدي لجوء الحكومة الحالية إلى الاستفتاء يعللون تحفظهم عبر التذكير بأن هذا الأسلوب لا ينسجم مع التقاليد السياسية البريطانية، وبأنه ارتبط بممارسات «الحكام المستبدين والغوغائيين» كما وصفه زعيم حزب العمال في الأربعينات، كلمنت اتلي، وكما وصفته زعيمة المحافظين في الثمانينات، مارغريت تاتشر.
وفي إطار العلاقات بين دول القارة الأوروبية والدول العربية. فالاستفتاءات والاستطلاعات العامة التي تنفذ في أوروبا اليوم تدور حول قضايا ذات صلة وثيقة بمستقبل العلاقات بين العرب والأوروبيين. تدخل في هذا السياق قضايا المهاجرين والإرهاب وإنتاج وتسويق النفط. وهذا الواقع يسمح لبعض الحكومات الأوروبية التي تقف موقفاً سلبياً من العرب بأن تنظم الاستفتاءات على نحو يحمل العرب بصورة حصرية مسؤولية كل التعقيدات التي تمر بها العلاقات الأورو عربية. فالحكومة المجرية التي يقودها اليمين المتطرف صاغت السؤال الموجه إلى المواطنين في الاستفتاء الذي تجريه حول مسألة الهجرة على النحو التالي: «هل تقبل بأن يكون للاتحاد الأوروبي سلطة توطين الأجانب في المجر بصورة قسرية ومن دون موافقة البرلمان المجري على هذا الإجراء؟».

إن طرح السؤال على هذا النحو ينطوي على تحريض مزدوج: واحد ضد الاتحاد الأوروبي وآخر ضد العرب الذين يشكلون أغلب المهاجرين الذين يطرقون البوابة الأوروبية ويسعون إلى دخولها عبر البوابات الشرعية.

في كافة الحالات، وسواء التزمت الحكومات الأوروبية التزاماً كاملاً بآليات الديمقراطية التمثيلية أو استخدمت الاستفتاءات للوقوف على نظرة الرأي العام تجاه قضايا لها صلة مباشرة بالعلاقات العربية الأوروبية، فإنما مصلحة العرب تبقى إلى جانب مبادئ الشرعية الدولية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فالعرب ما لبثوا يدفعون الثمن كلما حادت دولة عظمى أو كبرى عن هذا الطريق.
.. هي مخاوف لا يقلل من أهميتها المحاولات التي تقوم بها أوساط متعاطفة ومستفيدة من صعود اليمين المتطرف لإضفاء طابع «ديمقراطي» على أحزابها وجماعاتها المنظمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2181449

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2181449 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40