الجمعة 13 أيار (مايو) 2016

في منهج تقويم الأخطاء

أسلوبان أو منهجان في التحريض والتعبئة
الجمعة 13 أيار (مايو) 2016 par منير شفيق

تمثلت واحدة من المعضلات أو الآفات في الحركات السياسية، وبغض النظر عن مرجعيتها، أو هويتها (سواء كانت يسارية أم قومية أم إسلامية أم ليبرالية أم وطنية أم ديمقراطية) في عملية تقويم التجربة السابقة، خصوصا بعد ارتكابها أخطاء كبيرة أو مواجهة نكسات وهزائم، أو المعاناة من ركود وجمود ودوران حول الذات، أو نضوب تدفق الدماء الشابة الجديدة إلى صفوف الحزب أو الحركة أو التنظيم.

صحيح أن ارتكاب الأخطاء مسألة لازمة لكل من يعمل فالذي “لا يخطئ أبدا هو الذي لا يعمل أبدا”.

فكل حزب أو حركة أو تنظيم، أو فرد (أكان قائدا أم كادرا) لا بد من أن يخطئ بهذا القدر أو ذاك سواء كان في السياسة وتقدير الموقف أم كان في العمل واختيار الدفاع أو الهجوم. ولكن ما لا يجوز التهاون معه واعتباره مسألة عادية طبيعية، فهو ارتكاب الأخطاء الكبيرة والفادحة، والتي قد يتوقف عليها مصير البلاد لسنوات أو عشرات الأعوام.

من هنا وجب التفريق بين الأخطاء الصغيرة ومحدودة الأثر، والأخطاء الكبيرة والبعيدة الأثر (السلبي طبعا). وإذا كان تقويم أسباب الأخطاء الكبيرة والمحاسبة عليها هو الأهم، فإن ارتكاب الأخطاء الصغيرة، خصوصا إذا تكرر، يجب أن يُعطى الأهمية المناسِبة في حينه، ومع أول تكرار له. لأنه قد يتحوّل إلى خطأ كبير إذا ما طغى، وأصبح سمة عامة، أو قد يمهّد لخطأ كبير.

لعل الأمثلة الأبرز للأخطاء الصغيرة، دون الفادحة، تجدها في التهاون مع بعض الانحرافات المسلكية، أو الأخلاقية، أو الإفراط أو التفريط، أو التطرّف “يمينا” أو “يسارا”، أو المبالغة في الاستهلاك والرفاه، والتملق، والنفاق على أيّ مستوى داخلي أو خارجي، أو قد تجدها في بعض المواقف السياسية الثانوية، والتي تعتبر قليلة الأهمية.

إن تقويم خطأ كبير أو أخطاء فادحة قاد، أو قادت، إلى كارثة، والانتقال إلى مرحلة جديدة يمكن أن يُواجَه من عدّة زوايا. ففي بعض الحالات تنشأ تيارات تستند إلى تحميل المسؤولية بهدف تغيير القيادة، وكثيرا ما يقود ذلك إلى انشقاقات. أما في بعض الحالات الأخرى، فتقوم القيادة نفسها بإجراء التقويم والنقد سواء كان ذلك بنيّة صادقة وجديّة، أم لاستيعاب الانشقاق، أو الانقلاب عليها، فيبدو بأن أخذ الدرس الضروري قد تحقق لبدء انطلاقة جديدة.

وهنالك تعتبر أن الخطأ الفادح أو الأخطاء الكبيرة لم تكن هي السبب في ما وقع من كارثة، وإنما التآمر المُعَّد في الخفاء، أو أن ثمة قرارا متخذا من العدّو والخصم. وكان سيُنّفذ في كل الأحوال سواء أوقع الخطأ، أم لم يقع. وهذه الحالة شائعة وعندها حجّة قوّية لأن العدّو أو الخصم كان يعدّ للغزو أو للانقلاب، أو التمرّد في كل الأحوال. وما ينبغي لأحد أن يعزو فعله إلى ردّ الفعل بسبب ما ارتُكِبَ من أخطاء. فهو في كل الأحوال قد صمّم على الغزو، أو الانقلاب، أو التمرّد. ولكن الإشكال هنا، وبالرغم من قوّة حجّته لم يَلحظ أن ارتكاب الخطأ أو الأخطاء وَضَعَ الحَبّ في طاحونته، وسَهّل عليه مهمته، ولم يسمح بالتخفيف مما وقع، إن لم يكن إفشاله حين يُواجَه بخط سياسي صحيح وممارَسَة صحيحة، وقدرة على استباق خطوة العدو أو الخصم بخطوة في الأقل.

البعض قد يَستخدم الضغط للكشف عما ارتُكِبَ من أخطاء، والاعتراف بها من أجل الإحراج وعدم التعاون أو أحيانا من أجل التفجير وعدم مُواجَهة ما هو مطلوب عَمَلَهُ لاحقاً ناهيك عن تصفية الحساب.

يُفهَم في العادة أن تقويم الخطأ يقوم على أساس الإقرار بأن سياسة أو إدارة ما للصراع هي الخطأ الذي ارتُكِبَ. ولكن السؤال إلى أي حد يمكن اعتبار ذلك مهما بالنسبة إلى التعلّم منه وعدم تكراره مستقبلا؟ الجواب لن يكون لذلك أهمية عملية مستقبلا لأن ما كان سائدا من موازين قوى وظروف ومعادلات انتهى ولن يتكرّر بالنِسَب والتفاصيل نفسها مستقبلا. ومن ثم المطلوب سياسة وإدارة للصراع من نوع آخر تماما.

لهذا فإن التقويم يجب أن يتجه إلى أبعد من القول أن السياسة التي انتُهِجَت أو المُمارَسة التي اتُبِّعت كانت خاطئة، وإنما أن يتجّه إلى مناقشة المنهج الذي اتبع في تقدير الموقف وتحديد السياسات والممارسات. فالبحث هنا في المناهج كما الأسباب التي كانت وراء ارتكاب الأخطاء هما اللتان يمكن أن يُفاد منهما في معادلة موازين أخرى وظروف أخرى.

إن السياسة والممارسة حين تصيبان أو تخطئان تقوم على أساس مدى صحة أو خطأ تقدير الموقف، وليس على مدى صحة الموقف أو عدمه. فلكل من الأمرِيْن هنا تقدير الموقف والموقف (الأساسي والعام) مستواه الذي يختلف عن الآخر. فالموقف الأساسي العام يعتمد على الانحياز والهدف والانتماء. أما تقدير الموقف فله منهجه في حساب موازين القوى وتقدير وضع كل حالة وتفصيل، كما ملاحظة الاتجاه العام للأحداث. فالأول تحدّده لمرة واحدة، وتحدد فيه موقفك الأساسي وانتماءك والأهداف. أما الثاني فهو السياسة والممارسة وإدارة الصراع وفقا له. وهنا تأتي أهمية مناقشة قضايا المنهج الذي قاد إلى تقدير موقف خاطئ فسياسات وممارسات خاطئة. ومن هنا يجب ألاّ يُكتفى بالقول إن السياسة الفلانية كانت خاطئة والممارسة الفلانية قادت إلى فشل ومن ثم يصبح التقويم السليم هو الذي يذهب إلى البحث عن المنهج الذي قاد إلى تقدير خاطئ للموقف. وهذا التقدير هو الذي قاد إلى السياسة والممارسة الخاطئتين. ومن ثم وَجَبَ البحث في المنهج والأسباب.

وبهذا لا يكون التقويم بكاء على اللبن المسكوب ولا تصفية لحسابات وإنما لامتلاك قدرة أكبر لمواجهة مشكلات الحاضر والمستقبل.

تبقى نقطة لازمة لما تقدم وهي ارتباط تقدير الموقف وما ينجم عنه من سياسة وممارسة باتخاذ النتائج والعواقب معياراً لا يُخطئ. فالنتائج والعواقب هما، في نهاية المطاف، الحَكَم على مدى صحّة سياسة ما وعدمها.

فالسياسة والمُمَارَسَة في الإسلام يُحْكَم عليهما بالنتائج فإذا كانت النتائج، بعد حسن التدبير وصحة تقدير الموقف، نصراً أو إيجابية فهي من الله. أما إذا كانت كارثة أو فشلاً أو سلبية فمن أنفسِكم.

- أسلوبان أو منهجان في التحريض والتعبئة

الأسلوب، أو المنهج الأول تمثل في المبالغة والتهويل في وصف المؤامرات والمخططات التي تُعَدّ ضدّ الأمّة العربية عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، حتى تحسب أنك أمام خطر داهم لا سبيل إلى مواجهته إلاّ بالصمود والتضحية دون أمل في انتصار.
من يراجِع أغلب البيانات التي كانت تصدر من فصائل المقاومة في الساحة الفلسطينية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى اليوم سيجدها تعجّ بتلك المبالغة وذلك التهويل. الأمر الذي يوجب أن تتشاءم وتقطّب الجبين.
أما الأسلوب، أو المنهج الثاني فقد تمثل في أن يُقدّم تحليل للأوضاع يُبرز نقاط ضعف لدى مدبّري تلك المؤامرات والمخططات مما يسمح بمواجهة منتصرة عليهم. أو في الأقل عرقلتهم إلى حدّ ملحوظ. ومن ثم أصبح من الشاذ أن تكون متفائلاً لا ترى الوضع سواداً في سوادٍ في سواد، كما يفعل الأسلوب أو المنهج الأول.
فالسوداوية في قراءة الصورة كان يغلب على الكثيرين، تحت حجّة الواقعية، وعدم خداع النفس وتغليب الأمانيّ. والغريب أنهم كانوا كفصائل يتقدمون ويشتد ساعدهم. وكانت المؤامرات تفشل أو تدخل مآزقها، ومع ذلك تظل السوداوية هي السمة الملازمة لتحليلاتهم حول الأوضاع كما بياناتهم وخطاباتهم.
طبعاً لم يسبق أن مرّ وضع لا يحمل مخاطر ومآزق ولا يُواجِه مؤامرات. ومن ثم كان دائماً ثمة وقائع تدعم السوداوية وتقود إلى التشاؤم. ولكن المشكلة كانت في التهويل والمبالغة من جهة وكانت في عدم البحث عن الشقوق والثغرات في جبهة العدّو أو الخصم. مما يؤدي إلى درجة من التفاؤل من خلال تحليل يسمح بإمكان الانتصار ولو جزئياً.
وجاء عهد محمود عباس الذي تبنّى استراتيجية المفاوضات وقمع المقاومة ومناهضة الانتفاضة، ليضيف المزيد من عوامل تشجيع قراءة الأحداث بأسلوب ومنهج إبراز قوّة المؤامرات والمخططات كما إبراز المخاطر الداهمة وتغليب القراءة التي يغلب عليها التشاؤم العام بالنسبة إلى الانتفاضة والموقف منها ناهيك عن قراءة الوضعين العربي والفلسطيني.
على أن متغيّرات هامّة وأساسية حدثت على مستوى موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية يفترض بها إدخال تعديلات جوهرية وأساسية على كلٍ من ذيْنك الأسلوب أو المنهج في قراءة الأوضاع والسياسات واتجاهات الأحداث.
وإذا لم تُلحظ هذه المتغيّرات عند التعاطي مع انتفاضة القدس وكيفية تقدير الموقف ومن ثم التحريض والتبعئة في تناولها فسوف يصبح الخلل أكبر حين يستمر استخدام الأسلوب أو المنهج الأول السابق في قراءة موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية، كما في تقدير وضع الكيان الصهيوني الراهن. أما السبب فيرجع إلى الفارق بين أن نتعامل مع الانتفاضة بأنها في حالة الهجوم على العدّو وتستهدف إنزال هزيمة به من جهة أو التعامل معها من جهة أخرى باعتبارها في حالة الدفاع وتُواجِه مؤامرة لسحقها وتصفية القضية الفلسطينية.
لقد جرت الإشارة إلى أن أغلب فصائل المقاومة الفلسطينية مالت منذ النشأة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى اتفاق أوسلو وما بعده وحتى اليوم، إلى التعامل مع الوضع الفلسطيني بأنه يواجه مؤامرة لسحق ثورته ومقاومته وتصفية قضيته. ومن ثم ما علينا إلاّ أن نكون في مواقع الصمود والدفاع أو في مواقع تقديم التنازلات والتخاذل. الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة الخطأ في السياسة والممارسة إذا كانت موازين القوى وتقدير الموقف يسمحان للانتفاضة بأن تكون في حالة هجوم، ويجب أن تُعامَل بروح هجومية تضع نصب عينيها الانتصار.
إن الأسلوب أو المنهج في قراءة الأوضاع حين يتجه إلى المبالغة بسوء الأوضاع، وبالمخاطر التي تواجه النضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية وإشاعة حالة من اليأس سواء أقُصدَ ذلك أم لم يُقصد، لأن المقدّمات تحتم نتائجها، ولو لم يقصد مقدمها أن يُعمّم اليأس والقنوط أي النتائج المترتبّة عنها.
هذا الأسلوب والمنهج كان خاطئاً حين لم يبحث عن الشقوق التي يمكن أن ينْفَذَ منها، أو نقاط الضعف التي تتضمنها المؤامرة. وهو في حالة الدفاع والعدّو في حالة الهجوم. لأنه لم يساعد على الصمود والإفلات حين لم يُبّقّ أمام المُدافِع غير مجرّد الصمود والحفاظ على المبدأ من دون إبقاء كوّة أمل بإمكان عرقلة المؤامرة والإفلات ولو المؤقت منها من أجل جولة جديدة في ظروف جديدة. بل ساعد على المضيّ بطريق التنازلات والمفاوضات.
يجب أن نعي أن هذا الأسلوب أو المنهج ولنصطلح على تسميته الأسلوب أو المنهج الذي يُسّوِّد الأوضاع، أو الصورة، يؤدّي، ولو لم يقصد، إلى التشاؤم ولا تنفع دعوته إلى الصمود والمواجهة. لأن نتائج مقدّماته تؤدي إلى تثبيط الهمم هروباً من المواجهة أو تقديماً للتنازلات.
هذا الأسلوب أو المنهج راح يتعاطى مع انتفاضة القدس باعتبارها مؤامرة لسحق وتصفية القضية فيما الانتفاضة انطلقت للهجوم على قرار تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى ثم انتقلت بعد إحباطه إلى الهجوم على الاحتلال والإستيطان وهو ما يفعله شبابها وشاباتها وذووهم من أمهات وآباء، كما الألوف المشاركة في الجنازات منذ سبعة أشهر. وقد راحوا يتحدّون الإعدامات في الشوارع ويضربون عرض الحائط بكل الداعين إلى وقف الانتفاضة أو المتردّدين، أو المنسقين مع العدّو ضدّها.
فالمطلوب اليوم على ضوء متغيّرات موازين القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني وعلى ضوء انتقال انتفاضة القدس أن يختلف الأسلوب أو المنهج الذي نتعاطى به معها عن الأسلوب أو المنهج السابقيْن. وذلك بالتشديد على نقاط الضعف التي يتسّم بها وضع نتنياهو وهو المعزول دولياً. وجيشه المهزوم في أربع حروب، فضلاً عن نقاط ضعف أخرى. كما قراءة ضعف موقف محمود عباس وفشل سياساته. مما سيعيد بناء المعادلة الفلسطينية في مصلحة الانتفاضة.
فالانتفاضة أصبحت القاطرة التي يجب أن تقود إلى الوحدة الوطنية من خلال الانخراط فيها وصولاً إلى تعزيزها بتحرّكات شعبية واسعة تتحوّل إلى عصيان مدني سلمي لا يتراجع قبل أن يدْحَر الاحتلال وتفكك المستوطنات من القدس والضفة الغربية ويطلق كل الأسرى ويفك الحصار عن قطاع غزة. وبلا قيدٍ أو شرط. وهو ما يجب اعتباره المشروع الوطني الذي يمكن أن يوحّد كل القوى تحت أهدافه وفي ظل استراتيجية الانتفاضة التي انطلقت منذ سبعة أشهر.
ومن ثم لا يجوز أن يختلف أحد الآن حول ماذا يجب أن يكون بعد دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة من خلال استراتيجية انتفاضة القدس. فبعد ذلك لكل حادث حديث. وإذا كان لا بدّ من الاختلاف حول ما يجب أن يكون. فمن جهة يُترَك للشعب ليُقرّر، ومن جهة ليكن الاختلاف لاحقاً وليس الآن.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 112 / 2177637

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2177637 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40