قبل خمس سنوات، كنت في مدينة التّونسية القريبة من معبر رأس جدير الحدودي الذي كان يستقبل يوميا الآلاف من اللاجئين الفارين من جحيم المعارك وأغلبهم من جنسية مصرية وبعض الجنسيات الآسيوية، وفي مقابل ذلك كان المئات من الشباب القادمين من أوروبا يتسلّلون إلى داخل الأراضي الليبية للمساهمة في الإطاحة بنظام معمر القذافي، كان هؤلاء يحلمون بدولة حديثة وعصرية وديمقراطية على أنقاض الدّولة الشّمولية.
ولم تكن تظهر على ملامح هؤلاء الشّباب علامات التّطرف، بل إن بعضهم كان متشبّعاً بالثّقافة الغربية بسبب تواجدهم هناك لسنوات، وكان أغلبُهم من جنسية ليبية، ممن صدّقوا أنّ الأمر يتعلّق بربيع عربي يطيح بالحكومات المستبدة ويعيد الكلمة للشّعوب التي ضاقت ذرعا بالتصرّفات المتخلّفة والقمعية للأنظمة الحاكمة، فما الذي حدث حتى يتحول هؤلاء أو جزء منهم إلى التطرف و“التدعّش” ويعودون بعد خمس سنوات إلى بن قردان لمحاولة السّيطرة عليها وإعلانها إمارة داعشية، وهو المخطط الذي أحبطته قوات الأمن التونسية وأعادت السيطرة على هذه البلدة الصغيرة؟
كان الهدف المعلن للربيع العربي هو الإطاحة بالحكّام، فكانت النتيجة هي الإطاحة بالدّول والشّعوب، والدّليل ما نشاهده في سوريا واليمن والعراق وليبيا ومصر... وما يؤسف له أن النخبة في هذه الدول باركت وتحمّست حتّى للتّدخل الأجنبي، وهو بالذات ما حدث في ليبيا خلال الأيام الأولى من الثورة.
لا أحد الآن يشكّ في أن أوضاع العرب قبل سنة 2011 كانت أفضل، وأنّ ما يسمى بـ“الربيع العربي” كان فعلا مؤامرة للإطاحة بالدول تحت مبرر برّاق وهو الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية، كانت تلك هي القوة الناعمة التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في لقاء مع الكونغرس في أكتوبر 2010، حين تحدثت عن تحقيق الديمقراطية عن طريق العمل مع منظمات المجتمع المدني “leading through civilian power” وكلنا تابع فيما بعد الدّور الريادي الذي مارسته منظماتُ المجتمع المدني بتأطير مباشر من قوى غربية.
والآن بات “الدّواعش” هم الطّلائع الأولى من خلال انقيادهم التّلقائي للمخطّط الذي وُضع لهم بإغراق المنطقة العربية في الفوضى تمهيدا لتقسيمها بالطريقة التي تخدم مصالح الغرب، مما يعني أنّ الأيام المقبلة ليست بردا وسلاما على بلدان المغرب العربي بعد أن صارت ليبيا قاعدة خلفية للدّواعش يطلقون منها هجماتهم على دول الجوار... اليوم تونس وغدا الجزائر، والمأساة مستمرّة...