الجمعة 11 آذار (مارس) 2016

حول استقلال القرار وحول الاتهام بالإرهاب

الجمعة 11 آذار (مارس) 2016 par منير شفيق

عدد من الذين قرؤوا المقالة المعنونة “قراءات حول السياسات الأمريكية”، اعترضوا على عدم اعتبار عدد من سياسات دول معروفة بعلاقاتها الاستراتيجية بأمريكا مثل تركيا والسعودية ومصر وعدد كبير من الدول، نابعة من، تابعة لـِ، السياسات الأمريكية. وذلك كما كان حالها في مرحلة الحرب الباردة، وما بعدها نسبياً. وقد اعتبروا استخدام عبارة “مستقلة” عن السياسات الأمريكية، أو وصفها بالمستقلة، شهادة في مصلحتها، كما كان الحال، في مرحلة الحرب الباردة. ففي مرحلة الحرب الباردة كانت تعتبر سياسة دولة ما، أو حكومة ما، سياسة مستقلة عن أمريكا أو توصف بالمستقلة شهادة بالغة الأهمية في مصلحتها.

المشكلة هنا في الفرق، أو الفارق، الكبير بين مرحلتين تاريخيتين. وقد اتسّمت كل منهما بموازين قوى مختلفة. الأمر الذي يقرّر أهمية وصف سياسات ما لدولة أوروبية أو من العالم الثالث باعتبارها مستقلة عن أمريكا، أو مستقلة عموماً. ويكون ذلك مدحاً أم مجرد وصف وتحليل وضع.

في مرحلة الحرب الباردة كان تبنّي دولة من دول العالم الثالث أو حتى دولة أوروبية، مثل فرنسا مثلاً، سياسة مستقلة عن أمريكا، موقفاً جريئاً، أو جليلاً، أو عظيماً، يستحق صاحبه الإطراء حين يوصف بالمستقل عن أمريكا. لأن الهيمنة الأمريكية في تلك المرحلة كانت تدخل “حرباً” تطيح بالأنظمة والرؤوس التي تذهب إلى الاستقلال عن التبعية لها. أما الأمثلة فكثيرة. وكثيرة جداً في هذا الصدد.

ومن هنا كان وصف سياسة معيّنة بالمستقلة، أو غير التابعة، أو إذا خرجت إلى هامش من الاستقلالية في مرحلة الحرب الباردة يحمل معاني إيجابية (تحررية أو ثورية). وهو ما لم يعد يحمله في هذه المرحلة التاريخية التي يعيشها العالم اليوم. لذلك يكون الذين اعترضوا على ما جاء في تلك المقالة قد خلطوا بين مفاهيم مرحلتين تاريخيتين وذلك حين رفضوا وصف مستقلة للسياسة التركية حين أسقطت الطائرة الروسية، أو للسياسة السعودية حين شنت هجومها بالطيران على اليمن أو للسياسة المصرية حين ذهبت إلى محاصرة غزة، أو وقفت إلى جانب نتنياهو في حربه على قطاع غزة 2014، على سبيل المثال أيضاً. فالوصف بالمستقلة أو غير النابعة من قرار أمريكي لا يحمل مديحاً أو تأييداً، وإنما هو تقدير موقف لعلاقات دولية في هذه المرحلة. بل قد يحمل من السلبية أكثر مما لو كان تابعاً لقرار أمريكي.

بكلمة أخرى، يستهدف التحليل لمختلف القراءات حول السياسات الأمريكية في هذه المرحلة التاريخية إلى التقدّم بفهم جديد لسياسات الدول وعلاقاتها ببعضها البعض. فلا يعود الارتباط بالسياسات الأمريكية أو عدمه معياراً أو المعيار في فهم السياسة، أو تحديد المواقف. وذلك على غير ما كان الحال عليه في مرحلة الحرب الباردة، أو في الأدق في المرحلة التي كانت أمريكا فيها في موقع القوّة والسطوة على حلفائها، أو التابعين لها، وكان الخروج على إرادتها يكلف صاحبه حصاراً، أو انقلاباً عسكرياً، أو عدواناً. وكانت أمريكا متحكمة إلى حد بعيد في النظام الدولي كما في عدد من الأنظمة الإقليمية، ولا سيما النظام الإقليمي العربي- الإسلامي المسمّى زوراً بالشرق الأوسط.

ولكي نتأكد من صحة الموضوعة التي تفرق بين علاقة أمريكا بأتباعها أو بالدول الأخرى في المرحلة السابقة من جهة وما يقوم الآن من علاقات دولية من جهة أخرى، يكفي أن نقارن ردود الفعل الأمريكية عندما عقد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر صفقة الأسلحة التشيكية، بردود فعلها إزاء صفقات الأسلحة التي يعقدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع روسيا والصين وفرنسا.

هنا يظهر بوضوح الفارق الذي يُراد الوصول إليه في فهم وصف سياسة مستقلة أو سياسة غير نابعة من سياسة أمريكية بين مرحلتين. ففي المرحلة السابقة كانت السياسة المستقلة تعني حرباً من جانب أمريكا عليها فيما لم يعد الأمر كذلك الآن إذ أصبحت السياسة المستقلة للدول عموماً سمة عامّة، لا تحمل صفة التحرّر أو الثورية، ولا تقود إلى “حرب” مع أمريكا أو من قِبَل أمريكا بل تستمر العلاقات إيجابية بينها وبين أمريكا. ولهذا لا يجب أن يُنظر إليها أو فهمها وفقاً للمقاييس السابقة.

ومن ثم فإن وصفها بالاستقلالية عن أمريكا هو فقط للتخلص من المفاهيم التقليدية للعلاقات الدولية، والتي كانت سائدة في السابق من جهة كما من أجل فهم أكثر مطابقة للواقع بالنسبة إلى العلاقات الدولية الجارية في المرحلة الراهنة، من جهة أخرى. أما تفسير ذلك فيرجع إلى التغيّر في موازين القوى، وفي مقدّمته، فقدان أمريكا إلى حد بعيد، أو ملحوظ، لموقع السيطرة على النظام الدولي والأنظمة الإقليمية، وكذلك فقدانها موقعها السابق في السيطرة على حلفائها والدول التابعة لها. كما فقدانها القدرة على حمايتهم. فالمطلوب أن يختلف تعاملنا اليوم مع مواقف الدول، لا سيما التي كانت محسوبة على أمريكا أو داخلة في إطار التبعية لها أو لأحلافها عما كان عليه. فنقوّمها إيجاباً أو سلباً باعتبارها سياسات مسؤولة عنها تلك الدول. وهو ما قد يكون مُداناً أو موصوفاً بالعدوانية أو بالإجرام أو بالحماقة أو حتى بالسرطانية. وهذا يكفي لمعارضته ومحاربته دون حاجة إلى أن يتهم بأنه سياسة أمريكية حتى تسوّغ معارضته أو مقاومته أو قتاله، أو إدانته.

على أن فهم السياسات والعلاقات الدولية على ضوء ما هو قائم واقعياً لا يهدف إلى الدقة، والأمانة، والصحة في تقدير الموقف فحسب، وإنما يهدف إلى إدارة الصراع إدارة صحيحة ضدّه أيضاً. وهو طريق النجاح المشروط بدقة تقدير الموقف.

إن معارضة سياسة معيّنة باعتبارها سياسة تابعة لأمريكا أو وصفها بالأمريكية في حين لا تكون كذلك فسوف تذهب المعارضة لتضرب في نقطة غير النقطة التي يجب أن تضربها وستواجه مأزقاً إذا تأكد خلاف بينها وبين السياسة الأمريكية. فأنت حين تهجم على خصم بتهمة ليست فيه حقيقة تكون قد هاجمت شخصاً آخر. وتركت التهمة الحقيقية التي هي مقتلة. فتحرّي الدقة هنا هو شرط المنهج الصحيح والناجح في إدارة الصراع. فالقاضي الذي يحكم على قاتل باعتباره جاسوساً مثلاً يخطئ مرتين. الأولى بعدم محاكمته كقاتل والثانية بمحاكمته باعتباره جاسوساً وهو في الحقيقة ليس كذلك، ولو نفذ فيه حكم القتل الذي يستحقه بوصفه قاتلاً عن سبق الإصرار والعمد.
من هنا تأتي عظمة الآية القرآنية وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة)

- حول الاتهام بالإرهاب

عندما تُرِكَ الإرهاب بلا تعريف ولا تحديد، تُرِكَ المجال لاستخدامه على حالات متناقضة، وبلا إقامة الحجّة إن كان في مكانه.
كان ذلك مقصوداً أولاً من جانب أمريكا التي جعلت منه أخطر تهمة يمكن أن تُتهَّم به مجموعة، أو فرد، أو حتى دولة. ثم سار على منوالها ثانياً كل من يريد أن يتهّم خصماً، أو مُخالفاً أو عدوّاً باعتباره إرهابياً ما دامت كلمة إرهاب واسعة إلى حدّ يمكن أن تشمل قوى المقاومة ذات الشرعية حتى وفقاً للقانون الدولي. ويمكن أن تفلت منها قوى مثل دولة الكيان الصهيوني والحركات الصهيونية التي تمارس الإغتيال. ولو أدّى ذلك إلى أن تصبح القوى التي تنطبق عليها تهمة الإرهاب معوّمة ما دامت التهمة موجهّة إليها وإلى غيرها من خصومها الأعداء.
فأمريكا تركت كلمة إرهاب بلا تعريف لكي تفلت أعمال كثيرة تقوم بها من التهمة، مثلاً الاغتيال بطائرة بلا طيّار، وبلا محاكمة، وبلا قانون، وبلا دليل قاطع مانع، أو ما تمارسه أجهزة المخابرات من اختطاف مطلوبين، أو اغتيال أو قتل المدنيين من خلال قصف من الطائرات.
وأمريكا تركت كلمة إرهاب بلا تعريف لتفلتَ منها حكومات الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية وتنظيماته الإرهابية الخارجية.
وأمريكا اتهمّت بالإرهاب عدد من حركات التحرير والمقاومات والدول الإشتراكية أو المُعارِضة لها.
بكلمة ثمة إزدواجية معايير صارخة طبّقت فيها أمريكا تهمة الإرهاب أو رفعتها.
ولأن أمريكا وتَتْبَعها الحكومات الغربية وعدد من حكومات العالم ورجال الإعلام أرادوا متعمدين أن يبقوا كلمة إرهاب دون تعريف جامع مانع ثم استخدموها بازدواجية صارخة أصبح من السهل أن يَرمي بها أي نظام مستبد أو فاسد خصومه ومعارضيه ويطالب دول العالم باعتماد من اتهمّهم بالإرهاب بأنهم إرهابيون.
لذلك منذ البداية يجب التوقف عن استخدام هذه الكلمة إلاً إذا تم الاتفاق على تعريف جامع مانع لها. أما أن تبقى كما هي الآن فثمة مشكلة كبيرة أشبه بمباراة ملاكمة في الظلام، حيث تمرّر كل الضربات الممنوعة وغير الشرعية.
فعندما يَتهّم الكيان الصهيوني وأمريكا المقاومة الفلسطينية بالإرهاب وهي مقاومة ضد احتلال، وثمة قرارات دولية من الجمعية العامة لهيئة اتلأمم المتحدة فضلاً عن القانون الدولي يقرّان بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بما في ذلك المقاومة المسلحة، فبناء على أي معيار يقوم ذلك الاتهام. المعيار هنا، رغبوي إرادوي ويتم بتجنٍّ سافر وظلم ظاهر. وكذلك يفعلون مع مقاومة حزب الله التي خاضت مقاومة طويلة ضد الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان وواجهت عدواناً صهيونياً عسكرياً عام 2006. وما زالت مقاومة مستمرة في مواجهة أي عدوان صهيوني متوقع في أيّة لحظة ضدّ لبنان. وقد أصبح الكيان الصهيوني يبدي قلقه كل يوم من تسلّح حزب الله في وجهه.
إن عدم تعريف الإرهاب سمح لهم باستخدام هذه التهمة كأنها حقيقة مسلماً بها. وبهذا أبقوا استخدام تهمة الارهاب في يد من يريد استخدامها وفي يد أمريكا والكيان الصهيوني خصوصاً، وبلا تعريف محدّد.
من هنا يعجب المرء كيف تقبل الجامعة العربية أن يجتمع وزراء داخلية دولها ليأخذوا بمبادرة من السعودية قراراً باعتبار حزب الله حزباً إرهابياً وكذلك فعلت دول الخليج مجتمعة في الوقت الذي لا يملكون تعريفاً للإرهاب، ولا يستطيعون إن امتلكوا أن يطبّقوه على حزب الله أو أيّة مقاومة أخرى يأتيها الدور.
أين تعريف الإرهاب ومن هو الإرهابي وغير الإرهابي لدى دول الجامعة العربية (ودول الخليج من ضمنها) وكذلك لدى أمانتها؟ صحيح أن القرار لم يؤخذ بالإجماع وهو دليل على عدم وجود مثل ذلك التعريف أصلاً، ولكن مع ذلك ليس للقرار مرجعية في تعريف الإرهاب.
أما إذا كان الأمر متروكاً لكل طرف وما يرغب وما يهوى، ومتروكاً، من ثم، لمن يؤيّده ويرفضه، فمعنى ذلك الدخول في الفتنة والفوضى والملاكمة في ظلام دامس.
ولهذا جاءت ردود الفعل ضدّ القرار من قِبَل أغلبية ساحقة من الهيئات والأحزاب والمؤتمرات والنخب. وكان موقف الذين حاولوا الدفاع عنه مضحكاً من ناحية ربط ما جاؤوا به من أسباب تسوّغه. فإذا كانت حجتهم هي تدخل حزب الله في اليمن أو سورية أو العراق أو سياساته الداخلية في لبنان، وبغض النظر عن الموقف نفسه، يُعتبر إرهاباً فيعني ذلك أن كل من يمارس التدخل انطبقت عليه تهمة الإرهاب. فالتهمة هنا بالإرهاب باطلة.
بكلمة وباختصار نحن هنا أمام تجنٍّ وظلم وعدم احترام للعقل والنفس وانتقال بالصراعات والخلافات إلى ميادين الفتنة.
طبعاً هذا لا يعني ألاّ تُخالِف أو تُصارِع أو تُواجِه. ولكنه يعني ألاّ تلقي التهم الخطيرة والمؤدّية للاقتتال والفتنة جزافاً. فعلى الجامعة العربية، بدورها، أن تلتزم ميثاقها وتلعب دول مُطفِئة نيران لا دور من يصبّ الزيت على النيران.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2165320

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2165320 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010