الجمعة 26 شباط (فبراير) 2016

عندما تكون الأغاني ممكنة!

الجمعة 26 شباط (فبراير) 2016 par د.احمد جميل عزم

أنهيتُ قبل أعوام إعداد دراسة تقارن كيف قام الروائيون بنقل بعض محطات التاريخ الفلسطيني الحديث؛ قارنت بين ما ذكره من أرخوا وكتبوا ما حدث، بما في ذلك الصحفيون، مع ما خطه الروائيون. ووجدت نتيجة استغربتها، هي أنّ الأدباء، وتحديداً الروائيين، عندما يحولون الحدث إلى رواية، فإنّهم يقللون من حدة الأحداث ويلطفونها قليلا، ليصدقها العقل. فمثلا، في الإعلام أنّ الفلسطينيين أكلوا في مخيمات لبنان منتصف الثمانينيات لحم الكلاب والقطط أو كادوا، وفي الرواية أنهم أعلنوا ذلك نوعاً من الضغط.
كنت على قناعة أنّ الشعر والأغاني هي التي بقيت تبالغ في توصيف الواقع، وأنّ هذا جزء من طبيعة الشعر والغناء. لكن هذا الأسبوع، واجهت واقعاً كأنّ الأغاني تتحقق فيه. ربما غنى محمد منير أغنيته “لسا الأغاني ممكنة” في فيلم “المصير” الذي تناول حياة “ابن رشد”، ليدلل أنّه بقي في الروح ما يسمح بالغناء والبهجة. إلا أنني شعرت بالخوف أن تصبح الأغاني ممكنة فعلاً، بأن يفعل الناس ما جاء فيها حقاً.
أول ما أراه يتحقق، محمد القيق وهو يجوع. وهل حقاً مصادفة أن يكون معتقله في المستشفى قريبا من الناصرة، مدينة الشاعر توفيق زيّاد، الذي كتب وغُنيت قصيدته “سنجوع ونعرى، قطعا نتقطع، ونسف ترابك يا أرضا تتوجع، ونموت ولكن لن يسقط من أيدينا علم الأحرار المشرع”؟ هل بالغ زيّاد قبل عشرات السنين أم كان يصف القيق؟
دخلت هذا الأسبوع لأول مرة منطقة عين الزرقاء، شمال رام الله، حيث شقت المياه في الصخر قناة وصار المكان لوحةً مدهشة. وأثار استغرابي من الذي قام بنثر زهر اللوز على الأرض! كان الشجر يبعد عنا أمتاراً ويعلونا ونحن في الوادي، وبعد أن هبت نسمة هالني كيف يتطاير زهر اللوز ويصلنا. وأثناء المشي، كان يخبرني رفيق الرحلة كيف أوقفَ شقيقَه قبل أيامٍ أطفالاٌ يتظاهرون بأنّهم “حاجز” تفتيش. جاراهم في البداية بلعبتهم، ووافق أن يدققوا في هويته، ثم حاول نصحهم الابتعاد من الشارع، فنهروه وأمروه بالانصراف والالتفات لشأنه. وبعد أن مررنا ببلعين وهي تحيي ذكرى بدء نضالها الشعبي ضد الجدار، ذهبنا إلى دير إبزيع، القرية في الطريق إلى رام الله، ومقصدنا سيدة عمرها 78 عاماً، وهي أم “حلقة” من الأبناء المناضلين. وقادَ صديقي الحديث لتسرد علينا كيف كانت تساعد أبناءها الشباب وباقي المناضلين في الانتفاضة الأولى؛ تُهرّب لهم الأعلام وصور قادة الثورة، وتخبّئ “الشباب”، وتوصل هي وزوجها الراحل الطعام للمطاردين في التلال، وتعمل رسولاً بين الشبان والقيادة. ودخل طفل لا أظنه جاوز الخامسة، فاستدرجوه ليغني، فهالتني قصيدته عن دير إبزيع وتاريخها وموقعها من القدس، وقسماته الجدية. وإذا به الطفل نفسه الذي نصب الحاجز. وجلس يستمع لجدته وأعمامه؛ جدته بثوبها المطرز، وعصاها تدق الأرض أثناء الحديث، وجاء الغناء: “لن نركع أبداً لن نركع، ما دام فينا طفلٌ يرضع”.
هل هي غواية الكلمات؟
وأنظر للشبان يهاجمون الجنود والمستوطنين، وتخبرك أسرهم أنّهم كانوا يواظبون على زيارة قبور الشهداء، ويأتي الشعر: “يا كبرياء الجرح، لو متنا لحاربت المقابر”.
ليس مدعاة للبهجة أن يكون الوضع صعباً لدرجة تحقق الأغنية. ولعل أغنية لكاتبها راشد حسين، توضح ذلك؛ فهو يقول: “ضدَ أن يجرحَ ثوارُ بلادي سنبلهْ، ضدَ أن يحملَ طفلٌ -أي طفلٍ- قنبلة، ضدَ أن تدرسَ أُختي عضلاتِ البندقيهْ”؛ ويقول: “ضدَ أن يُصبِحَ طفلٌ بطلاً في العاشرة”. ويكمل، كما غنينا في السبعينيات “ضد ما شئتُم... ولكنْ، بعدَ إحراقِ بلادي، ورفاقي، وشبابي، كيفَ لا تُصبِحُ أشعاري بنادقْ”.
يقبع القيق في معركة الجوع. ولكن شابا ينظر لعدوه وقيادته معا، ويغني: “أنا لا أكره الناس، ولا أسطو على أحد، ولكني إذا ما جعت، آكل لحم مغتصبي، حذار حذار من جوعي ومن غضبي”.
ليس أمراً مبهجاً أن نصل في المواجهة والقسوة حد ما تخيلته الأغاني والقصائد، فالثمن باهظ. لكن الوضع السياسي وعجز الفصائل، أوصلا الناس حد فعل الغناء، وليغنوا بألم: “ليسَ بعدَ الليل إلا فجرُ مجدٍ يتَسَامى”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2165760

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165760 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010