الجمعة 29 كانون الثاني (يناير) 2016

ايزنكوت وما يعجز عن تعريفه!

الجمعة 29 كانون الثاني (يناير) 2016 par عبداللطيف مهنا

هذا الإعجاز النضالي المبهر، الذي عجز جنرال دموي مثل جادي ايزنكوف عن تعريفه، لا يتمثل فحسب في مبتكر أشكاله المستجدة وغير المتوقعة، كالسكاكين الطاعنة والدواليب الداهسة، وسائر ما يتجلى في راهن العمليات الفدائية الفردية المتواصلة وما ستتطور إليه مستقبلًا، وإنما في هذه القدرة العنيدة على الاستمرار في ظل كل هذا الحجم الهائل من منفلت البطش وجنون القمع وشهوة التقتيل.
“هذه الموجة غير متوقَّعة، وغير قابلة للاحتواء أو التعريف”. بهذه العبارة وصَّف الجنرال جادي ايزنكوت، رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني، الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الراهنة، عاكسًا بذلك، ليس رأيه أو رأي جيشه فحسب، وإنما خلاصة ما توصَّلت إليه تقييمات كافة أذرع المؤسسة الأمنية في الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين المحتلة…إنه ذاته ما لا تتجاهله، وإن هي تحاول أن تتفادى التصريح به في حومة مزايداتها الداخلية، أغلب المستويات السياسية الحاكمة أو المعارضة في هذا الكيان.
في تعريفه لها بالموجة، اعتراف ضمني بكونها ليست سوى محطة من محطات مواجهة نضالية فلسطينية متواترة للاحتلال، أي أنها إن هي لاحقة لما سبقنها فلسوف يكون لها لاحقاتها اللائي لن يتوقف تتاليهن ما بقي هذا الاحتلال، أو هذا الكيان الغاصب قائمًا.
أما أنها قد كانت بالنسبة لهم غير متوقَّعة، فما هو بالأمر غير المعروف. لقد عكس هذا أيما انعكاس تفاجؤهم وارتباكهم المشهودين بدايةً، وذعرهم البائن الذي تأتى عنه جنونهم القمعي، أو ردة فعلهم الوحشية المستمرة طيلة ما بعد اندلاعها وحتى راهننا.
وإذ يقول بأنها “غير قابلة للاحتواء”، يعترف الجنرال الصهيوني بعجز وفشل آلة قمعه المنفلتة، والتي يردفها التعاون الأمني الأوسلوي، في وأد هذه الحالة الثورية النضالية المتواصلة التي هي في شهرها الثالث، وإن هو نجح بالتعاون لا القمع حتى الآن في محاصرتها.
…في القمع والبطش ارتقى بمعهوده السابق إلى جديده المتمثل في الإعدامات الميدانية اليومية، التي تقول الإحصائيات الأخيرة إن 68% منها قد وقعت على الحواجز العسكرية، 84% منها كانت إعدامات مباشرة، و19% من ضحاياها هم من الأطفال. وفي توصيف هذه الإعدامات يقول شاهد من أهله هو جدعون ليفي، في صحيفة “هاآرتس”: “إنهم يقتلون من يحمل السكين أو حتى المقص، ومن يضع يديه في جيبه، أو يفقد السيطرة على سيارته. يقتلون بلا تمييز ـ نساء، رجالا، شبابا وشابات ـ يطلقون النار عليه وهم ما زالوا يقفون على أرجلهم، وأيضًا بعد “تحييدهم”، يطلقون النار من أجل القتل للعقاب، للتنفيس عن الغضب للانتقام”.
…هذا الفشل تجلى في بدء تخليهم عن سياسة اعتقال الشهداء، بمعنى احتجاز جثامينهم أشهرًا ورفض تسليمها لذويهم إلا بعد إقرار هؤلاء باستلامهم ودفنهم ليلًا، للحؤول دون تشييعهم جماهيريًّا، وكذا عدم فتح بيوت عزاء لهم، وكله تفاديًا لما يستتبع من مواجهات مع المحتلين، ثم اضطرارهم الآن للعودة عن هذه السياسة، أو الإفراج عن الشهداء بتسليمهم لذويهم، بعد أن رفض ذووهم استلامها وفق هذه الاشتراطات، وعجَّل من هذه العودة ثبات عدم جدواها لجهة التقليل من من تصاعد الانتفاضة، بل على العكس كان من شأنها أن أسهمت في تأجيجها.
وإذ هذه الانتفاضة عند الجنرال الصهيوني وكيانه الغاصب غير متوقعة وغير قابلة للاحتواء، فهي أيضًا عنده عصيَّة على التعريف…في عجزه هذا بحد ذاته ما يعكس رائع هذا الإعجاز النضالي الفلسطيني التليد المتمثل دائمًا، ولا سيما في المنعطفات المصيرية بالذات، في القدرة الأسطورية على ابتكار مستجد ومناسب الأشكال والسبل النضالية المتاحة والمتوائمة مع ظروف هذا الشعب المناضل المستفرد به، والتي أقل ما يقال فيها إنها الصعبة والمشوبة بقدر غير مسبوق من التعقيدات واختلال الموازين لصالح عدوه، لا سيما في مثل راهن هذه المرحلة العربية والفلسطينية الأسوأ والأردأ في تاريخ مجمل الصراع على فلسطين.
هذا الإعجاز النضالي المبهر، الذي عجز جنرال دموي مثل جادي ايزنكوف عن تعريفه، لا يتمثل فحسب في مبتكر أشكاله المستجدة وغير المتوقعة، كالسكاكين الطاعنة والدواليب الداهسة، وسائر ما يتجلى في راهن العمليات الفدائية الفردية المتواصلة وما ستتطور إليه مستقبلًا، وإنما في هذه القدرة العنيدة على الاستمرار في ظل كل هذا الحجم الهائل من منفلت البطش وجنون القمع وشهوة التقتيل، الذي يعضده موضوعيًّا، ومن أسف، بذل السلطة الأوسلوية مستطاعها في محاصرة انتفاضة شعبها، ليس بمنع محازبيها ومنتفعيها من الالتحاق بها فحسب، وإنما بمواصلة أجهزتها مطاردتها للمقاومين، وموالاتها لشائن التنسيق، أو التعاون، الأمني مع الاحتلال، أو، وموضوعيًّا أيضًا، تحالفها معه لوأدها، وأقله محاصرتها وإعاقة شموليتها…يضاف إليه، ومن أسف أيضًا، أن الفصائل التي لا تني في كيل التمجيد للانتفاضة قد اكتفت بما تكيل وركنت إلى مجرَّد الترحم على شهدائها، إما عجزًا منها، أو درءًا لكلفة الالتحاق بها. وعليه، فشلت حتى في ركوب موجتها.
…رائع الحملة الشعبية التكافلية الجامعة للتبرعات الهادفة لإعادة بناء منازل عائلات الشهداء التي يهدمها العدو، أو ما كان المفترض أنه من واجب السلطة، التي لم تجرؤ، أو كما هو المتوقع من مثلها، على الإقدام عليه، كمالم تسارع الفصائل لكي تتبناه، ولم يلتفت إليه عرب المرحلة بعد أن نسوا قضيتهم القومية وشعبها، ما هي إلا واحدة من تجليات مثل هذا الإعجاز النضالي العنيد وتجدد أشكاله الدالة على أسطورية صمود شعب مناضل ولا محدودية عطاءاته وتضحياته المنداحة إلى مستويات غير مسبوقة، بحيث يعجز واحد كالجنرال ايزنكوت عن مجرَّد تخيلها، وبالتالي لا يقوى بكل ما يتوافر له من قوة على احتوائها، ومن ثم يصعب على من هم مثله تعريفها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2165490

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبداللطيف مهنا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165490 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010