الجمعة 22 كانون الثاني (يناير) 2016

أولاد علي!

الجمعة 22 كانون الثاني (يناير) 2016 par د.احمد جميل عزم

داهمتني رغبة الكتابة عن علي أبو طوق هذا الأسبوع، مع قرب ذكرى استشهاده التاسعة والعشرين، العام 1987. لكنني لن أفعل.
أُتّهم أحياناً بأني أعيش في الماضي، وخفت أن أكرس الاتهام.
أعرف علي من أحاديث أصدقائه المقاتلين الذين عاشوا معه؛ حتى بتّ أستطيع رواية قصصه وطرائفه، وأعرف أنّه كان يعرج بسبب الإصابات، وأنّ لحيته كثّة. هل تعرفون شخصاً يعمل بلا توقف؛ ثم ولأنه “إنسان”، يجلس في اجتماع أو لقاء فينام وسط الناس حتى يصحو ويعود للعمل (للثورة)؟ إذا أردتم معرفة علي فهناك تسجيلات عنه، وعن دوره في صمود “شقيف” جنوب لبنان. عرفته من رواية “مملكة الغرباء” لإلياس خوري عنه، وعرفته من كتاب معين الطاهر الأخير، وتحديداً أنّ شباب وبنات المخيمات في لبنان حتى هذه السنة يهتفون باسمه في رحلاتهم وحفلاتهم! وصوره ورسمه في قلب المخيم. كيف لا وقد كان مسؤول طلبة الثانويات قبل ثلاثين عاما وأكثر! وكانوا يسمّونهم “أولاد علي”.
لن أكتب عنه، رغم أن كثيرين لا يعرفونه، حتى لا أكون قد هربت للثمانينيات، فيما الشباب من حولي يستشهدون وينتفضون.
ما يشدني ليس دوره الثوري فقط، بل قصص شبابه، روحه، مثابرته؛ يشدني الإنسان.
أسير كلما سنحت مناسبة هذه الأيام، خلف آباء الشهداء وأمام إخوتهم وقريباً من أمهاتهم، قد أجرؤ على مصافحة سريعة وتحية وتعزية، وأمضي. هذا الأسبوع، مثلا، كانت هناك سلسلة بشرية، ومسيرة اسمها “لكل شهيد حياة”، حملوا أسماءهم وصورهم وقصص حياتهم، على لوحات حمراء وجابوا الشوارع، وذبتُ بينهم. في الأثناء، كان طيف علي على الرصيف، يتأمل الشهداء، أليس الشباب “أولاد علي”. “فادي علون” يحب الموضة، و“أشرقت قطناني” تُعجب بحسن نصرالله وتحب بدء النهار بقراءة تشي جيفارا!
منذ أسابيع أريد الكتابة عن رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة”، ولكنني أخشى أن أكتب جالسا بجانب المدفأة والقهوة بالحليب، حتى لو كانت كلمات راعفة، كالراعفين على “نقاط التماس”.
علي يخرج من الصفحات.
في الرواية، عاد سليم إلى أوروبا. كان قد هرب للجمال والجامعة والنجاح، وترك والده نعيم الذي ولد العام 1948 وأُخرج من شمال فلسطين لاجئاً إلى جنوبها (غزة).
كان نعيم صاحب مطبعة تعجّ جدرانها بـ“بوسترات” الشهداء؛ يطبع صورهم ويعيش معهم ويبكيهم ويرتجف. قَتله الإسرائيليون برصاصة عابثة-طائشة، فرفض سليم السماح بطباعة “بوستر” لوالده، وفق قناعة فلسفية؛ إذ رفض أن يكون من يموت دون قراره بطلا. كتبتُ على أولى صفحات الرواية بقلم الرصاص “البطولة أن نقوم بما نحن غير مكرهين عليه (ص242)”.
ما يزال “العاشقون” يغنون: “شوارع المخيم تعج بالصور”.
تتناثر الصور في الشوارع حولي.
لا يعود سليم بعد وفاة والده لإيطاليا الجميلة، ولا لكريستينا، وترجع يافا، حبيبته القديمة عن الارتباط به، ويبقى في غزة، في زمن الانقسام وتجارة الأنفاق.
سرتُ معه في جنازة جارهم الحاج، والد يافا، وبجانبه المقاتل القديم صبحي الذي عاد من حمل السلاح في الثورة في الخارج، وصار ضابط شرطة، ثم أطلق لحيته وصار ضابط شرطة مع السلطة الجديدة، ثم فقد عقله. سرت معه يبكي كيف سافر وترك والده وحيداً، يبكي غربته ويبكي شقيقه في المعتقل. وسرت معه وهو يرثي عادة والده، السير كلما أعلنوا عن إطلاق أسرى؛ آملا أن يجد شقيقه بينهم. سرت معه و“فأر يقضم قلبه”، وهو يقول: “ولد أبي والحاج في الحرب وماتوا في الحرب”.
سليم لم يعد في العشرين، هو بين جيلين؛ جيل والده الذي عاش حياته بكل إخلاص وحب، حد الاستنفاد، ولم يصل سوى إلى تسليم الراية لجيل جديد. جيلٌ يريدون له أن يغرس الراية عند الوصول لا أن يُسلّموها.
يقول سليم في الرواية: “الحياة ليست إلا جملة بين مزدوجين متشابهين. أنت لست حراً في الهرب من فكيها. الحاج كما نعيم كانا يريدان مستقبلا أجمل ونهاية أخف وطأة، لكنهما لم يفلحا بالنجاة من كماشة الواقع. مثله تماماً يريد نهايات مختلفة، يريد تفاصيل مختلفة، يريد عالماً أكثر بهجة. لم يقدر على تحديد البدايات لكن على الأقل قد ينجح في تقرير مصير النهايات”.
الكتابة عن نعيم، أو سليم، أو مهند الحلبي، كتابةٌ عن علي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 79 / 2165458

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165458 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010