الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016

في ميلاده الثامن والتسعين ناصر... مقاوماً

الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016 par معن بشور

قلّما تختصر كلمة واحدة قائداً كبيراً بحجم جمال عبد الناصر ككلمة مقاوم… ذلك أنّ فكرة المقاومة سكنت الرجل الذي نحتفل اليوم بالذكرى 98 لميلاده، منذ أن كان طالباً يتظاهر ضدّ الاحتلال الإنكليزي في أربعينيات القرن الماضي، ثم عندما كان محاصَراً في الفلوجة الفلسطينية في حرب العام 1948، حتى ارتقى شهيداً وهو يحاول إطفاء الحريق بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية في أحداث أيلول 1970…

كان ناصر مقاوماً لتجزئة الأمّة بالوحدة، لافتاً منذ وقت طويل إلى الترابط بين الوحدة الوطنية والوحدة القومية، فالأولى تفتح الطريق للثانية، فيما الثانية تعزّز الأولى وتحميها…

وكان ناصر مقاوماً للاستعمار والصهيونية برفع رايات التحرير والاستقلال الوطني والقومي مدركاً أنّ التحرير ليس تحرير الأرض فقط بل تحرير الإرادة، وأنّ الاستقلال ليس علَماً ونشيداً فقط بل هو استقلال القرار والخيار…

وكان ناصر مقاوماً للظلم والاستغلال والاحتكار بالعدالة الاجتماعية التي ترفض أن تموت القلّة من التخمة، وأن تموت الأكثرية من الجوع…

وكان ناصر مقاوماً للتخلّف بالتنمية المستقلّة، وللجهل بالوعي والعلم، فمثلما أطلق ناصر الخطط الخمسية والمشاريع الكبرى التي كانت تسابق النمو السكاني المصري المتسارع، أطلق مشاريع وخطط التعليم الإلزامي وفتح أبواب الجامعات لأبناء مصر من كلّ الطبقات، وأقام المعاهد ومراكز البحث والتدريب للقضاء على الفجوة العلمية بين أمّتنا والعالم…

وكان ناصر مقاوماً لمحاولات فصل الأمّة عن تراثها الروحي العميق المتمثل بالإسلام، فأرسل المئات من بعثات الأزهر لتعليم أبناء آسيا وأفريقيا أصول الدين الحنيف، تماماً مثلما كان مدركاً أهمية التنوّع الديني في بلاده وأمّته، فطلب من أنجاله الصغار أن يتبرّعوا بما جمعوه في حصالاتهم من أجل تشييد الكاتدرائية القبطية الكبرى في القاهرة…

كان ناصر مقاوماً لكلّ نزعة شوفينية أو عنصرية تلقي بظلالها على الحركة القومية العربية، فكان من أوائل الذين احتضنوا المطالب الشرعية للحركة الوطنية الكردية في شمال العراق، ومن أكثر المتفاعلين مع جماهير الأمازيغ في الجزائر إلى الدرجة أنّ صحافياً فرنسياً كان يتجوّل في جبال الأوراس فوجئ «بقبائلي» لا يعرف العربية يحمل راديو ترانزستور يستمع إلى خطاب يلقيه جمال عبد الناصر، فلما سأل الصحافي القبائلي الجزائري: أنت لا تعرف العربية… هل تفهم ما يقوله ناصر؟… أجابه المواطن الجزائري على الفور: نعم أفهمه بقلبي…

كان ناصر مقاوماً لكلّ تناحر بين أبناء الأمّة العربية، بل كان يسعى دوماً إلى إصلاح ذات البين في الصراعات البينية العربية، وهو سعي أدّى إلى استشهاده إثر قمة وقف القتال في الأردن بين النظام ومنظمة التحرير الفلسطينية 28 أيلول 1970 ، بعد أن رعى إنجاز اتفاق القاهرة بين هذه المنظمة والدولة اللبنانية 2 تشرين الثاني 1969 ، إثر أزمة وزارية استمرّت سبعة أشهر ورافقتها توترات مسلحة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وحتى حين كانت تفرض عليه شخصياً تسوية، خصوصاً مع هذا النظام أو ذاك، بما فيها حرب اليمن نفسها في أوائل الستينيات، لم يكن يغلق الباب أمام التسويات مع خصوم الأمس في إطار سياسة «وحدة الصف» بعد أن يكون قد سار لسنوات في سياسة «وحدة الهدف».

كان ناصر مقاوماً لكلّ محاولة لفرض الوحدة العربية بالقوة، رغم أنّ الوحدة العربية كانت أعظم أهدافه، فحال دون محاولات الزعيم عبد الكريم قاسم ضمّ الكويت بالقوة إلى العراق، بعد خروج القوات البريطانية منها العام 1960، كما أعاد القوات المصرية من سواحل سورية بعد الانفصال في أيلول 1961، حقناً للدماء العربية…

كان ناصر مقاوماً لسياسات الهيمنة الاستعمارية على بلاده وعلى العالم من حوله، فلم يكتف بدعم كلّ حركات التحرّر والاستقلال في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فحسب، بل سعى مع رهط من زعماء دول هذه القارات إلى إطلاق حركة عدم الانحياز التي شكّلت قطباً ثالثاً في عالم تسوده ثنائية قطبية وحرب باردة بين واشنطن وحلفائها من جهة وموسكو ومعسكرها من جهة ثانية…

لذلك لم تكن المقاومة عنده تكتيكاً يستخدمه في خدمة استراتيجيات، بقدر ما كانت استراتيجية لها تكتيكاتها في كلّ مجال من مجالات الحياة العربية…

ولأنّ ناصر كان مقاوماً عنيداً، تعرّض إلى حروب ومؤامرات لم تتوقف للقضاء عليه كعدو أول للصهيونية وللدول الاستعمارية، قديمها وجديدها، بدءاً من العدوان الثلاثي العام 1956، إلى الانفصال المشؤوم العام 1961، إلى حرب حزيران المأساوية العام 1967، لكنه كمقاوم كان يخرج من كلّ حرب على مصر والأمّة أكثر حرصاً على إزالة آثار الهزائم، مدركاً أنّ «الضربة التي لا تميتني تزيدني قوة».

ولأنه كان مقاوماً، كان شجاعاً في مراجعة تجربته وتحديد مكامن الخطأ والخلل دون تردّد، مدركاً أنّ مواجهة الأخطار العظيمة التي تواجهه لا تنجح إلاّ بالمراجعة الدائمة والجريئة لأدائه في الواقع الذي يتحرك فيه.

ولقد سمعت ككثيرين، من أبي عمار قائد المقاومة الفلسطينية ورمزها أنه حين التقى جمال عبد الناصر للمرة الأولى العام 1968، وبجهد كبير من الأستاذ محمد حسنين هيكل، بعد تشويش مارسته أجهزة وجهات متعدّدة بحق فتح بعد انطلاقتها في 1/1/1965، قال له القائد العربي الكبير: «لنتوزع الأدوار أنتم تشاغلون العدو خلف خطوطه في الداخل الفلسطيني والجبهة الشرقية، وجيش مصر يرهقه على الجبهة المصرية بحرب الاستنزاف»، ومن ثم اصطحب «أبو خالد» «أبا عمار» وإخوانه رحمهم الله إلى موسكو في زيارة سرية وفّرت السند الدولي للثورة الفلسطينية.

ترى لو كان جمال عبد الناصر موجوداً اليوم هل كان يسمح أن يصدر عن جامعة الدول العربية بيان يعتبر فيه المقاومة اللبنانية إرهاباً، فيما لم تكلّف الجامعة نفسها حتى بذرف «دموع التماسيح» على شهداء الانتفاضة في فلسطين؟…

بل لو كان ناصر موجوداً هل كان يسمح أن يجري احتلال العراق «وتشريع» مفاعيله فيما النظام الرسمي العربي، بأغلب أركانه، بين صامت أو متواطئ أو شريك في احتلال العراق، بل هل كان سمح بغير الحلّ العربي لسحب القوات العراقية من الكويت العام 1990، بل لو كان موجوداً هل سمح باستدعاء الناتو لتدمير ليبيا، أو باستباحة سورية على مدى خمس سنوات، وكانت سورية بالنسبة إليه الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، وجيشها الجيش الأول الذي يشكّل مع الجيش المصري ركنَيْ الأمن القومي العربي، وهل كان يسمح بإغراق اليمن في حمى عدوان لا يرحم واحتراب لا يُبقي ولا يَذَر… أو… أو…؟

بل لو كان عبد الناصر موجوداً، هل كان يسمح أن يُصوّر للأمّة عدو غير المشروع الصهيوني/الاستعماري، وأن تتحوّل علاقة الأمّة بدول جوارها الحضاري إلى علاقة عداء مستمر يغذّي كلّ النزاعات الطائفية والمذهبية والعنصرية.

لقد اختلف ناصر كثيراً مع حكومة مندريس في تركيا، ومع حكم الشاه في إيران، لكنه لم يحوّل خلافه السياسي معهما يوماً إلى حملة عنصرية شوفينية ضدّ أمتين تجمعهما مع العرب روابط ومصالح عديدة ولكن على قاعدة واضحة «العربي عربي، والتركي تركي، والإيراني إيراني»…

الحديث إذن عن جمال عبد الناصر ليس مجرد حنين إلى ماضٍ مشرق نعتزّ به كعرب أحسسنا معه بوحدتنا وكرامتنا، رغم كلّ الثغرات والأخطاء التي اعتورت نظامه، بل وأجهزته وبيروقراطية دولته، بل هو قراءة في حاضر ممزق في ظلّ تخلي الأمّة عن مبادئ حملتها مدرسة جمال عبد الناصر القومية العربية، كما هو استشراف لمستقبل نتطلع إليه وترتفع فيه رايات العروبة الديمقراطية، والاستقلال الحقيقي، وحرية الوطن والمواطن، والتنمية الاجتماعية على قاعدة الكفاية والعدل، والتجدّد الحضاري الضاربة جذوره في روح الأمّة ورسالتها الخالدة، والممتدة أغصانه إلى رحاب العصر والعالم.

*-الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165528

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165528 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010