الجمعة 1 كانون الثاني (يناير) 2016

“نخوة شباب”

الجمعة 1 كانون الثاني (يناير) 2016 par د.احمد جميل عزم

تدخل خيمة العزاء وتجلس، فتستغرب أنّ الأغنيات الوطنية تحمل اسم الشهيدة هديل. وتذهب إلى مخيم آخر وشهيد ثانٍ، فتجد أيضا أغنيات باسم الشهيد. كيف يمكن إنتاج أغنيات بهذه السرعة، تخص الشهداء الفلسطينيين في الانتفاضة الراهنة، وتتجاور في المناسبة ذاتها مع تلك الأغنيات القديمة المعروفة؟
في بيت قديم جميل، قرب شارع النجمة في بيت لحم، حيث يعتقد أن السيدة مريم العذراء سارت في طريقها “للمكان القصي” قرب جذع النخلة حيث جاءها المخاض، جلسنا وسمعت قصة انتقال العائلة من مخيم الدهيشة إلى المنزل الذي يزيد عمره على عمر قضية فلسطين ونكبتها، بل بُني قبل أن يأتي بلفور ووعده بتهجير الشعب الفلسطيني، وإعطاء أرضهم للمهاجرين، العام 1917. ويُسمعني الشاب الجامعي، وعائلته المناضلة الجميلة حولنا، عازفاً على عوده، أغنيته لصديقه الشهيد معتز. وأسأله: هل تعرف الشهيد؟ يخبرني: “أكيد”، كنا أصدقاء أو زملاء، كنت أعزف في الفندق وهو يعمل هناك، وكان يعتني بي ويسألني بحكم الجيرة إن كنت احتاج شيئاً. والشاب تعلم الموسيقى لسنوات وهو يخطو نحو فن راقٍ، شقيقه يكتب الكلمات وهو يغني، والمخيم والعائلة يحتضنان ويدعمان، والوطن موجود.
أسأل الرجل الجالس بجانبي، في قلنديا برام الله، كيف استطاعوا تأليف الأغنية للشهيدة بهذه السرعة. فيجيبني أنّ خمس أغنيات خصصت لابنه الذي استشهد منذ أشهر. أعبّر عن استغرابي من الفكرة، ومن يقوم بها، ولماذا لا تنتشر الأغنيات كثيراً. يحاول تبسيط الموضوع، فيقول: إحدى الأغنيات، مثلا، لحن لأغنية عراقية، وتم فقط تركيب كلمات جديدة مكانها. وأسأله: “من؟”. ويجيب مع ابتسامة: “نخوة شباب”. وأتذكر أغنيات أخرى من جنين إلى نابلس، كأنها أغنيات خصصت للشهيد وأصحابه فقط.
واحد من الأمور التي رصدتُها في بحث لي عن انبعاث الهوية الوطنية الفلسطينية، هو كيف يتحول المحلي إلى وطني؛ ففي مرة أخبرتني سيدة متخصصة بالثوب الفلسطيني، أنّ كل منطقة كان لها ثوبها، وكان يصعب أن يتم تبني التصميم نفسه في مدينة أخرى. وبالفعل، نعلم أنّ لكل مدينة ثوبها؛ بدءا من “قُطَب” التطريز، وصولا إلى الألوان ونوع القماش. والثوب وألوانه ونمطه، هي مصدر فخر وموضوع تنافس بين القرى وبعض المدن. وبحسب السيدة، بَدأ كسر القيود، وانتقل الثوب قرب عشرينيات القرن الماضي مع تأسيس “الدولة الحديثة”، وتقدم المواصلات. لكني أعتقد أنّ الشتات واختلاط الناس أسهما في ذلك. وباعتقادي أنّ الهم الوطني والمعركة والشتات، أسهمت في ظاهرة أسميها “تحويل المحلي إلى وطني”؛ أي الذي يخص قرية أو مدينة إلى شيء يخص كل الوطن وكل الشعب، مثل الأغنيات المحلية والملابس، وحتى الطعام. وكانت الثورة الفلسطينية ووحدة المقاتلين وتأسيس المنظمات الثقافية، عاملا مساعدا على هذه الظاهرة، بل تم “توطين” أو “فلسطنة” بعض الأمور التي تخص فلسطين وغيرها، أو تخص غيرها، وتكييفها فلسطينياً، مثل أسطورة طائر الفينيق أو العنقاء (أو الرخ).
فماذا يعني أن تعود ظاهرة الفن المحلي الشخصي الذي يخص فئة محدودة؛ على غرار الأغنيات المذكورة أعلاه؟
هو ربما تعبير عن العولمة وتقدم التكنولوجيا اللتين تجعلان إنتاج الفنون ونشرها أمراً سهلا تستخدم فيه أدوات موجودة في كل بيت؛ مثل الهاتف الذكي، والحاسوب الشخصي، وسوى ذلك. وهو نتاج غياب الحركة الوطنية المنظمة التي تحول الشخصي إلى وطني، والمحلي إلى قومي، والتي تحول بدلا من هذا الاستشهاد إلى حدث محلي، وليس أدل على ذلك من غياب الإضرابات الوطنية الجامعة لصالح إضرابات جزئية في مدن ومناطق، ورد فعل على حدث محلي، وغياب اتحادات الطلبة والنقابات التي تعلن قرارات لكل الوطن والشعب.
بل يخبرك شاب من مخيم ثالث، أنّه مستاء لأنه اكتشف أسيراً يرسل لمغنٍ يطلب منه تأليف أغنية عنه، واعتبر الأمر “تسليعاً” وإتجارا. وطبعاً هذا أمر متوقع؛ فكما توجد مبادرات وطنية شخصية مخلصة، يوجد أحياناً “إتجار” وتنافس لأسباب شخصية.
لن يطول الوقت حتى يعود الوطن الفلسطيني موحداً بأغنياته، ونضالاته، وإضراباته، وشعبه؛ فما يحدث الآن هو تولي الناس والشباب غير المؤطرين للأمر، بعد أن غابت الأطر والفصائل وتحولت إلى شيء آخر سوى ما كانت عليه، لكن ستجد من يلتقط الخيط وينسج ثوب الوطن الجامع.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 70 / 2165540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2165540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 3


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010