يقول المناضل الفلسطيني المخضرم، الذي نفّذ بقرار ذاتي عملية طعن أوقعت جنوداً إسرائيليين قتلى، العام 1974، إنّه حاول جاهداً تذكر كيف كان يفكر، وما هي حالته النفسية حينها، حتى يستطيع فهم التفكير الذي يسكن الشبان والفتيات الذين ينفذون عمليات الطعن حالياً، وإنّه لا يستطيع الوصول بالفعل إلى حالته يومها، سوى أنّه كان يرى ذلك مهماً لتحرير فلسطين. فيرد عليه مناضل آخر، كان معه في العمل المسلح والسري في السبعينيات والثمانينيات، أنّ تلك العمليات كانت تتضمن عادةً تخطيطاً للانسحاب وعدم الوقوع، حتى إنه كان هناك ترجيح أن يستشهد المناضل، أمّا الآن فهناك شعور أنّ من يذهب لينفذ عملية يذهب ليستشهد، أكثر من ذهابه لتنفيذ عملية، أي إنّ الاستشهاد أصبح هدفاً، لدرجة إهمال متطلبات نجاح العملية وسيناريو الانسحاب، أضف إلى ذلك أنّ الاستشهاد يأخذ معنى ثقافيا ووطنيا، فضلا عن المعنى الديني.
فيما يطغى صخب مكبرات الصوت في عزاء الشهيدة هديل عواد في قلنديا، على الحديث، يكمل والد شهيد، استشهد ابنه قبل أشهر، الحديث. ويخبرني: هل تصدق أنّ المقبرة تحولت “لمتنفس” لدى الأطفال والشبان؟! أسأله: ربما أنّ هذا بحث عن فضاء فارغ، وهروب من اكتظاظ المخيم؟ فيرد: الأمر ليس كذلك، فهناك نادي المخيم، ومدينة رام الله قريبة، لكن فكرة الشهادة قوية في عقول الشبان والفتيان، لدرجة أنّه وجد طفلا يرعى قبر ابنه، فيسأله عندما ذهب للزيارة وقراءة الفاتحة، من يكون الشهيدُ لك؟ فيخبره “إنه صديقي”. ويفسّر أنّه ربما كان ابنه، وهو في العشرين من عمره، الذي كان جزءا من مجموعة مسلحة، يُلاطِف الطفل أو يلعب معه.
ويعلق مشاركٌ ممن حولنا، ومنهم والد ثلاثة شهداء، وأخ شهيد وشهيدة، فيقول: هل تصدقون أنّ طفلا حدد مساحة معينة بجانب شهيد باعتباره المكان الذي يريد دفنه فيه لدى استشهاده، وأنه حزن عندما ووري شهيد “آخر” هناك!
يعلّق أحد قياديي المخيم بالقول: لقد أوقفنا منذ حين فكرة مهرجانات التأبين التي كانت تتم في اليوم الأربعين للاستشهاد، لأنّ المواجهات التي تتبع المهرجان على الحاجز القريب، تشهد شهداء جددا وجرحى.
المتحدثون الذين تصادف لقاؤهم، كانوا أسرى سابقين، اختاروا درب النضال، وأسئلتهم ليست تشكيكاً في الدافع الوطني، والنضالي، وليست إنكاراً له.
وقفُ التأبين هو إشارة إلى خشية أنّ فكرة الشهادة باتت تكتسب بعداً شخصياً جذاباً، أو محرّضاً، اجتماعياً، من دون أن يكون ذلك ضمن إطار شامل من “إعداد المستطاع من القوة”، والحشد المنظم. وتقول إعلامية إنها عندما شاهدت جنازة الشهيد مهند الحلبي، والحشود التي خرجت، لم تستبعد أنّ تستثير الجنازة بحد ذاتها حماسة شبان للحاق بمهند، والذي كان باكورة عمليات الطعن.
لكن التمعن في الشهداء، ينفي بشكل قاطع أنّ الأمر سعيٌ وراء زفة الشهيد، ووراء الأغاني التي ستؤلف باسمك، والجماهير التي سترفع صورتك وترفعك على الأكتف وتسير خلفك، ليس الأمر هكذا. فمثلا، بهاء عليان، الناشط الثقافي المعروف والمميز؛ وماهر الهشلمون، رجل الأعمال، وغيرهما كثر، كانوا بالفعل نجوماً مجتمعيين لهم احترامهم وحضورهم العام.
هو الوطن، وهو رفض الاحتلال؛ هي الكرامة، وهو الإنسان، وهو تراث حضارة عميقة، وهذه كلها ليست رومانسية، بل قوى مادية ومعنوية، يعرفها عِلم النضال والصراع، هي الهوية النضالية، التي تنبع من إرث فصائل رفعت البندقية، ورفعت ريشة رسام، وقلم روائي وشاعر وكاتب، وإبرة التطريز، والأقصى والكنائس، والدبكة، والنغمة، والموسيقى، وقصص دلال المغربي، وخليل الوزير، وجورج حبش، وأحمد ياسين، والآباء والإخوة، ومروان البرغوثي وأحمد سعدات، وكوفيّة عرفات، وكلها قوى حقيقية تصنع هوية، فيها الملموس الواعي، وفيها المفاجئ الكامن.
في الوقت ذاته، هناك الآن غياب الفصائل التي كانت تستوعب وتؤطّر أولئك الثوريين في خلايا العمل السري، ومجموعات العمل الشعبي، ليصنعوا ثورة جماعية، ولتحويل الهوية وطاقتها النضالية إلى جزء من كل يتكامل، يحرق الأرض تحت أقدام الغزاة، ويبذر قمحاً، ويحصد سنابل ذهبية، تنظر في موسم حصادها صبية إلى شاب يحمل منجلا، وتأتيه في موسم الزيت والزيتون بالزعتر، ويأتيها بزهرة، ويزهر وطنٌ في العينين.
بسبب غياب الفصيل الجامع الذي يتكامل الوطن فيه، يَنبتُ النضال الفردي؛ انتظاراً لعودة الروح إلى الجماعة.
الجمعة 25 كانون الأول (ديسمبر) 2015
“مكاني في الأرض”
الجمعة 25 كانون الأول (ديسمبر) 2015
par
د.احمد جميل عزم
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
83 /
2182171
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف احمد جميل عزم ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
23 من الزوار الآن
2182171 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 20