الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

كيف ترسم خرائط البلدان ؟

زيارة كيري الثانية لإجهاض الانتفاضة و تهافت نظرية الفوضى الخلاّقة
الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par منير شفيق

- كيف تُرسَم خرائط البلدان؟

يروِّج عدد من المحللين أن البلاد العربية في صدد إعادة، رسم خريطتها، أو قل إعادة رسم “خرائط دولها”.
ويُغذي رواج هذه الموضوعة ما يحدث في عدد من البلاد العربية من صراعات مسلحة وصلت إلى حد التقسيم الجغرافي لمناطق البلد الواحد، موضوعياً، أو وفقاً لما وصلته موازين القوى في ما بين الأطراف المتصارعة.
ويصطحب موضوعة “إعادة رسم خرائط المنطقة العربية” تأكيدات على وجود أيادٍ دولية خفيّة وراء ما يجري من صراعات، والمقصود الأيادي الأمريكية والصهيونية، وإلى حد أقل أيادٍ فرنسية. وهذه التأكيدات تستعيد بشكل أو بآخر “نظرية المؤامرة” بالرغم من تشديد مُطلقها بأنه “يرفض التفسير التآمري” ولا يقبل بنظرية المؤامرة.
طبعاً هذه التأكيدات ترفض “التفسير التآمري”، وتُعلن عدم قبول “نظرية المؤامرة” وذلك لتسهِّل على من يخوض بالحديث عن المخططات الخلفية، والأيادي الخفية والاختراقات المخابراتية ما شاء له أن يخوض من دون أن يشعر أنه يُعيد إنتاج “التفسير التآمري” وبجانبه “نظرية المؤامرة”، أو يسهّل عليه سلفاً عدم اتهامه بتبني نظرية المؤامرة أو بإعادة إنتاجها بعبارات أخرى.
على أن مشكلة هذا الفريق من المحللين ولنسمّهم، جوازاً، بأصحاب نظرية الأيدي الخفية أو المخططات الخلفية، وليسوا من أصحاب نظرية المؤامرة والتفسير التآمري حتى نحميهم من التجني عليهم.
كل هذا الجدال يظل أقل أهمية إن لم يدخل بالعبثية. ذلك لأن عدم إثبات وجود الأيدي الخفيّة صعب بقدر إثبات وجود الأيدي الخفية. لأن إثبات وجودها يفقدها صفة الخفيّة. كما أن إثبات عدم وجود أيدي خفيّة لا يمكن أن يحدث مباشرة ما دامت “خفيّة”.
أما النموذج الثاني لإعادة رسم الحدود والخرائط. فهو النموذج الذي يتشكل كمحصلة للصراعات وموازين القوى التي تنتهي إليها الصراعات ثم يأخذ وضعه الدائم أو شبه الدائم أو المؤقت من خلال مفاوضات بين القوى المسيطرة مع ما نشأ من حدود أو من خلال تثبيت هدن بين تلك القوى. وهذا هو الحال بالنسبة إلى حدود أغلب دول العالم.
وهذا لا يحصل من خلال مخططات مسبقة وأيدي خفيّة وإنما يتشكل عملياً من خلال الصراع المسلح الذي لا ينتهي بالحسم والذي قد يصل إلى نقطة يتعب فيها المتصارعون ويقتنعون بأن الحسم غير ممكن. ومن ثم تُرسَم الخريطة كأمر واقع لتعكس ميزان قوى محلي وإقليمي ودولي.
من هنا يمكن التأكد من أن ما يحدث الآن من صراعات مسلحة في أكثر من قطر عربي، وما قد ينجم من إعادة رسم للخرائط لا سمح الله، هو الذي سيقرّر أي من التجزئة (تجزيء المجزأ) التي ستنتهي بها تلك الصراعات. فالحكم الفيصل هو لميزان القوى الذي قد لا يتسّم بسيطرة قوّة أو أكثر قادرة على فرض الوحدة من جديد. فكون وصول الصراعات إلى نقطة أو نقاط تعيد رسم الخرائط لا يعني ذلك أن ما يجري هو تطبيق لخطة تقسيمية أُعدّت قبل عشرات السنين، كما يفعل البعض، إذ يعتبر أن ما يجري هو تنفيذ لخطة مسبقة. وليس محصلة لموازين قوى جديدة قد تلتقي أو تتقاطع مع رؤية سابقة ما أو مخطط أُشيرَ إليه سابقاً. ولكن من دون أية علاقة ومن دون أن تفسّر الصراعات الدائرة الآن باعتبارها تنفيذاً لمقالة أو دراسة أو خطة كانت نتاج سياسات معينة أو أهداف معينة لقوى كانت في يوم من الأيام ترسم الخرائط ولكنها اليوم أصبحت أعجز من أن تؤثر على كل القوى المتصارعة وتفرض عليها ما رسمته أو تمنته من خرائط جديدة لبلادنا.
إن معادلات موازين القوى الآن مختلفة كلياً عما كانت عليه زمن تحكّم الدول الكبرى في رسم خرائط الدول والقارات. فعلى الأقل هنالك قوى وازنة تشكل طرفاً أساسياً في ما يجري من صراعات، محلية وعربية وإقليمية ودولية. ولا مجال، إن لم يكن من العيب إدراجها ضمن لعبة رسم الخرائط أو اعتبارها من أدوات الأيدي الخفيّة. وهي ولا شك جزء مما قد تنتهي إليه محصلة موازين القوى في ما يجري من صراعات.

- زيارة كيري الثانية لإجهاض الانتفاضة

جاء جون كيري إلى لقاء نتنياهو ومن قبله محمود عباس بعد أسبوع من اندلاع الانتفاضة الثالثة. ولم يستطع أن يعقد اجتماعا رباعيا في عمّان يضمّه ونتنياهو والعاهل الأردني والرئيس محمود عباس، فوجد أن أفضل ما يمكن أن يعمل لإجهاض الانتفاضة هو إعلان ما عُرِفَ باسم تفاهمات كيري- نتنياهو. وقد تضمنت تأكيد نتنياهو على عدم تغيير الواقع القائم في المسجد الأقصى (وأسماه جون كيري “جبل الهيكل”)، بما يعني التراجع عن تنفيذ قرار حكومة نتنياهو باقتسام الصلاة فيه. وكان في ذلك نصر تحققه الانتفاضة. ولكن تلك التفاهمات حافظت على إبقاء السلطة الأمنية الصهيونية في المسجد الأقصى ولا سيما الإشراف على زيارة غير المسلمين، وأضافت وضع كاميرات مراقبة أراد منها كيري ونتنياهو أن تكون رصدا للشباب والشابات من حماة المسجد الأقصى.

كان الهدف الأول من هذه التفاهمات بأن تتوقف الانتفاضة ما دام التراجع عن الاقتسام الزماني للصلاة في المسجد الأقصى قد تحقق. وذلك باعتباره السبب المباشر الذي أطلق الحراك الشعبي ضدّه. وقد أخذ يتحوّل إلى انتفاضة.

لقد فشلت هذه التفاهمات في تحقيق هدفها لسببين الأول: حافظت على السيطرة الأمنية للجيش الصهيوني على المسجد الأقصى والإشراف على زيارة غير المسلمين له. وهؤلاء هم العصابات الصهيونية التي تقتحم المسجد الأقصى بحماية جيش العدو من أجل فرض التقسيم الزماني فالمكاني للصلاة فيه أي للمسلمين واليهود. أما السبب الثاني فيرجع إلى أن أهداف هذه الانتفاضة حملت أهدافا تتعدّى هدف إحباط قرار التقسيم الزماني للصلاة في المسجد الأقصى، بالرغم من أهميته الشديدة.

وهذه الأهداف هي: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات عن القدس والضفة الغربية وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط، أي لا مفاوضات، ولا صلح ولا اعتراف (اللاءات الثلاث).

وهي أهداف آنية يمكن للانتفاضة أن تحققها إذا ما تحوّلت إلى انتفاضة شاملة، ومتواصلة، وممتدّة، ولا تراجع عنها، حتى يُجبَر العدو على الانسحاب وتفكيك المستوطنات. وذلك بأن نجعل الانسحاب أقل كلفة عليه من الاستمرار في الاحتلال والاستيطان وقمع الانتفاضة.

لا العدو الصهيوني، ولا أمريكا ولا أوروبا (حلفاؤه) يستطيعون تحمّل مواجهة انتفاضة شاملة، ومصمّمة، وطويلة الأمد، وتحت وحدة وطنية وراية واحدة. لأنها ستحرّك معها إذا ما ثبتت، وتواصلت، الجماهير العربية والإسلامية ورأيا عاما عالميا. الأمر الذي سيُحرج كل حكومة حاولت تجاهل الانتفاضة أو تواطأت لإيقافها، أو راحت تدعم حكومة نتنياهو تحت دعوى “حق الدفاع عن النفس” كما أعلن أوباما وغيره من قيادات غربية.

لقد انحرفت بوصلة النضال الفلسطيني حين جعلت هدفها الأول هو إقامة دولة فلسطينية على “حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967”. الأمر الذي أدخلها في استراتيجية التسوية والتفاوض على حل نهائي للقضية الفلسطينية (حلّ الدولتين). وهنا أثبتت تجربة مفاوضات مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو ومفاوضات محمود عباس باسم سلطة، وم.ت.ف أن هذا الطريق فاشل قطعا، وكارثي وقد استشرى في ظله الاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى، والبطش بالأسرى، وقمع المقاومة والحراك الشعبي. وشنّ الحروب العدوانية على لبنان وقطاع غزة وحصار القطاع حصارا خانقا. بل أسهم في إبعاد القضية الفلسطينية من أن تكون في أولوية القضايا عربيا وإسلاميا وعالميا. وهذا كله ما لا جدال فيه أمام تجربة الأربعة وعشرين سنة الماضية من مفاوضات مدريد حتى اليوم.

إن إبقاء الباب مفتوحا أمام “حلّ الدولتين” هو الذي يسمح لجون كيري وزير خارجية أمريكا أن يأتي إلى فلسطين المحتلة اليوم ليطرح من جديد اقتراحات تمهّد لجولة جديدة من المفاوضات من أجل إجهاض الانتفاضة وخوفا على الكيان الصهيوني من أن ينهزم أمامها وخوفا على أمريكا والغرب من أن يزيدا افتضاحا في دعم الكيان الصهيوني وهو يرتكب المجازر بحق الشعب الفلسطيني.

ولكن كيري إذا فوجئ بموقف فلسطيني موحّد بأن هذه الانتفاضة تريد دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وبلا قيد أو شرط، وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث. فسوف لا يجد عنده ما يقوله فهو لا يستطيع أن يناقش في احتلال واستيطان ملتزم بأنهما غير شرعيين. وهنا يجب أن يُحشرَ في الزاوية.

ويُعلن موقفا بأنه يدافع عن الاحتلال والاستيطان أو يريد أن يكافئها بتقديم تنازلات فلسطينية وعربية وإسلامية.

هنا تصبح المعادلة غير معادلة المفاوضات حلٍ للقضية الفلسطينية من خلال “حلّ الدولتين” التصفوي والوهمي، والذي يشكل غطاء للاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وحصار قطاع غزة وعدم إطلاق الأسرى. وذلك حين يربط دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وقضايا القدس والمسجد الأقصى وقطاع غزة والأسرى بالتوصل إلى الحلّ النهائي عبر المفاوضات. أو يربطها بإعطاء الأولوية لإقامة الدولة الفلسطينية. فالحالة هنا تشبه وضع العربة أمام الحصان.

أما ماذا سنفعل بعد تحرير الأرض فيُتْرَك لاستفتاء الشعب فالخيارات متعددّة.

وليتأكد كل من يتحدث عن المشروع الوطني الفلسطيني بأن لا حلّ لقضية فلسطين إلاّ حلّ تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وتنفيذ حق العودة. ولهذا من الخطأ طرح أي مشروع آخر مثل حلّ الدولتين أو دولة ثنائية القومية، أو دولة فلسطينية على حدود 67.

هذا وليتأكد كل من يهمه إنقاذ المسجد الأقصى والمقدسّات الإسلامية والمسيحية ويهمّه تحرير القدس والضفة وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، والسير بعد ذلك قدما في طريق تحرير كل فلسطين بأن ليس هنالك أقوى وأصّح من جعل الأهداف الراهنة للانتفاضة والنضال الفلسطيني بعامّة هي: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق الأسرى. وهي أهداف يمكن أن تتحدّ عليها كل الفصائل الفلسطينية، ويمكن أن تحققها هذه الانتفاضة.

وليُجرّب محمود عباس أن يُواجِه جون كيري بها، وسيجده غير قادر على مواجهتها، وسيهرب إلى المفاوضات وحلّ الدولتين. وعندئذ ليجرّب أن يقول له إذا ستستمر هذه الانتفاضة، وإلاّ سيستمر الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وانتهاكات المسجد الأقصى. وهذا ما حصل بعد وقف الانتفاضة الثانية. ومن يجرّب المجرّب عقله مخرّب.

طبعا محمود عباس لن يفعلها. ولكن يجب على فتح والفصائل التي أيّدت يوما طريق المفاوضات والتسوية وحلّ الدولتين أن يفعلوها، بالطبع إلى جانب حماس والجهاد وشباب وشابات الانتفاضة. فجون كيري يجب أن يعود فاشلا من محاولة إجهاض الانتفاضة.

- تهافت نظرية الفوضى الخلاّقة

من الأفكار الشائعة في قراءة ما يجري من انقسامات وصراعات دموية وفوضى أن أمريكا وراء ذلك. ولكن لماذا؟ وكيف وما الذي تجنيه من وراء الفوضى. وهل له سوابق في تاريخها باعتبارها دولة إمبريالية تسعى لنهب ثروات العالم، وفي مقدّمها ثروات البلاد العربية. وهذا لا يتحقق إلاّ إذا بسطت هيمنتها العسكرية والسياسية وحتى الثقافية والحضارية.

لو رجعنا إلى تاريخ الغرب الاستعماري لوجدناه يعجّ بحروب الغزو العسكري والاحتلال وإقامة النظام الاستعماري. وهذا هو أيضاً تاريخ الولايات المتحدة الإمبريالي سواء أكان في أمريكا الجنوبية أم كندا أم آسيا أم أفريقيا. وذلك من خلال شنّ الحروب ونشر القواعد العسكرية وصناعة الانقلابات العسكرية. ولكن الهدف دائماً بسط الهيمنة والسيطرة وفرض أعلى درجات الاستقرار في مناطق نفوذها من أجل تحقيق الأهداف المالية والاقتصادية ومن ثم جني أقصى الأرباح والفوائد، وإبعاد المنافسين الدوليين.

ولكن لم تكن الفوضى يوماً هدفاً بحد ذاتها للدول الاستعمارية الأوروبية أو للإمبريالية الأمريكية. وقد كان هدف كل الحروب فرض النظام الاستعماري – الإمبريالي الذي يقيم أعلى درجات الاستقرار والسلم الداخلي.

وإذا اعتبرنا أن الحرب حالة من حالات الفوضى إلاّ أن الهدف هو كسبها ضدّ جيش العدو لفرض الاستقرار.

ولهذا فعندما يُقال أن أمريكا ذهبت إلى العراق لتشعل الفوضى والحروب الأهلية فيه يكون قولاً مناقضاً لهدف الهيمنة والسيطرة على الثروات وإبعاد المنافسين وفرض الاستقرار الذي يديم الهيمنة ويعيد إنتاجها. وعندما يُقال أن أمريكا انسحبت من العراق برضاها وخيارها وذلك بعد أن دمّرته وأشعلت النيران في داخله يكون قولاً مخالفاً لطبيعة أمريكا الهيمنية الإمبريالية الطامعة بالسيطرة على النفط وبقية الثروات. طبعاً حدث للعراق كل ذلك ولكن بسبب فساد المحافظين الجدد وجهالتهم حين أعطوا أولوية للعراق على روسيا والصين أو حين حلّوا الجيش العراقي بهدف تشكيل جيش بديل على قياسهم فأخطأوا في الحسابات وليس لأن الهدف كان تدمير العراق وإغراقه بالفوضى.

فأمريكا انسحبت من العراق تحت ضغط المقاومة أولاً وثانياً بخسارتها نتائج العملية السياسية التي أوصلت إلى السلطة أحزاباً مختلفة متحالفة مع إيران وغير موالية لأمريكا بل أن قرارها بحلّ الجيش العراقي كان خطأ استراتيجياً من زاوية مصلحتها في الهيمنة على العراق. لأن هذا الحلّ فرض إعادة تشكيل قوات أمنية وجيش من أفراد وقيادات موالية للأحزاب المتحالفة مع إيران.

ومن ثم إن محصلة الفوضى التي نتجت في العراق جاءت من تطورات ميزان القوى الداخلية الذي أفلت من أمريكا، وانقلب عليها. مما اضطرها إلى الانسحاب، تاركة وراءها فوضى لا سيطرة عليها بل هي نتاج فقدان سيطرتها على العراق.

فالفوضى لا تُصنَع من خلال طرف واحد وإنما هي محصلة صراع أطراف متعددّة من دون أن يكون لأحدها أو أكثر إمكان الحسم النهائي للخروج من الفوضى إلى الاستقرار ينشده كل قوي منتصر. وهذا قانون عام وسنّة جارية.

ثم إذا كانت الفوضى هي نتاج صراع عدّة قوى أو أطراف، مع قدرة لقوّة، أو طرف منها، على حسم الصراع وفرض نظامه فصناعه لاستقرار الذي يريد. فهذا لا يسمح بالقول أن قوّة ما هي صانعة تلك الفوضى. لأن هذا القول يفترض تحكّم تلك القوّة بكل أطراف الصراع لتقودهم إلى الفوضى. فما دامت الفوضى ليست من صنع طرف واحد في الصراع وإنما تحتاج إلى مشاركة الأطراف الأخرى في صنعها، فسوف يكون من المتعذّر وجود قوّة خارجية يمكن أن يُعْزى لها صنع الفوضى. لأن تلك القوّة تستطيع أن تتحكم بطرف واحد، وإذا اعتُبِرَ أنها تتحكم بعدّة أطراف فكيف يفسَّر تصادم تلك الأطراف بعضها ببعض لتكون فوضى عامّة ومعمّمة، كما هو حادثٌ فعلاً.

فيا للكسل الفكري أو للفكر المُغْرِض حين يتعذر أن ترى الفوضى بأنها نتاج صراع المنخرطين فيها. وليست صنيعة طرف واحد. لأن من شروط الفوضى أن تعمّ الصراعات عدد كبير من الأطراف. أما الصراع بين طرفين أو معسكرين حيث يمكن أن تحمّل المسؤولية لأحدهما. فلا يكون عندنا فوضى وإنما حرب بين جبهتين. وهذه الأخيرة رؤية الواقع ترفض وصفه بالفوضى.

إننا هنا أمام تعريف للفوضى يفرّقها عن حالة الحرب بين جبهتين. ففي حالة الحرب ثمة خط نار واحد، أما في حالة الفوضى فثمة خطوط نار داخلية متعدّدة. الأمر الذي يشكّل فارقاً مهماً في تحديد المسؤوليات في كل من الحالتين. ففي الحالة الأولى ثمة مُعتدٍ ومُعتدىً عليه، أو ثمة معتديان. أما في الحالة الثانية فالتداخلات في ما بين عدد من الأطراف المتصارعة يكون تحديد المسؤولية في تشكّل حالة الفوضى صعباً ومعقداً إن لم تكن موزّعة ولو بتفاوت.

ثمة حالتان يمكن أن تشجع أمريكا الفوضى فيهما: الأولى أن تترك الكيان الصهيوني ليشنّ حرباً كما حدث في تموز/يوليو 2006 في لبنان، فأسمت كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا ذلك بالفوضى الخلاّقة معتمدة على انتصار جيش العدو وفرضه لشروطه وشروط أمريكا على لبنان. ولكن هزيمة العدوان وانتصار المقاومة جعل نصراً خلاّقاً للمقاومة وحزب الله وهزيمة خلاّقة للكيان الصهيوني وأمريكا. ولهذا ابتلعت كونداليزا رايس ما أسمته الفوضى الخلاّقة وهي تبتلع ريقها.

أما الحالة الثانية فهي محاولة أمريكا إشاعة اضطرابات في جبهة العدو. ولكن هذه لا تسمّى فوضى خلاّقة لأنها لا تستطيع أن تُسيطِر عليها وكثيراً ما انتهت بسحقها من قِبَل خصومها.

فالفوضى التي تعمّ الوضع العربي العام في هذه الأيام ضربت، عدا في سورية، في البلدان المحسوبة ضمن مناطق السيطرة الأمريكية أو ضمن البلدان غير المعادِية أنظمتها لها. فكيف تكون فوضى خلاّقة من صنع أمريكا. بل حتى في سورية فلن يكون لأمريكا سيطرة على نتائج الصراع هناك.

ولهذا يجب اعتبار نظرية الفوضى الخلاقة من النظريات السطحية والمتهافتة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2165564

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

2165564 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 33


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010