الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

حول داعش وفي المنهج - مقالتان

الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par منير شفيق

- أسئلة وأجوبة حول فهم داعش

السؤال الأول: كيف يمكن لهذا التنظيم أن يصل إلى ما وصل إليه من قوّة ومن مناطق تحت سيطرته لو لم يكن مدعوماً من قوّة كبرى مثل أمريكا؟

الجواب: أولاً؛ من يدقق في الكيفية التي وصل إليها في السيطرة على الموصل والأراضي العراقية الأخرى عليه أن يفسّرها من خلال انهيار الجيش العراقي وانسحابه من الموصل وتلك المناطق بلا قتال. فالجواب هنا ينطلق من ضعف الجيش العراقي وانهياره وليس من قوّة “تنظيم الدولة الإسلامية” إذ كان قوّة صغيرة جداً جداً قبل سيطرته على تلك المناطق. فقد قوي وتضاعف في العراق وسورية بعد تلك السيطرة وليس قبلها.

ثانياً: الافتراض بأن أمريكا وراء ذلك يتطلب الإثبات بأنها مسيطرة على الأوضاع في العراق وسورية. وذلك ليكون بمقدورها أن تحمل تنظيماً تريده ليصبح على تلك القوّة والسيطرة. وهذا الافتراض خاطئ وليس له ما يُعزّزه، ولو من بعيد، سواء أكان في العراق أم في سورية. فأمريكا خرجت من العراق بعد احتلاله مُكرهة ومن دون أن تلوي على شيء وهي أصلاً خارج سورية. فكيف يمكن لفاقِدِ الشيء (السلطة المفترضة) أن يعطيه. ومتى أمريكا تعطي من سيطرتها لأحد.

السؤال الثاني: هل يُعقل أن يبرز تنظيم خلال ثلاث سنوات، ويصل إلى ما وصل إليه من قوّة وسيطرة من دون دعم خارجي؟

الجواب: يجب أن تُقرَأ هذه الظاهرة في أسباب انتقالها إلى ما وصلته من قوّة وسيطرة وليس من خلال العقل والمنطق، وإنما من خلال الوقائع. فالوقائع هي التي تقرّر ما يُعقل وما لا يُعقل. وليس ما يُعقل وما لا يُعقل هو الذي يقرّر الوقائع. لذلك دعوا موضوع ما يُعقل أو لا يُعقل جانباً، ولو مؤقتاً، وحاولوا تفسير الوقائع من خلال قراءتها. هذا من الناحية المنهجية.

إن تمكُّن تنظيم داعش من التقدم بهذه السرعة، وانشقاقه عن تنظيم القاعدة وتشكّله على هذه الصورة أصلاً، يجب أن تُقرَأ من خلال ما يسود من موازين قوى وانقسامات وصراعات وظروف: أولاً سقوط الدولة القطرية في العراق على يد الاحتلال الأمريكي، ثم بسبب حلّ الجيش ومحاولة إعادة تركيب الدولة من جديد ابتداء من الصفر. وثالثاً ما توّلد من انقسامات عميقة ما بين المكوّنات العراقية. الأمر الذي شكل موازين قوى سمحت لتنظيم داعش مع استفحال الفساد الذي ساد في الدولة العراقية قيد التكوين، ولا سيما في الجيش، كما تعمّق الصراع الذي اتخذ طابعاً مذهبياً، بأن يقفز بهذه السرعة إلى تلك القوّة والسيطرة إلى جانب توّفر ميزات ذاتية مثل التجرّؤ على المغامرة والمخاطرة والممارسة المتوحشة بلا ضوابط.

وبالمناسبة لولا انهيار الدولة ولولا الانقسامات المذهبية لكان مصير داعش كمصير حركة جهيمان العتيبي (اقتحمت الحرم المكي عام 1979) الشبيهة التي تحرّكت في ظروف أخرى، وفي ظل دولة قوّية وميزان قوى إقليمياً – عالمياً متماسكاً فلم تصمد أسبوعاً في المواجهة لينتهي أمرها فوراً.

وبالمناسبة أيضاً ليس هنالك سابقة في تاريخ القوى العظمى، ولا سيما أمريكا، أن استطاعت من وراء ستار، أو من خلال الاختراق المخابراتي، أن تقوم بدعم ظاهرة مثل ظاهرة داعش ومكّنت لها وهي تُناصبها العداء المُعلن وتترك طائراتها تقصفها وتغتال قياداتها. (نائب “الخليفة” أبو بكر البغدادي اغتيل بعد أقل من شهر من إعلان “دولة الخلافة”، وفي حملة قصف أخرى بعدها استُهدِف البغدادي نفسه. ويُقال أنه جُرحَ فيها. فنحن أمام عداوة جديّة وليست هزلاً).

وبكلمة ما دام السؤال اعتمد على منطق “هل يُعقل”؟ فعليه أن يعدّل معياره لما يُعقل ولا يُعقل، فَيعقل ما هو واقع، أو ما أصبح واقعاً. فمرجعية العقل لا تحلّ محل الوقائع بل تؤسّس عليها.

سؤال: لو قصدت أمريكا أن تقضي على داعش فعلاً لأرسلت قوات اجتاحتها. ولكنها تستخدمها لغرض في نفس يعقوب. فهي تحاربها بقدر، أو بنصف حرب؟

الجواب: بالفعل كان في الماضي بمقدور أمريكا أن ترسل القوات وتخوض الحروب البريّة ضد أعدائها أو خصومها. ولكنها اليوم غير قادرة بعد تجاربها الفاشلة في العراق وأفغانستان، وبعد أن لم يعد باستطاعتها واستطاعة الرأي العام الأمريكي استقبال جثامين جنود أمريكيين من حرب، ولو كانوا بالعشرات فكيف بالمئات والآلاف. لذا فإن فرضية الاكتساح غير واردة ليس بسبب انعدام الرغبة وإنما بسبب الخوف من الفشل وعدم احتمال المخاسر البشرية. ومن ثم من يقيس أمريكا اليوم على ما كانت عليه في القرن العشرين أو حتى في مرحلة جورج بوش الابن الفاشلة، يخطئ في فهمها في المرحلة الراهنة، ويغلط في تقدير الموقف واحتساب موازين القوى العالمية والإقليمية. فأمريكا فقدت ما تتمتع به من سطوة وسيطرة ودور قيادي. وقد جاء التدخل العسكري الروسي الأخير وامتلاكه لزمام المبادرة السياسية بحثاً عن حل سياسي في سورية ليشكل دليلاً قاطعاً على ما لحق بأمريكا من ضعف في ميزان القوى.

أما القول أنها تحارب القاعدة أو داعش نصف حرب، أو بقدر محدود لا تتجاوزه، فتفسير ذلك يكمن في مدى قدرتها في ميزان القوى العام وليس في أنها قادرة على حرب شاملة ولكنها تريدها نصف حرب لغرض في نفس يعقوب.

وبالمناسبة كانت أمريكا في صدد عدم التدخل في العراق عسكرياً حتى بعد سيطرة داعش على الموصل. وأما ما دفعها للتدخل العسكري فالخطر الذي شكلته داعش على الكيان الكردي في العراق بعد توجهها نحو أربيل وتراجع البشمركة أمامها. ولكن مع ذلك حصرته بالتدخل من خلال الطيران وبعض الخبراء فقط. وهذا من أضعف ألوان التدخل. لأن الحسم يكون على الأرض وليس من الجو.

إن هذا الفهم لميزان القوى ودور أمريكا فيه يجب ألاّ يحجب التناقض والصراع والعداوة بين أمريكا والقاعدة وداعش من جهة أو يقبل بنظرية أن هذه القوى صنيعة أمريكية من جهة ثانية. ولكن من جهة ثالثة يجب ألاّ يعمى هذا الفهم عن سياسات أمريكية ضمن الضعف والعجز تذهب لاستغلال صراعات داعش مع قوى أخرى وتستخدمها، بصورة غير مباشرة، ضدّها. فهنالك من تعاديهم أمريكا وتعتبرهم أشدّ خطراً عليها من داعش والقاعدة.

وهنا تدخل السياسة في التعقيد والتحليل المرّكب بعيداً من التبسيط الذي حمله السؤال أعلاه. فعلى سبيل المثال تعتبر أمريكا إيران وحزب الله وسورية وحماس وحركة الجهاد أشدّ عداوة. ناهيك عن روسيا والصين وقوى أخرى كثيرة في العالم. وذلك بالرغم من أن استراتيجيتها المعلنة تعتبر “الإرهاب” هو العدو رقم 1 وقد ترجمته في مرحلة بتسليط الضوء على القاعدة وفي أخرى على داعش وفي أخرى على كل من يُقاوِم الكيان الصهيوني أو تعتبره الصهيونية العالمية عدواً. الأمر الذي جعل هذه الاستراتيجية متخبطة مرتبكة وملتبسة والأهم أدّى بها إلى تجاهل ما تشكّله روسيا والصين كدولتين كبرَيَيْن من تهديد لسيطرتها على ميزان القوى العالمي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

سؤال: لو أسقطنا جدلاً بأن داعش ليست صنيعة أحد وإنما صنيعة نفسها فكيف يفسّر صعودها السريع هذا واتسّاع رقعة سيطرتها، وما تلقته من دعم، بصورة أو بأخرى من قبل دول كثيرة؟

الجواب: إلى جانب ما تتمتع به من سمات ذاتية مثل التجرّؤ على المغامرة والمخاطرة وما يمارس من سياسات قتل وتمثيل وتنكيل بهدف إخافة خصومها ودبّ الرعب في قلوبهم (وهذا يفسّر حرصها على توزيع ذلك من خلال الصوت والصورة وعلى أوسع مدى)، فإن موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية ساعدتها، بصورة موضوعية، وذلك من خلال ما تتسّم به تلك الموازين من سيولة وفوضى وصراع وانقسامات وارتباكات في صفوف الدول الكبرى والإقليمية. وهذا البعد لا تفيد منه داعش فقط بل قوى كثيرة أفادت منه وما تزال تفيد منه وقد تضاعفت قدراتها وقوتها مثلاً روسيا كما نشهد الآن.

أفادت داعش، بداية، من انهيار الدولة العراقية الذي تمّ عبر الاحتلال الأمريكي. ثم انتقال الوضع الداخلي إلى مرحلة الانقسامات الطائفية والعشائرية والجهوية، واستفحال الفساد في الدولة قيد التكوين. مما أفشل بناء دولة قوية والانتقال إلى إجماع وطني متماسك. فضلاً عما أتاحه، أو يتيحه، ذلك من تدخلات إقليمية ودولية.

ما حدث من انقسامات وصراعات دولية وإقليمية وعربية وداخلية دفع قوى كثيرة وفي أوقات ومراحل مختلفة إلى تسهيل انتقال المقاتلين من عدة دول إلى سورية فالعراق والانضمام إلى داعش وغيرها من التنظيمات. وذلك بهدف ضرب النظام في سورية من دون أن يحسب جيداً ما يحمله ذلك من مخاطر كالتي حدثت مثلاً القوّة والسيطرة اللتين تمتعت بهما داعش. وهو ما ينطبق على الدول التي دعمتها، بصورة غير مباشرة، وربما مباشرة، بالمال والسلاح أو شراء النفط الذي سيطرت عليه في العراق وسورية.
هنا وجب التفريق بين تفسير ما تلقته داعش من تسهيلات أو أموال أو سلاح راحت تعتبر من وراءه مسخرين وهي تضمر لهم الذبح بعد حين من جهة وبين اعتباره دليلاً لعمالتها لهذا الطرف أو ذاك كما يحاول البعض اتهامها به من جهة أخرى. حقاً إن داعش تلقت دعماً من عدّة دول. ولكن ما من واحدة يمكن اعتبار رسن داعش بيدها. فهي قوّة متفلتة.

فالذين اتهموها بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك ممن دعمها في مرحلة ما، بشكل أو بآخر، وكان مراده استخدامها ضدّ أحد خصومه، وجدوا أنفسهم محرجين عندما اندلع القتال بين داعش وذلك الطرف الذي اتهمت بالعمالة له، أو اتهم بالتواطؤ معها. وهؤلاء لم يخرجوا من حرجهم عبر إعادة النظر في ما قدّموه من قراءة وإنما لجأوا إلى نسيان ما قالوه. وبعضهم حين ووجِهَ بهذا الحرج فسّره بالقول “انقلب السحر على الساحر”. وإذا سؤل كيف؟ ذهب إلى تأويلٍ أقدامَه من خشب.

والسؤال الذي يطلب تفسيراً بعد الإجابات آنفة الذكر ما الفائدة من إبعاد القراءة التي تعتبر داعش صنيعة أمريكا وإعفاء أمريكا من المسؤولية عما تفعله داعش:

الجواب ببساطة أنك لا تستطيع أن تضع خطة متماسكة لمواجهة داعش والانتصار عليها ما لم تقرأها على حقيقتها، وما لم تعرف حقيقة علاقات كل دولة بها، وما لم تضع يدك على موازين القوى والظروف والفتن المذهبية التي سمحت لداعش بأن تنمو وتقوى وتتمكن إلى الحدّ الذي وصلت إليه: فكل حسابات تُبْنى على خطأ، وكل اتهام يُبْنى بقصد التحريض وتبسيط هدف الصراع بعيداً عن الحقيقة سيكون مآلهما الفشل والحرج وعدم القدرة على المواجهة.

هذا دون الحديث عن أهمية قيم القسط والعدل مع العدو والخصم كما مع النفس والقريب باعتبار ذلك ليس من الإيمان ومن حميد الخلق فحسب وإنما أيضاً من الصواب في إدارة الصراع، ومن التقدير الصحيح للموقف الذي يؤدي إلى توفير أسباب النصر. ولكن مع إيجاد العذر لمن يخطئ في القراءة وتقدير الموقف في هذه المرحلة التاريخية الجديدة عما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى 2010. فهي مرحلة محيّرة للألباب وخارج ما كان مألوفاً ومن المسلمات.

وختاماً، وبكلمة، عندما تُربَط داعش براعٍ لها أو بقادرٍ على توجيهها، ولا ترى أسباباً كالانقسامات الطائفية أو كالفساد في مؤسسة الجيش الذي يحاربها فسوف تبني استراتيجية الرد على مواجهة داعمها وراعيها، وليس على معالجة الانقسامات أو الفساد اللذين ينخران في جبهتك ولا يعززانها، ولا يسمحان بتشكل جبهة المواجهة الناجحة ضدّ داعش. ومن هنا فإن الإجابات عن الأسئلة أعلاه ليست ترفاً، وليست لأغراض البحث العلمي الصرف، وإنما من أجل تصحيح استراتيجية المواجهة.

- في المنهج: موضوعتان لا تُقيمان دليلاً

ثمة موضوعتان خطرتان على العقل والقراءة الصحيحة للظواهر والمواقف أخذتا تنتشران في هذه الأيام. وذلك في خضم ما يسود الأوضاع العربية داخل عدد من الدول أو على المستوى العام من صراعات وانقسامات وبروز ظواهر شاذة ومعادلات موازين قوى جديدة، وما يسيل من دماء، ويرتكب من جرائم ومجازر، ويحدث من كوارث.

وهاتان الموضوعان ليستا جديدتين، أو ليستا ابنتين لهذا الخضم الذي لم يسبق له مثيل. ولكنهما راحتا تستخدمان على نطاق واسع. وأصبحتا الملجأ لكل من يعصى عليه تحليل ظاهرة جديدة أو موقف جديد. الأمر الذي جعل المعقّد أكثر تعقيداً، والعسير على الفهم والتحليل أكثر عسراً. لأن الموضوعتين لا تعنيهما الحقيقة، أو الدقة في فهم الظاهرة، أو الموقف. فتميلان إلى التبسيط بما يُرضي المُراد والحكم المُسبق.

الموضوعة الأولى استُخدِمت كثيراً من جانب الشيوعيين واليساريين والأحزاب والأنظمة الوطنية والثورية والقومية والإسلامية في الحُكم على مخالفيهم ولا سيما من الذين كانوا في صفهم وخندقهم واختلفوا معهم.

وذلك باتهامهم بالعمالة، إن لم يكن بالارتباط المباشر، فباستخدام حجة “موضوعياً”. طبعاً الإثبات بالارتباط المباشر ليس سهلاً، ولو انتُزِعَ الاعتراف تحت التعذيب. لأنه سيظل خالياً من الدلائل الملموسة غير دليل “الاعتراف”. ولهذا كان الاتهام بخدمة العدو الامبريالي أو غير الإمبريالي ينطلق من اعتبار الرأي الذي يعبّر عنه المخالف أو انقسامه يخدم “موضوعياً” العدو. وبهذا يصبح المخالِف بمنزلة “العميل” أو العدو “موضوعياً”. وموضوعياً هنا تُغني عن القصد والنيّة، ولو كانا صادقين، فما دمت تخالفني أو تواجهني أو تنقسم عني فأنت “موضوعياً” تخدم الخصم أو العدو. وقد يصبح الذي يقف على الحياد أو يحاول التوفيق بين من كانوا في صف واحد أو خندق واحد، “يخدم العدو موضوعياً”. فموضوعياً قد تجرّم البريء والغيور والصادق والمحايد والموّفق ما دمت أنت المعيار القويم الوحيد المقابل لذلك العدو.

وهكذا يتم التحريم وتثبت التهمة بلا حاجة إلى وقائع ودلائل، إذ يكفي برهان “موضوعياً”. الأمر الذي يعني أن الأخذ بهذه الموضوعة في إقامة الحجّة على طرف ما أو موقف ما يُعطّل العقل والقراءة الصحيحة للظواهر والمواقف. ويسمح بالتلفيق ومصادرة الوقائع والدلائل.

من هنا يصبح إسقاط الحجّة التي تقوم على أساس إثبات التهمة أو التجريم، “موضوعياً”، ضرورة أخلاقية، وعلمية، وذلك أقرب للعدل وللحقيقة، لمن يحرص عليهما، وأقرب للإيمان والتقوى لمن يأخذ بالإسلام.

والبديل هو الحكم على المواقف والظواهر بالدليل والوقائع والرأي المطابق للحقيقة وليس بالاستنتاج “موضوعياً” باعتبارك أنت المعيار، أو ما تراه صحيحاً هو المعيار حتى لو كان مخالفك في خندقك وعنده خيار آخر يراه الأصح.

أما الموضوعة الثانية التي أخذت تنتشر في فهم عدد من الظواهر الجديدة والمواقف هي الاستناد إلى “الإختراق الأمني” الذي يفسّرها ويقف وراءها.

فبدلاً من أن تُقْرَأ ظاهرة تطرف باعتبارها ظاهرة قائمة بذاتها لها عقيدتها وأفكارها وسماتها وطبيعتها ومنهجها، وتُقرَأ الظروف وموازين القوى التي سمحت لها بأن تقوى وتنتشر ويشتد ساعدها وتصبح خطراً داهماً على بلد بعينه أو على الأمّة، تلجأ إلى اعتبارها صنيعة مخابرات أو تفسّر ممارساتها من خلال الاختراق المخابراتي لها.

موضوعة تفسير ظاهرة وممارساتها بالإختراق المخابراتي تبدو لدى البعض مسّلمة أكثر من موضوعة، موضوعياً، أو يمكن اعتبار الموضوعتان تكملان بعضهما بعضاً، مع هيمنة نظرية أقوى لموضوعة الاختراق المخابراتي، لماذا؟ لأن هنالك تاريخاً معروفاً ومشهوراً بما حدث ويحدث من اختراقات مخابراتية. ومن ثم لا حاجة إلى إثبات وقوع هذا الاختراق. لأننا هنا أمام بدهية لا تُناقَش. وأما من يشكك فيها أو يطلب الدليل عليها فهو مُنْكِر لظاهرة الاختراق المخابراتي. وهو ما لا يُقبَل منه.

المشكل هنا ليس في إثبات وجود اختراق مخابراتي أو عدمه. وإنما في تحديد مدى تأثيره في طبيعة الظاهرة وأهدافها وسياساتها وممارساتها، أو تحديد دور الاختراق المخابراتي في الظاهرة أكانت حزباً أم تنظيماً أم دولة. علماً أن ما من ظاهرة إلاّ وتتعرّض للاختراق المخابراتي. وأن الأدّلة على حدوث ذلك كثيرة، وتكاد تكون عامة. ولكن السؤال هو ما حدوده وما تأثيره وما فعله، وأين مكمن خطره؟

إذا حدث اختراق مخابراتي في حزب أو حركة أو تنظيم أو دولة لا يعني أن المستهدف أصبح ظاهرة مخابراتية أو أصبح تحت تأثير الاختراق. وهنا يصبح من الضروري إدراك حدود الاختراق عموماً. ومن ثم يجب أن يسقط كل وهم يظن أن الاختراق يحدّد سمات الظاهرة وطبيعتها وسياساتها وممارساتها. فهو لا يستطيع إلاّ أن يصبح قولاً وعملاً جزءاً منها وليس العكس. وإلاّ انقلبت كل الحالات المخترقة إلى نقيضها إذا كان بمقدور الاختراق أن يغيّر في سماتها الأساسية أو في ما رسمته لنفسها من سياسات وممارسات وطرائق عمل. فالذي يتحدث عن الاختراق عليه أن يدرك حدوده ولا يُبالِغ فيه. وإلاّ عطّل العقل والقراءة الصحيحة لحقيقة الظواهر (الأحزاب، الحركات، التنظيمات، الدول) والمواقف.

فالسؤال الأهم الذي يحسم الموضوع هو إلى أي حد يمكن للاختراق المخابراتي أن يفعل فعله في تحديد سمة الظاهرة المعنية وطبيعتها وسياساتها وممارساتها؟

الجواب أن كل اختراق مخابراتي لا يستطيع أن يقترب للمساس بالسمة الأساسية للظاهرة، كل ظاهرة، أو يغيّر في طبيعتها وسياساتها وممارساتها. لأنه فوراً سيُكشَف ويُلفَظ، أو يُقتل. ولهذا فالقانون الحاكم للاختراق هو السير والعمل ضمن السمة الأساسية وعدم مخالفة طبيعتها أو سياساتها أو ممارساتها. فهو هنا لا يملك إلاّ أن ينقل معلومات من داخلها لخصومها لتسهيل ضربها. وهذا يجب أن يمارسه بحذر شديد وإلاّ احترق فوراً.

الاختراق المخابراتي يمكن أن يلعب دوراً تخريبياً حين يتعكر الماء داخل الظاهرة مثل اندلاع صراع بين الأجنحة. هنا يمكنه أن ينضم لإحداها ويُفاقِم الصراع ولكن يجب أن يتقيّد بما يريده ذلك الجناح الذي انضم إليه.

فنظرية الاختراق المخابراتي يُبالَغ فيها من جهة، ولا يحدّد بالضبط المدى الذي يمكن أن يؤثر فيه الاختراق. ولكن في كل الأحوال لا يستطيع تغيير السمة الأساسية في تكوّن الظاهرة وطبيعتها وسياساتها وممارساتها وأيديولوجيتها. فدوره يقتصر على نقل معلومات سريّة، أو الصيد في الماء العكر. لأن الظواهر تنشأ عادة بصورة مستقلة عن الاختراق المخابراتي. وإلاّ لا قيمة لها ولا معنى ولا مستقبل لها إذا كانت منذ النشأة مخابراتية.

فنظرية الاختراق المخابراتي تدخل ضمن الكسل الفكري في القراءة التي تعجز أو تخشى أن ترى للظاهرة كينونتها وأيديولوجيتها وسياساتها وممارساتها القائمة بذاتها. ومن ثم يُصار إلى محاربتها والتحريض ضدها استناداً للخلل في تلك الكينونة والأيديولوجية والسياسات والممارسات. والذي قد يصل إلى حد الاجتثاث والإبادة.

ففي التاريخ الإسلامي مثلاً كانت الردّة المسلحة بحد ذاتها كافية لتحارَب حرباً ضروساً بلا حاجة إلى أن تُعْتبَر صناعة دولة معادية، أو عميلة، أو مخترقة من الأجهزة المخابراتية وكان هذا الشأن في محارِبَة الظواهر الشأن سواء أكانت أيديولوجية أم مُفسِدة في الأرض.

أما ما يمكن أن يُتهَم بالعمالة بحق فينبغي أن يقوم الدليل على ذلك، وأن لا تقوم التهمة على أساس الالتقاء “الموضوعي” مع سياسة العدو أو على أساس وجود اختراق مخابراتي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 35 / 2165513

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2165513 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010