الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- (27)

الانتفاضة تنتصر على عدوها ويهزمها مرضها

لعل شعب الانتفاضة العظيم قادرٌ على هزيمة عدوه، وتمريغ أنفه، وكسر نفسه، وتلقينه دروساً جديدة يضيفها إلى تاريخه، ويراكمها إلى خبرته، وهو على ذلك قادر، وتجربته معه تشهد، وتاريخه الطويل معه يؤكد على قدرته على الصمود أمامه، ومواجهة مخططاته وإفشال سياساته، فهو لا يخافه ولا يخشاه، ولا يحذره ولا يهرب منه، ولا يفر من أمامه أياً كانت قوته وسلاحه، وبطشه وإرهابه، وبغض النظر عن حلفائه ومناصريه، ومؤيديه ومعاونيه، الذين ينصرونه ظالماً، ويؤيدونه معتدياً، بل إن بطش العدو يزيد الفلسطينيين قوة، وشدته تزيدهم بأساً، وظلمه يزيدهم صبراً، ورجاله وأبطاله على مدى الأيام يثبتون أن هذا الشعب لا يخاف من عدوه، ولا يستكين له ولا يخضع، ولا يذل له ويخنع، ولا يستسلم له ويركع.

الفلسطينيون يتكفلون عدوهم، ويعلنون استعدادهم لمواجهته، ولا يبدون عجزهم عن القيام بمهتمهم هذه التي لا يرون أنها مستحيلة وإن كانت صعبة، ويعتقدون بنهايتها الإيجابية وإن كان نفقها مظلمٌ وطويل، ومقلقٌ ومخيف، ولكنهم يشكون في قدرتهم على مواجهة مشاكلهم الداخلية، ومعالجة أدوائهم البينية، فقد أعجزهم الانقسام، وأوجعهم الاختلاف، ونالت منهم الفرقة والخصومة والنزاع، وتضررت سمعتهم، وبهتت صورتهم، وتراجعت هيبتهم، وانفض المؤيدون والمناصرون من حولهم، لا بسبب عدوهم الباغي الطاغي، وإنما بسبب الانقسام الذي جعل العدو على جراحهم يرقص، وعلى أحزانهم يترنم، وقد تأكد لديه وهم على هذا الحال الانتصار عليهم، ولم يعد في حاجةٍ إلى بذل المزيد من الجهد، أو تقديم المزيد من الخسائر، فقد كفاه الفلسطينيون بانقسامهم مؤونة المواجهة، وضريبة المقاومة.

لا شيء أعيا الفلسطينيين كانقسامهم، ولا شئ أخزاهم أمام محبيهم كنزاعهم، ولا شئ يضعفهم كالخصومة فيما بينهم، فالاختلاف الداخلي قد فت في عضدهم وجرأ العدو عليهم، ومكنه منهم، وجعله يسخر منهم ويتهكم، ويستخف بهم ويهزأ، والفلسطينيون يعلمون ذلك يقيناً، ولا يشكون في أنه عيب مشينٌ، وفعلٌ قبيحٌ غريبٌ، وسلوكٌ مهينٌ مذل، ويعرفون أن هذا هو مرضهم العضال أو هو السم الزعاف، وقد يكون فيه مقتلهم الأكيد، وخاتمتهم الوخيمة، وأن أحداً لا ينقذهم منها أو من المرض وخاتمته الموت سواهم أنفسهم، فهم الذين يعرفون الداء ويعرفون الدواء، وهم الذين يشكون من المرض ويعرفون سبل الشفاء منه.

الغريب أن قيادة الشعب الفلسطيني وقادة فصائله وأحزابه، يعلمون أن الشعب هو الذي يدفع ثمن اختلافهم، وثمن انقسامهم، وربما كثيرٌ منهم لا يعاني ولا يشعر بحجم الأذى الذي يعاني منه الشعب، فهم يملكون امتيازاتٍ وعندهم صلاحياتٍ، ويتمتعون بأعطياتٍ كبيرة وهباتٍ مميزة، وعندهم بطاقات مهمة للشخصيات الهامة، وعندهم تسهيلاتٌ خاصة، فلا يضطرون للوقوف على الحواجز، ولا يتأخرون عن مواعيدهم ومصالحهم، إذ لا يعيقهم أحد، ولا يمنعون السفر، ولا يضيق عليهم عند العودة إلى الوطن، ولهذا فهم يعيشون بعيداً عن الشعب ومنبتين عنه، فلا يشكون ولا يعانون، ولا يشعرون بعمق الأزمة وخطورة المشكلة، ولا يستعجلون حلها ولا يبذلون قصارى جهودهم لتسويتها، بل يعيقون الحل، ويضعون العقبات والعراقيل، ويبتعدون عن الحلول السهلة والمخارج الطبيعية الممكنة.

ربما أن الشعب قادرٌ على الخروج إلى الشوارع والطرقات في مظاهراتٍ صاخبة ومسيراتٍ حاشدة ضد العدو الإسرائيلي، وأبناؤه يستطيعون أن يمطروا جنوده بالحجارة، وأن يقصفوا مدنه وبلداته بالصواريخ والقذائف، وأن يربكوه فلا يستقر، وأن يشوشوا عليه فلا ينجح، وأن ينالوا منه فلا يفرح، ومن الفلسطينيين من يستطيع اجتياز الحواجز والإفلات من نقاط التفتيش، والالتفات على مواقعهم ومهاجمتها، ومراقبة جنودهم وقنصهم، ويستطيع أن يطلق عليهم النار ويقتلهم، أو يخطفهم ويخفيهم، وغير ذلك الكثير مما يستطيع الفلسطينيون فعله، خلال مسيرتهم النضالية مسارهم المقاوم.

وهم اليوم يخرجون فعلاً في انتفاضةٍ عظيمة، عنوانها الوحدة، ووقودها الاتفاق، ومسارها التلاحم وسبيلها التنسيق والتكامل، يتقدمها جيلٌ من الشباب لا يخشى الموت بل يصنع الشهادة بنفسه، ويتقدم إليها باسم الثغر واثق الخطى راضياً عن نفسه، مطمئناً إلى قدره، وشعبهم معهم وإلى جانبهم، يحمونهم ويقاتلون، ويدافعون عنهم ويقتحمون، ويتحدون بإرادتهم الصادقة الاحتلال، ويطالبونه بالخضوع لشروطهم، والنزول عند حقوقهم، والحفاظ على مقدساتهم وعدم المساس بها، أو محاولة تغيير ملامحها وتبديل هويتها، وإلا فإنهم سيمضون في انتفاضتهم، وسيواصلون مقاومتهم حتى تحقيق كامل أهدافهم.

لكن الشعب الفلسطيني يرفض في هذه المرحلة العصيبة والظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة كلها، أن يثور ضد قيادة السلطة أو قادة القوى والفصائل، رغم أنه لا يقبل بسياستهم، ولا يوافق على منهجهم، وينتقد سلوكهم، ويعيب عليهم اجتهاداتهم، إلا أنه يرى أن الخروج على قيادته محرماً، والتظاهر ضدهم ممنوعاً، واستخدام القوة في مواجهتهم خطاً أحمراً، لأن هذا الأمر من شأنه أن يزيد في حالة الانقسام، ويباعد بين فرص التلاقي والاتفاق، ولهذا فهو يؤثر أن يحارب عدواً، فيقتل أو يُقتل، على أن يواجه فريقاً منه فيضعف ويضعفون، ويخسر ويخسرون، ولكنهم يأملون من القيادة الفلسطينية كلها أن تدرك قيمة هذه القاعدة الذهبية التي تصون الشعب وتحمي القضية، وأن يعملوا بها وبموجبها من أجل قضيتهم، وإكراماً لانتفاضتهم، ووفاءً لشعبهم الذي يسبقهم ويضحي.

كان أمل جيل الانتفاضة الفلسطينية وشعبها، أن تكون سلطتها وقيادة أحزابها متفقة ومتعاونة، تسبقهم إلى الميدان وتتقدمهم على خطوط المواجهة، وتخطط معهم وتضحي مثلهم، وتقود جمعهم وتنظم صفهم وتوحد كلمتهم، إذ أن في الوحدة قوة، وفي الاتفاق صلابةٌ ومتانة، ولا يقوى العدو على هزيمتهم وهم جماعة موحدة، ونواةٌ مستعصية، وجوزة حقيقية لا تنكسر، كما لا يستطيع إذلالهم وإنهاء انتفاضتهم والتأثير على مقاومتهم، وهم صوتٌ واحدٌ، وإرادة مشتركة، يحملون هدفاً واضحاً محدداً، ويعرفون عدوهم جيداً، ويحسنون التصويب نحوه فقط، فلا يخطئون الاتجاه، ولا ينحرفون عن المسار، حينها على عدوهم ينتصرون، والشعب يكفل لهم هذا الانتصار ويضمنه.

- (28)

إسرائيل تعلن الحرب على أطفال فلسطين

إنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحرب على أطفال فلسطين، فقد سبق لها أن أعلنت عليهم الحرب أكثر من مرة، وخاضتها بالفعل ضدهم، فقتلتهم واعتقلتهم، وحاصرتهم وجوعتهم، وهدمت بيوتهم وهشمت ألعابهم، وضيعت مستقبلهم ودمرت مدارسهم، ومزقت دفاترهم ونثرت كتبهم، وآذت أجسادهم وأضرت بنفسياتهم، وأصابت الكثير منهم بعاهاتٍ مستديمة وأمراضٍ مستعصية، ومنعت علاجهم ورفضت سفرهم، وحبست عنهم الحليب والدواء، وكل ما يحتاجه الطفل الصغير في أيامه الأولى ليكبر، وفي صباه ليتعلم ويستفيد.

اليوم يقوم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتطوير السياسة القديمة، التي هي امتدادٌ لأصلٍ وتقليدٌ عريقٌ في الديانة اليهودية، التي تكره أطفال غيرهم، وتتمنى موتهم وتسعى إلى ذلك، ويشهد على جرائمهم ضد الأطفال جيرانُهم العربُ قديماً، والأوروبيون في القرون الوسطى، وفي عمق التاريخ قصصٌ وحكاياتٌ كثيرة عن حقدهم على الأطفال، وكانت الفطيرة التي اعتادوا على صناعتها في أعيادهم، تمتزج بدماء الأطفال التي يستنزفونها بالإبر التي توخز أجسادهم، ويجمعونها في براميل، ثم يصنعون بها عجينة الفطيرة، التي يطعمون منها من حضر منهم، صغيراً كان أو كبيراً، والأنثى قبل الذكر.

فقد أعلن نتنياهو عن سلسلةٍ طويلةٍ من الإجراءات العقابية في حق الأطفال، علماً أنه لا يعترف ولا يقر بالتعريف الدولي للأطفال، حيث تعتبر سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن الطفل هو من لم يتجاوز عمره السادسة عشر، وسوى ذلك فهم رجالٌ، لا يعترفون بطفولتهم ولا يحترمون القوانين التي صنفتهم، ولا ينطبق عليهم أي ميثاقٍ يتعلق بالأطفال، ولا تشملهم أي معاهدة تكفل حقوقهم وتمنع انتهاك طفولتهم، بل يعاملونهم كما الكبار، اعتقالاً وتعذيباً وسوء معاملة، والسجون والمعتقلات الإسرائيلية تشهد على هذه السياسة، إذ فيها مئات الأطفال الذين يعانون في سجونها من ظلم قوانينهم وعسف إجراءاتهم.

شَرَّع رئيس الحكومة الإسرائيلية في معرض محاولته إطفاء لهيب الانتفاضة المتصاعدة، التي كان للأطفال دورٌ لافتٌ فيها، لجيش كيانه وأجهزته الأمنية والشرطية، حق إطلاق النار على أي فلسطيني يعتقدون أنه يشكل خطراً على حياتهم ولو كان طفلاً صغيراً، وقد استجابت قيادة أركان جيش الاحتلال لتعليماته فسمحت لجنودها بإطلاق النار كيف شاءت، في الوقت الذي دفعت الأجهزة الأمنية إلى تحديد بيوت الأطفال المتورطين وتدميرها، واعتقال أفراد أسرهم ومعاقبتهم.

كما أعطى أوامره وتعليماته للمحاكم العسكرية الإسرائيلية بإصدار أعلى الأحكام، وفرض أعلى الغرامات على ذوي الأطفال وأسرهم، معتبراً أن قذف الحجارة على الجنود الإسرائيليين أو على مواطنيهم وسيارات مستوطنيهم جريمةً كبيرة، لا ينبغي الاستخفاف بها أو التقليل من آثارها، ودعا إلى الشدة في الأحكام ضدهم، والعنف في التعامل معهم، في مسعى منه لأن تكون الأحكام العسكرية رادعة للأطفال وذويهم، ليكفوا عن أي أعمالٍ مناهضة لهم أو مخلة بالأمن، علماً أن عدد الأطفال الذين اعتقلوا منذ بدء الانتفاضة قد اقترب من الألف، وذلك خلال مدةٍ لا تتجاوز الشهر من عمر انتفاضة القدس الوليدة.

الكيان الصهيوني يعلن من أعلى منابره الحكومية، وبأرفع مسؤوليه وقادته، وباسم رئيس حكومته اليمينية المتشددة، الحرب على الأطفال وذويهم، وأنه لا ينوي رحمتهم ولا الرأفة بهم، ولا مراعاة عمرهم والتيسير عليهم لحداثة سنهم، بل أعلن عن إجراءاته القاسية غير مبالٍ بجريمته التي يرتكبها، وغير خائفٍ من المساءلة أو المحاكمة، وكأنه قد ضمن القانون وأسكت رجاله وأرضاهم، أو أنه خدرهم وأسكرهم، فناموا عن ظلمه، وأغفلوا جرائمه، ولم يعد أحدٌ يقوى على معارضته، بل باتوا يبررون أفعاله، ويحيزون أحكامه.

ربما يظن البعض أن تشريعات الحكومة الإسرائيلية الأخيرة جديدة، وأنها لم تكن من قبل، وأن الإسرائيليين قبلها كانوا رحماء مع الأطفال، وإنسانيين في التعامل معهم، فلا يعتدون عليهم ولا يقتلونهم، ولا يعذبونهم ولا يسجنونهم، لكن الفلسطينيين لا ينسون سياسات وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه أرنس، الذي اعتمد ضد أطفال الحجارة إبان الانتفاضة الأولى سياسة تكسير الأطراف وتهشيم العظام، ما ألحق بهم أضراراً كبيرة وأذى شديداً، فكان الأطفال الفلسطينيون يفضلون الشهادة على الضرب، الذي كان مبرحاً وقاسياً، وموجعاً ومؤلماً، حيث كانوا يضربونهم بالهراوات الغليظة، وبأعقاب البنادق، وأحياناً يرضخون رؤوسهم ويكسرون أطرافهم ويهشمون عظام أيديهم وأصابعهم مستخدمين الحجارة الصخرية، التي تفتت العظام وتسحق الجسد، وقد شهدت سنوات الانتفاضة الأولى حالاتٍ من تعذيب الأطفال دونها القتل بكثير.

العدو الصهيوني اعتاد بضميرٍ ميتٍ وإحساسٍ متبلدٍ على اغتيال الطفولة البريئة، فقتلهم بالبندقية والقذيفة، وبالصاروخ والمدفع، وسحقهم بالدبابة والجرافة، وقضى عليهم تحت أنقاض البيوت المدمرة، والسقوف الساقطة، والجدران المتصدعة، وتركهم للمرض يفتك بهم، وللجوع ينهش أمعاءهم، وحرمهم من اللعب والضحك، ومن العبث واللهو، ومن الخيال والحلم، واستهدف بجرائمه النكراء الأطفال الرضع والأجنة الذين ما زالوا في أرحام أمهاتهم يخلقون ويتشكلون، فقتلهم وأمهاتهم أحياناً، كما أجهض النساء الحوامل فخنق أجنتهن في أرحماهن.

العدو الصهيوني مريض النفس، معتل العقل، أعوج الفطرة، سقيم الرؤية، يسيطر عليه الحقد القديم والكره المقيت والخبث الدفين، ويستخدم أقصى ما لديه من قوةٍ لسحق عظام الأطفال المرنة الطرية، وسحل أجسادهم الغضة اللدنة، ولا يبال بدمعةٍ منحدرة، ولا بصرخةٍ منطلقة، ولا باستغاثةٍ ضعيفة، ولا برجاءٍ وتوسل، ويصر على استكمال جريمته ومواصلة عدوانه، في الوقت الذي يدعي فيها الحضارة والرقي، والحرية والديمقراطية، وأنه الأمين على القيم الإنسانية والمورثات البشرية، وأن جيشه الأكثر خلقاً ومناقبية، والأكثر احتراماً وتقديراً للإنسان، فلا يجهز على جريح، ولا يقتل أسيراً، ولا يعتدي على طفلٍ صغيرٍ ولا على شيخٍ عجوزٍ أو امرأة.

سيدرك هذا الجيش الدعيُ الكاذب، ورئيس كيانه المهزوز قريباً، أن أطفال فلسطين سيحملون الراية عاليةً، وسيكونون أمناء عليها، ولن يكسر ظهرهم قهرٌ، ولن يحبس حريتهم سجنٌ، ولن يمنع إرادتهم قيدٌ، ولن تذبهم أحكامٌ وسياساتٌ، وأنهم سيكونون لعنةً عليه، تسقط حكومته، وتطوي مدته، وتعيده وسارة إلى بيته متحسراً، يلحق بالسابقين، ويقعد مع القاعدين، أو يرحل بلا أملٍ في العودة.

- (29)

وصايا شهداء انتفاضة القدس الثانية

وصايا بسيطةٌ غير معقدة، فطريةٌ غير ملوثة، بريئة غير موجهة، فرديةٌ غير منظمةٍ، تلك هي وصايا شهداء انتفاضة القدس الثانية، التي تبقى بعد شهادتهم بين الخلق ذكراً لهم، وفي السماء خلوداً لا ينتهي، وبقاءً في الحياة لا يزول، يعدونها بأنفسهم فلا يعدها لهم أحد، ولا يحضرها لهم سواهم، يكتبونها بأيديهم الواثقة، وبأقلامهم الصادقة، ويخطونها دون طباعة، وبكلماتٍ محدودةٍ دون إطالةٍ، لا إطناب فيها ولا سجع، ولا مترادفاتٍ ولا تطابق ولا تشبيه ولا تورية، ولا كناية ولا وصف ولا استعارة، فقد أرادوها من القلب صادقة، بسيطةً معبرة، لا تكلف فيها ولا اصطناع، ولا رغبة لديهم من خلالها للشهرة والذكر، والصيت والشكر، إنما أرادوها بينهم وبين الله لمن بعدهم رسالة، يتلونها عليهم بعد الغياب، ويقرأونها على مسامعهم بعد الرحيل، إذ لا أصدق من نصحهم، ولا أبلغ من كلامهم، ولا أصفى من روحهم.

شهداء فلسطين لا يستعدون للشهادة بغير صدق النية، ولا يتهيأون لها بغير النقاء والطهارة، ولا يعلنون لأحدٍ عن نيتهم المسبقة، ولا وجهتهم القادمة، ولا يعقدون قبلها مهرجاناً ولا يقيمون احتفالاً، ولا يدعون وسائل الإعلام لتصور وتسجل، ولا أصحاب المدونات والمواقع الإليكترونية لينقلوا الخبر، ويسجلوا السبق.

وهم شبابٌ وشاباتٌ قرروا بأنفسهم فلم يُعدهم تنظيمٌ، ولم يُلبسهم حزبٌ لأمته، ولا ألقى عليهم شارته، ولا أحد رفع فوق صورهم شعاراته وأعلامه، ولا لقنهم كلماته وأقواله، وطلب منهم ترديد مفرداته وما اشتهر به، بل هم مثال الثورة الحرة والانتفاضة المستقلة، والإرادة الشعبية النقية، فلا ينحازون إلى أحدٍ، ولا يقبلون الحبس أو الأسر خلف قضبان حزبٍ أو فصيل، فهم إلى فلسطين كلها ينتمون، وإلى كل شعبها ينتسبون.

لكنهم يبيتون النية للثأر والانتقام، ويعزمون على النيل ممن يعتدي عليهم ويقتل، ويدنس حرمهم ويبطش، ويحرمهم من حقوقهم ويظلم، فيصممون على المضي في درب المقاومة وطريق الجهاد، رغم علمهم المسبق أنهم قد لا ينجحون في عمليتهم، وقد لا يتمكنون من طعن أحد جنود الاحتلال أو مستوطنيهم، كما أنهم غير واثقين من أن طعنتهم ستكون نجلاء، وستنال من المحتلين وتقتلهم، فقد تذهب الطعنة هباءً ولا يقتل من يتلقاها، وقد ينجو منها فلا يصاب بأذى، في الوقت الذي يعلمون فيه يقيناً أنهم سيستشهدون، وأن عشرات الرصاصات ستطلق عليهم، من الجنود والمستوطنين، ومن الشرطة والمارة، كلهم يريد قتله، بل والتأكد بمزيدٍ من الرصاصات من مقتله.

رسائلهم البسيطة مقاصدها عظيمة، وغاياتها كبيرة، ومعانيها أكبر من أن يعبر عنها متحدثٌ أو يحيط بها كاتبٌ، وهي ذات اتجاهاتٍ كثيرة وعناوين عديدة، رغم قصرها وقلة كلماتها، إلا أنها متعددة الوظائف وعميقة الأثر، وهي قادرة على الوصول إلى كل مكانٍ واختراق كل قلبٍ، واجتياز كل حدودٍ، فهي إلى ذويهم سلامٌ ووداعٌ، ورجاءٌ بالعفو والسماح، وأملٌ بالرضا والمحبة، والقبول والاحتساب، وعدم الضيق والغضب، أو الاستنكار والرفض، وفيها يُعلمونهم أنهم اختاروا طريقهم بأنفسهم، وأنهم اختاروا المواجهة بمحض إرادتهم، استجابةً لضمائرهم، ونزولاً عند واجبهم.

وهي لشعبهم ومن بقي من بعدهم دعوةٌ للصمود والثبات، والتحدي والمواجهة، وعدم الرضوخ والاستسلام، والخنوع والخضوع، يعلمونهم فيها أن هذا العدو لا يعرف غير لغة القوة، ولا يستجيب لغير المقاومة، فلا نركن إلى حوارٍ معه، ولا نطمئن إلى مفاوضاتٍ وإياه، فهو لا يعطي برضا، ولا يقبل بمودةٍ، إنما يستجيب للقوة، ويخضع للإرادة، وهو ليس الأقوى ولا الأقدر، بل نحن بحقنا أقوى منه وأقدر، ونستطيع أن نحقق ما نريد ونطمح، لكن هذا يلزمه صدق المواجهة ووضوح الغاية والهدف.

وهي إلى عدوهم إنذارٌ وبيانٌ، ورسالةٌ وتهديد، ووعدٌ ووعيدٌ، أن هذا الشعب الحر الأبي لا يفرط في مقدساته، ولا يتنازل عن حقوقه، ولا ينام عن مظالمه، ولا يسكت عمن يعتدي عليه، ولا ترغمه القوة، ولا تضعفه الطغمة، ولا يحد من عزمه البطش والتهديد وقوة السلاح، وأنه شعبٌ سيقاوم بروح الحياة، وأمل الرجاء، حتى يقتل في عدوه شر النفس وخبث الروح ودنس المقصد، وإنه على ذلك لقادر ما بقي رجاله وعاشت نساؤه، ونشأ وتربى أبناؤه، فلا يحلم العدو يوماً أنه سيقضي على هذا الشعب أو سينال منه، فروحه تسري في عروق أبنائه ثورةً، وفي عقولهم نوراً وحرية، فلا يطفئها نفثٌ ولا نفخٌ، ولا خبثٌ ولا مكرُ.

يحرص الشهداء ومعهم شهيداتُ فلسطين على الوضوء والطهارة قبل الخروج من بيوتهم، وكلهم عزمٌ ومضاء، وقوةٌ ويقينٌ، لا يترددون ولا يتراجعون، ولا يجبنون ولا يخافون، رغم الخاتمة التي تترائى أمامهم، والصورة التي يعرفونها عمن سبقوهم، الذين فاق عددهم الثمانين شهيداً، وقد قضى أكثرهم في المكان، ولكنهم قبل المغادرة يودعون أهلهم، ويقبلون يد أمهم، ويطبعون قبلةً على جبين أحبابهم، ويستودعون البيت الذي فيه ولدوا وعاشوا، والأحياء التي تربوا فيها ونشأوا، ويغادرون بيوتهم وهم يعلمون أنهم قد لا يعودون إليها مرةً أخرى إلا جثةً هامدةً على أكتاف الرجال، ولكنهم يعتقدون أن القدس تستحق منهم التضحية، وفلسطين يلزمها المزيد من البذل، وقد اشتروا من الله سبحانه وتعالى بدنياهم الفانية جنة الخلد الباقية.

أيها الشهداء الكبار، أيها الأبطال العظماء، لا شئ يوفيكم حقوقكم، ولا كلماتٍ تستطيع أن تعبر عن تقديرنا لكم واعتزازنا بكم، ولا أحد يستطيع أن يرتقي إلى منبرٍ منه يخاطبكم، ومن فوقه يتحدث عنكم، فأنتم أكبر من كل كلمةِ مدح، وأعظم من أي إشادة، وأسمى من أي فخرٍ، أنتم القصة والحكاية، والبداية والنهاية، وأنتم الخبر والرواية، فلا تحوطكم قصيدة، ولا ترفعكم أنشودة، بل أنتم الذين ترفعون من يشيد بكم ويفخر، ويذكر أسماءكم وينشر صوركم، طوبى لكم حيث أنتم اليوم في جنات الخلد تحبرون، ومع الأنبياء ومن سبقكم من الشهداء تجتمعون، وهنيئاً لأمةٍ أنتم أبناؤها، ولشعبٍ أنتم منه تخرجون وإليه تنتسبون.

- (30)

شكاوى سياسية وتحديات أمنية إسرائيلية

رغم مظاهر القوة والتفوق الإسرائيلية، وادعاءات السيطرة والهيمنة، وارتفاع أعداد الشهداء ومضاعفة أعداد الجرحى الفلسطينيين، وقلة عدد القتلى الإسرائيليين، الذين بلغ عددهم بعد مضي أكثر من شهر على بدء الانتفاضة، اثنا عشر قتيلاً دهساً وطعناً، وعدم خطورة أغلب المصابين منهم، الذين يغادرون المستشفيات بعد ساعاتٍ قليلة من دخولهم إليها، نتيجةً لإصابتهم المباشرة، أو بسبب الأزمات النفسية التي يتعرضون لها جراء اتساع نطاق عمليات الطعن والدهس، وتحولها إلى هاجسٍ يلاحقهم وكابوسٍ يداهمهم.

فضلاً عن عدم انتشار الأحداث إلى عمق المدن الإسرائيلية، سوى مناطق قليلة متفرقة لا تشكل حالةً أو ظاهرة، واقتصارها فقط على مناطق مغلقة في القدس وفي مدن الضفة الغربية، وخلف الأسلاك الشائكة في قطاع غزة، بما لا يشكل خطراً كبيراً على حياة الإسرائيليين، حيث تبدو حياتهم طبيعية في تل أبيب وبقية مدنهم وتجمعاتهم، ولا يشعر المواطنون بأن شرارة الأحداث قد تنتقل أو تصل إليهم، أو أن سكاكين الفلسطينيين قد تطالهم وتصيبهم، فلا يجدون أنفسهم مضطرين للالتفات إلى الخلف أو على الجانبين ليتقوا أي طعنةٍ أو هجومٍ مفاجئ.

إنها كلماتٌ إسرائيلية وتحليلاتٌ صهيونيةٌ، بأقلامٍ يهودية وأخرى مؤيدة لهم ومناصرة، إلا أنهم رغم محاولات تطمين النفس والمجتمع، وأوهامهم التي يعيشون عليها، وهذه الادعاءات التي يحرصون على ترويجها لإضعاف الفلسطينيين وإحباطهم، وإشعارهم بأن جهودهم تذهب هباءً، وأنها لا تحقق شيئاً، ولا تلحق بالإسرائيليين خسائر، وأنهم يفقدون حياتهم، ويتسببون في خراب بيوتهم ودمار منازلهم وتشتيت عائلاتهم، فمن الأفضل لهم حتى يحقنوا دماءهم ويحفظوا حياتهم، ويحافظوا على ما بقي بين أيديهم، أن يتراجعوا عن فعالياتهم، ويتوقفوا عن انتفاضتهم، ويمنعوا “المخربين” عن عملياتهم، الذين يورطونهم أكثر، ويجرونهم إلى مستنقعٍ أكبرٍ، لن يزيدهم إلا خسارة وندماً، وفقداً وألماً، وتيهاً أشد وفترة ضياعٍ أطول.

رغم ذلك فإن صوت القيادات الأمنية يعلو ويصخب، ويعلن العجز والضعف عن مواجهة العمليات الفردية الفلسطينية، التي يطلقون عليها اسم عمليات “الذئب الواحد أو المنفرد”، حيث أن أغلب العمليات التي نفذها شبانٌ وشاباتٌ فلسطينيون، قد كانت عمليات فردية غير منظمة، لا يتبع منفذوها إلى تنظيمات وأحزابٍ فلسطينية معينة، ولا يتلقوا منها تعليمات ولا مساعدات، وهو الأمر الذي يعقد مهمة الأمنيين الإسرائيليين، الذين يشكون من نقص المعلومات وقلة الدلائل والشبهات، فضلاً عن أن أغلب منفذي العمليات ليس لهم سجلاتٍ أمنية، ولا شواهد تدل على ميولهم ونزعاتهم الوطنية.

لهذا فإنهم يعجزون عن إحباط هذه العمليات وإفشالها قبل وقوعها، نظراً لعدم قدرتهم على اعتقال المشتبه فيهم، لقلة المعلومات أو انعدامها عنهم، حيث أنهم يعتبرون مجهولين بالنسبة إلى المجموعات والخلايا الأخرى، التي غالباً تساعد اعترافاتهم أثناء التحقيق والاعتقال المنظم على إحباط عملياتٍ قادمة، واعتقال خلايا نائمة، وإفشال مخططاتٍ قائمة، ولكن الحالة هنا باتت مختلفة وصعبة، نظراً لأن المنفذين يعملون وحدهم، ويقررون بأنفسهم، فلا يستأذنون ولا يشاورون، ولا يطلبون المساعدة والإسناد، ولا الرصد والتمويل، وهذا من شأنه أن يقلل من حجم المعلومات المتبادلة، التي من شأن امتلاك المخابرات لها، أن يحبط أو يتنبأ ببعضها.

أمام هذه المعضلة الحقيقية التي يعترف بها الإسرائيليون جميعاً، ويشكون منها بخوفٍ وقلقٍ، فإن حكومتهم ترفع صوتها عالياً، تطالب المجتمع الدولي أن يقف معها ويساندها، وأن يضغط على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لتتعاون معها، وتزيد من درجة التنسيق الأمني مع أجهزتها، وأن تدفعها لبذل المزيد من الجهد لإحباط أي عملية قبل وقوعها، فهي تستطيع أكثر من غيرها أن ترصد الغائبين وتتعرف على نوازعهم وميولهم، ولدى أجهزتها الأمنية من الأدوات والوسائل والسبل ما يمكنها من تحقيق إنجازاتٍ أكبر، وهي تؤكد للسلطة الفلسطينية أن أهدافهما مشتركة، ومخاوفهما واحدة، وعلى عواصم القرار الدولية أن تفهم ذلك وتدركه.

هذا ما عبر عنه بوضوح رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو الذي شكا الفلسطينيين إلى العالم، مدعياً أن جيشه يحمي القدس والمسجد الأقصى من وقوعه في أيدي المجموعات الإسلامية المتطرفة، ومنها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، الذي من الممكن أن تسيطر على القدس والمسجد الأقصى، وأن تعيث في الأرض الفساد، وتقتل الأقليات وتخرب الآثار، وقد تقوض السلطة الفلسطينية وتعتدي على رموزها، والشواهد التي يملكها العالم عن تنظيم داعش كبيرة وكثيرة، ولهذا فإنه يطالب قادة المجتمع الدولي أن يدعموا سياسته، وأن يؤيدوا إجراءات جيشه، ولا ينتقدوا ممارساته، وألا يصغوا إلى الشكاوى الفلسطينية والعربية، فجيشه -بزعمه-يقوم بالنيابة عن العالم بحماية الأماكن المقدسة، ويمنع سقوطها في أيدي المتطرفين والمتشددين الإسلاميين، ويحفظ حقوق أصحاب الديانات كلها في ممارسة حقوقهم وطقوسهم الدينية.

هذا بعض ما يحمله نتنياهو في زيارته إلى واشنطن، فهو يطمح أن يقنع الرئيس الأمريكي باراك أوباما وسادة البيت الأبيض بأن ما تشهده القدس والمناطق الفلسطينية ليست ثورة ولا انتفاضة، ولا هي محاولات لنيل الحقوق واستعادة المقدسات كما يدعون، إنما هي عملياتٌ إرهابية تخريبية، المقصود منها ترويع المواطنين وقتل السكان، وما السكين التي يستخدمونها في الطعن والقتل إلا امتداد لسلوكيات داعش وتصرفاتها، التي ينبذها العالم ويرفضها، ويخشى من انتشارها واتساع رقعتها، ويبدو أن باراك أوباما قد صدق حجة نتنياهو، وكذب الأدلة والصور، والشواهد والحقائق، فأعلن في استقباله لضيفه إدانته لعنف الفلسطينيين، وأكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

- (31)

ياسر عرفات الغائب عن انتفاضة القدس

أكثر ما يذكر الفلسطينيون في هذه الأيام المباركات من انتفاضة القدس الثانية، القائد الراحل ياسر عرفات، الذي تحل ذكرى استشهاده هذه الأيام، التي كانت موجعة ومؤلمة، وحزينة وغريبة، وفيها أثار خسة ونذالة الخبثاء، ومكر الخائفين الجبناء، رحل كبيراً كما كان، وعزيزاً كما أراد، ورمزاً كما بقي، وقائداً كما عرفنا، وعيونه إلى القدس ترنو، ونفسه إلى المسجد الأقصى تهفو، أن يصلي فيه ويركع، وبجبينه على أرض المسرى يسجد، وبقي حلمه شهيداً أن يدفن في ثرى القدس، وإنه لينتظر.

رحل القائد أبو عمار بينما يخوض شعبه انتفاضةً ولا أعظم منها إلا انتفاضة القدس الأولى، التي شهدها وكان أحد صناعها، وكان فيها جندياً وقائداً، وردفاً وسنداً، وعوناً وناصراً، وموجهاً ومرشداً، يعمل بصمتٍ وخفاءٍ، وهدوءٍ وسكينةٍ، دون جلبةٍ ولا فوضى، ولا ضوضاء ولا أضواء، يظنه الراؤون أنه صامتٌ ضعيف، وعاجزٌ يتفرج، ويدرك العارفون أنه فاعلٌ ويعمل، ليله نهارٌ تدبرٌ وافتكارٌ، ونهاره صحوٌ فعلٌ ومتابعة، وتوجيه ومساندة.

اغتاظ العدو الإسرائيلي وغضب منه وحنق عليه، فحاصره وعزله، وضيق عليه وخنقه، وسمه وحاول قتله، وتآمر عليه وساعد على الإطاحة به، بعد أن علم أنه يؤمن بالانتفاضة ويساعد رجالها، ويؤيدها وينصر شبابها، ويفكر فيها ويخطط لها، وقد رفض كل أشكال التعاون والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني لوأدها والقضاء عليها، وإخمادها ومنع انتشارها، فما استجاب إلى مطالبهم، ولا خضع إلى شروطهم، ولا سمع نصح أوليائهم، ولا تهديد أربابهم، وبقي على موقفه مع شعبه، وحافظ على ثوابته مع أهله، فكانت الانتفاضة في عهده قوة، وفي أيامه رفعة، ولم يسمها عنفاً أعمى، ولا فوضى خنَّاقة لا أفق لها، ولا نتائج مرجوة منها.

انتصر أبو عمار لانتفاضة القدس الأولى لأنه كان يعلم أن قوة شعبه له قوة، وعظمته له عظمة، وانتصاره على عدوه انتصارٌ له ورفعة، وقوة جديدة ومنعة، وأن الانتفاضة لا تخلف إلا عزاً، ولا تورث إلا نصراً، فأوعز إلى ضباطه وعناصره، وكوادره ورجاله بأن يكونوا على استعدادٍ تامٍ لأيامٍ قادمة، وأمرهم بالوقوف إلى جانب انتفاضة شعبهم وحمايتها من أعدائها، وصيانتها من خصومها، وتطهيرها من المتآمرين عليها، فكانت النتيجة أن أغلب شهداء انتفاضة القدس الأولى كانوا من عناصر الشرطة الفلسطينية، ومن منتسبي الأجهزة الأمنية، ومن العاملين في مؤسسات السلطة الفلسطينية، انتقاماً من موقف ياسر عرفاتٍ القائد الرجل، ومحاولةً إسرائيلية لعقابه وتأديبه، عله يغير موقفه، ويبدل سياسته.

لكن عرفات بقي على موقفه صامداً، وعلى مبادئه ثابتاً فاعتقلوا رجاله، ولاحقوا مجموعاته العسكرية التي كان يدعمها بصمت، ويوجهها بسريةٍ، وأبعدوا طبيبه، ومنعوا علاجه، وضيقوا الحصار عليه في مقاطعته، وقطعوا عنها التيار الكهربائي فبقي في مكتبه على ضوء الشمعة، يدير اجتماعاته، وينظم أعماله، ويجري اتصالاته بأبسط الأدوات المتوفرة لديه وهي جداً قليلة، ومن مكانه الضيق المحاصر بالدبابات والسيارات العسكرية الإسرائيلية، كان يبشر بأن شبلاً من أشبال القدس، سيرفع العلم فوق مآذنها، وكان يرد على من يريد قتله أنه يتمنى الشهادة ويريدها، فكانت كلماته شهيداً شهيداً شعاراً له ودالةً عليه.

لو أن ياسر عرفات بيننا اليوم ما كان ليتأخر عن اللحاق بدرب المقاومة، والمشاركة في الانتفاضة، والمساهمة مع شباباها وشاباتها، ومدهم بالسلاح والمال، وحمايتهم من القتل والاعتقال، وما كان أبداً ليسمح للعدو الإسرائيلي أن يحلم في تنسيقٍ أمني معه، يلتف على الانتفاضة، ويتآمر على الشعب، ويخون العهد، ويسرق الجهود، فقد مات ياسر عرفات وهو يحلم باستعادة القدس عاصمةً، والصلاة فيها مسجداً، والاحتفاظ بها مسرىً ومدينةً مقدسةً للعرب والمسلمين جميعاً.

اليوم أيها القائد أبو عمار نذكرك ولا ننساك، ونعلم أنك كنت في السر والخفاء تعمل مع المقاومة، وتساند رجالها، وتصنع ألويتها، وتعقد راياتها، وتنسج من ضوء الصباح أثوابها، وترسل مع أشعة الشمس إلى بقاع الوطن أنوراها، فهل نحلم أن ينهض رجالك، وتنتفض حركتك، وتعيد مجدك ومجدها، وتحقق حلمك وحلمها، وتستعيد راية الانطلاقة وشعلة المقاومة وعاصفة التحدي والمواجهة، فإننا والله في حاجةٍ إلى فصائلنا القوية، وفتح الأبية، وتنظيماتنا الصلبة، ورجالنا البواسل، الصيد الأباة الكماة، التي لا تقبل بالتنازل ولا تؤمن بالتفريط، ولا ترضى بحلولٍ وهميةٍ ومفاوضاتٍ مذلةٍ ومهينة.

انتفاضة القدس الثانية تحييك أبا عمار في ذكرى رحيلك العالي، وهي اليوم أشد ما تكون قوةً وبهاءٍ، وجمالاً وجلالاً، تزدان وتزدهر، وتتيه وتفخر، فالشعب قد توحد، والشباب قد اتقد حماسةً وانطلق بركاناً، والأرض الفلسطينية قد استعادت لحمتها وألقها التاريخي المجيد، وبهاءها القديم من البحر إلى النهر، ومن رفح حتى رأس الناقورة، فما عادت فلسطيننا الضفة وغزة، بل رجعت إلى أصلها الضفة وقلبها القدس وغزة، والمثلث والجليل والناصرة، وحيفا وعكا وصفد وكل بقاع الوطن الحبيب فلسطين.

أبا عمار ... لن تخبو انتفاضة القدس الثانية حتى تحقق أهدافها وتصل إلى غاياتها، ولن يغمد شباب فلسطين وشاباتها سكاكينهم حتى تعود إليهم قدسهم حرةً، وأقصاهم مطهراً من كل رجسٍ ودنس، ولن ينعم الإسرائيليون بأمنٍ وأهلنا يقتلون، وحقوقنا تهدر وتستباح، فما كانت انتفاضة القدس الأولى إلا من أجل الكرامة، ورداً على استهتار الإسرائيليين واستفزازهم لمشاعر العرب والمسلمين، وكما فاجأ الفلسطينيون عدوهم في انتفاضة القدس الأولى، فإنهم يفاجئونهم اليوم بأشد مما يتوقعون، وأجرأ مما يحسبون ويتخيلون، وما الشباب المندفع نصرةً للقدس ودفاعاً عن فلسطين، إلا عنواناً لثورةٍ في النفوس كامنةً، وجذوةً في الأرض مشتعلةً، لن يقوَ أحدٌ على إخمادها إلا باستعادة الحقوق، ورد المظالم.

غيابك أيها الأجل مكانةً والأعظم قدراً، يذكرنا بقادةٍ أمثالك وأخوةٍ لك، ورفاق دربٍ ورواد مسيرةٍ، شهدوا معك انتفاضة القدس الأولى وكان لهم فيها فضلٌ وسبق، وسهمٌ وعمل، ورجالٌ وأتباعٌ، وجنودٌ ومقاومون، ولكن العدو الخبيث الماكر أدرك قوتهم، وعلم أثرهم، ولمس تأثيرهم فغيبهم اغتيالاً، وصفاهم انتقاءً لأنه يعلم أنهم الأقوى والأخطر، والأشد فعلاً والأعمق جذراً، فهم في عمق الأرض يمتدون، وفي باطنها ينغرسون.

اليوم نذكر معك شهداءً كباراً وقادةً عظاماً، نحبهم ونجلهم ونفتقدهم، نذكر الياسين أحمد، والأسد الهصور الرنتيسي، وكلاهما كان بنفسه جبهةً عظيمةً، ووحده جيشاً يقاوم ويقاتل، ولكن عزاءنا أن أبناءهما من بعدهما حملوا الراية، وواصلوا المسيرة، وتابعوا الخطى التي بدأتم، والجهاد الذي رسمتم، فطوبى لك معهم، وهنيئاً لشعبنا بقادةٍ عظامٍ أمثالكم، ورجالٍ كبارٍ ذوي قدرٍ عظيمٍ كقدركم، جمعكم الله وشهداء فلسطين، وجعلكم في خير مقامٍ وأعلى درجةٍ، في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

- (32)

لا محرماتٍ ولا خطوطَ إسرائيلية حمراء

أكثر من عشرين مستعرباً إسرائيلياً يقتحمون حرم مستشفى الخليل، المفتوح للحالات الإنسانية، ولمعالجة المرضى والمصابين أياً كانت هويتهم وجنسيتهم، فأطباء المستشفى قد أقسموا عند تخرجهم وقبل مزاولتهم لمهنتهم قسم أبقراط المقدس طبياً، الذي تدعي دولة الاحتلال أنها وأطباءها قد أقسموه كغيرهم، وأنهم يحترمون المهنة، ويقدمونها لكل من يستحقها، ولا يمنعونها عن أحدٍ أياً كانت جنسيته وهويته، ولو كان عدواً أو خصماً، إذ القتال في الأعراف الطبية مكانه الجبهة، والمستشفى مكانٌ للعلاج والرعاية، وليست للقتل والاغتيال، والغدر وتصفية الحساب.

لكن الإسرائيليين في معركتهم مع الفلسطينيين أبعد الناس عن هذه القيم والمعاني، فهم لا يداوون الجريح، ولا يعبأون بالمصاب، بل يتركونه ينزف حتى الوفاة، أو يجهزون عليه للتسريع في قتله، وشواهد الانتفاضة الأخيرة عليهم كثيرة، ذلك أنهم عدوٌ غادرٌ كاذبٌ، ونصابٌ محتالٌ، وخبيثٌ ماكرٌ.

وقد استغلوا عاطفة الفلسطينيين، وصدق الأطباء وسلامة نوايا العاملين في المستشفى، وإخلاصهم لمهنة الطب الإنسانية، فدخلوها بأسمالٍ عربيةٍ، وأشكالٍ فلسطينية، ومعهم امرأة حاملٌ كأنها في حالة الطلق وعلى وشك أن تضع مولودها، فأسرع العاملون في المستشفى كعادتهم الطيبة، وفعلهم المحمود، فقدموا لهم العون والمساعدة، وما عرفوا أن المرأة المستلقية على سرير الطوارئ عدواً مقاتلاً، وأنها تخفي تحت ثيابها سلاحاً قاتلاً، وأن من جاء معها ليسوا إلا جنوداً وعناصر تعمل في المخابرات الإسرائيلية، جاؤوا وهم يحملون أسلحتهم بنية القتل غدراً، والتصفية غيلةً.

لا يعتقدن العدو الإسرائيلي أنه قد حقق خرقاً، وحاز نصراً، فإنه ما دخل المستشفى بقوة السلاح، ولا بشجاعة جنوده وعناصره، ولا بجرأة رجاله وجسارة نسائه، وإنما دخلها بخلق الفلسطينيين وبنخوتهم العالية، وبنبلهم وشهامتهم المحمودة، الذين كانوا سيصدونهم لو أنهم دخلوها بغير الخدعة والمكر، ولو أنهم جاؤوا جيشاً بزيهم أو مخابراتٍ بسلاحهم، ما كان بهم أن يصلوا إلى ما أرادوا، فما حققوه من نصرٍ مدعى ليس إلا غلبةً لا يقبل بها الفرسان، ولا يقدم عليها الشجعان، وإنما عملهم كخنزيرٍ لا يأكل غير الجيفة.

الإسرائيليون لم يرتكبوا جريمةً واحدةً فقط، ولم ينتهكوا حرمة المستشفى التي يجب أن تكون حرماً آمناً لمن فيها من المرضى والزوار، فقد نصت كل العهود والمواثيق الدولية على احترام الأطراف المحاربة للمراكز الطبية والمستشفيات، والمصحات التي تقدم العلاج للمرضى وللمتضررين من العمليات الحربية، ولكن الكيان الصهيوني كعادته انتهك هذه الحرمة، وارتكب جريمته في مكانٍ يحرص الفلسطينيون على تجنبه دوماً، إذ لم يسبق لهم أن اعتدوا على مستشفى، أو هاجموا مرضى، أو أجهزوا على مريضٍ أو مصاب، ولكن العدو الإسرائيلي اعتاد على مثل هذه الانتهاكات، وهو يكررها دائماً في كل المدن والبلدات.

وجريمتهم الثانية التي تتكرر كل يوم، وينفذها جنودهم ومستوطنوهم وعامة شعبهم، تتمثل في إعدامهم لمواطنٍ فلسطيني بدمٍ باردٍ، فما إن خرج عبد الله الشلايدة من حمام غرفة المريض، حتى عاجله المستعربون بطلقاتهم الغادرة، وأصابوه في أماكن قاتلة من جسده، ولم يغادروا المكان إلا بعد أن ارتقى إلى العلا شهيداً، وهذه جريمةٌ تتكرر كل يومٍ في جميع أرجاء فلسطين، حيث اعتاد العدو على تنفيذ إعداماتٍ ميدانية، وتصفياتٍ جسدية في الشوارع العامة دون أن يشكل الفلسطينيون عليهم أدنى خطرٍ.

أما جريمتهم الثالثة فقد كانت في اعتقال مريضٍ من على سريره في المستشفى، مستغلين ضعفه واطمئنانه، وثقته في المكان الذي يوجد فيه والناس المحيطين به، إذ ما كان يتوقع وغيره أن يعتقله الاحتلال وهو على هذا الحال الخطر، وهو البريء من أي تهمة، وإن كانت المقاومة تهمةٌ تشرفه، وعملٌ يتمنى أن ينتسب إليه، ولكن العدو الإسرائيلي اعتاد على مثل هذه الأعمال الخسيسة الدنيئة الوضيعة.

لعل المقام هنا يسمح لي أن أُذَكِّرَ بحدثٍ مشابه قد وقع معي شخصياً، إذ أُعتقلت في أبريل/نيسان من العام 1990، ونقلت إلى سجن السرايا، وهي السجن المركزي في قطاع غزة، وبعد أيامٍ تعرض أخي رائد في مخيم جباليا لإطلاق نارٍ كثيفٍ مزق شراينه، فنزف بغزارةٍ حتى ظنه العدو أنه قد قتل، فألقوه في أرضية سيارةٍ عسكرية، وقبل أن يحرر الطبيب العسكري شهادةً بوفاته، شعر أنه ما زال على قيد الحياة ، وأن قلبه ينبض، فأمر بنقله إلى المستشفى ليموت فيها، وفعلاً نقل إلى مستشفى الشفاء بغزة، وكانت حالته خطيرة جداً نظراً إلى حجم النزيف الذي تعرض له، وكمية الدم التي فقدها.

وفي مستشفى الشفاء، وبعد أن تم تزويده بوحداتٍ من الدم، علمت المخابرات الإسرائيلية أنه لم يستشهد، وأنه تجاوز الخطر، فداهمت قوةٌ عسكريةٌ المستشفى، ودخلت إلى غرفته حيث يرقد، وحملته من على سريريه فوق كرسيٍ متحرك، وجاؤوا به إلى سجن غزة المركزي “السرايا” حيث كنت معتقلاً، وهناك جاؤوا بي ورفعوا الكيس الذي كانوا يخنقونني به، وأروني أخي أمامي على الكرسي المتحرك، وهو في حالة إعياءٍ شديدٍ، ومسوا جراحه بأيديهم، وتناوبوا على تعذيبه رغم وضعه الخطر، واستغلوا حالته وظرفه الصعب في الضغط علي، لسحب الاعترافات التي يريدون مني.

علينا أن نفكر جدياً في حماية جرحانا والدفاع عنهم قبل أن يتحولوا إلى أسرى أو شهداء، وعندها لن ينفع الندم ولن تجدي الحسرة، لأن العدو لن يتوقف عن أفعاله القبيحة، فهل تقوم فصائلنا المسلحة التي لم تدخل غمار الانتفاضة بعد، بتشكيل قوة عسكرية موحدة مهمتها حماية المستشفيات ومنع اختراقها من قبل العدو الصهيوني ومستعربيه الغادرين.

هذه هي الطبيعة الإسرائيلية التي لا تتغير ولا تتبدل، فهم لا يمارسون بطولاتهم علينا، ولكنهم يستغلون ظروفنا، ويتسللون إلينا من أماكن نظنها آمنة، ونعتقدها محرمة، وأن القوانين تحميها والأعراف الدولية تصونها، ولكن كياناً قام على الغصب، ونشأ على القهر لا يمكنه أن يحترم عهداً أو يصون اتفاقاً، وعلى العالم كله أن يعرف أن هذا الكيان غير ما يدعي وعكس ما يشيع، فهو ليس ديمقراطياً ولا إنسانياً، ولا يحترم القوانين ولا يخضع للقيم، ولا يتمتع جيشه بمناقبية الجيوش، ولا يتحلى جنوده بأخلاق الرجال والمقاتلين الشجعان.

ليس في الخبر أيُ جدةٍ أو غرابةٍ، فهو قديمٌ قدم دولة الكيان، وعاديٌ بالنسبة لها، ولا يشكل انتهاكاً ولا مخالفة، ولا يعيبها ولا يشعرها بالخزي أو العار، إذ مم تخجل وتخزى وتطأطئ الرأس وهي صانعة العار ومقترفة الحرام، وهل تشعر الغانية بالدونية، أو العاهرة بأنها تنتهك الشرف وترتكب الحرام، فلعها والكيان سواء، يتغنيان بالشرف والعفة والطهارة وهما منهم براء، وعلى العالم أن يصدقهما وأن يؤمن بطهرهما وبراءتهما من كل دنسٍ وعيبٍ، وفسقٍ وفجور، ولو كانت الأولى من خدرها العام تتحدث، والثانية من مواقع جرائمها تشكو وتتأوه، فعلى العالم أن ينكر الظواهر، وأن يهمل الشواهد، ويكذب ما يرى ويسمع، ويحكم لهما بقولهما، ويغمض العين عن فعلهما.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2177874

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2177874 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40