الجمعة 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

أم البدايات

الجمعة 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par د.احمد جميل عزم

ربما لو “تعمقنا”، فسنجد إجابة في الأنثروبولوجيا أو التاريخ. لكن حتى ذلك الوقت، فإنّ هناك سؤالا هو: لماذا شكلت الخليل هذا الدور المحوري في تاريخ الحضارات والأديان؛ لماذا اختارها ابراهيم عليه السلام مستقرا، فبدأت من عنده الأديان الإبراهيمية السماوية الرئيسة؟ فالخليل ليست مدينة ساحلية أو مدينة مفتوحة على العالم؛ هي في عمق الجنوب. لكن السؤال ذاته يثار بشأن مكة، حيث كان ابراهيم وحيث بدأ الإسلام.
عندما تزور “تل الرميدة”، وهي تلة مرتفعة في الخليل، تطل على الحرم الابراهيمي والمدينة القديمة، تشعر أنك تعيش كوميديا سوداء؛ فشجر الزيتون الرومي هناك معمّر منذ مئات أو آلاف السنين، وهناك نحو خمسين مستوطنا ومستوطنة يحرسهم الجنود، بين نحو 300 عائلة فلسطينية خليلية. المستوطنون جاؤوا في أغلبهم من الولايات المتحدة الأميركية، وفي مثل هذا الوقت من العام يحاولون عادة سرقة الزيتون، ويتصدى لهم الشبان. فما الذي أتى بهم من الولايات المتحدة إلى بضع زيتونات؟
مجموع اليهود في الخليل القديمة وتل الرميدة والمناطق المحيطة، نحو 600 مستوطن، ويحرس كل واحد فيهم أربعة جنود.
ورغم أني زرت المدينة مرات عدة، وجلت ما استطعت قريبا من بيوتها المحاصرة وشوارعها المغلقة، إلا أني لم أشاهد الناس بعيني يدخلون بيوتهم من الشبابيك بعد أن أقفل الجنود الأبواب أو الممرات المؤدية إليها، إلا بتقرير بثته “بي. بي. سي” العربية قبل أيام.
كنت العام الماضي في تل الرميدة، حيث وقف مجموعة من شبان المدينة يتحدثون مع عائلة الحاج أبو سمير أبو عيشة، والذي يصمد في بيته الكائن بين البيوت التي يسكنها المستوطنون، ويسميه الجنود عندما يتحادثون مع بعضهم هاتفيا أو بأجهزة اللاسلكي، باسم “بيت القفص”؛ فالقضبان تحيطه من كل الجهات. كان الموضوع أشبه باللغز الكوميدي الأسود، حوار غريب حول كيف يُدخِلون عُمالا لتصليح البيت الذي يحتاج لصيانة. كان لا بد من أن نقف بعيداً عن البيت، فالجنود لديهم قائمة بأسماء محددة بسكان البيت وبعض أقارب العائلة ممن يسمح لهم بزيارة البيت أو دخوله. لم يكن ممكنا دعوتهم لنا لكأس شاي، كما لم يكن ممكناً أن نساعدهم بحمل تسوقهم الذي يثقل أياديهم. وما يعمق الكوميديا السوداء أنّ الجنود يقفون ينظرون لنا، وكأنهم معنا! ونسمعهم يضحكون ويتناقشون!
قصة عائلة أبو سمير نموذج لغرائبيات أخرى لا يتسع المجال لها.
أسأل الشبان: هل كان يهود الخليل في العشرينيات والثلاثينيات هنا؟ يردون: لا، كانوا في المدينة القديمة. وأسأل: هل كانوا في شارع المدينة؟ ويردون: نعم. وشارع الشهداء الآن هو شارع أشباح، أغلقت قوات الاحتلال مئات الدكاكين فيه، وحظرت المرور فيه، وهذا منذ سنوات طويلة، وتحديداً بعد مجزرة باروخ غولدشتاين الذي قتل 29 مصليا في المسجد الابراهيمي العام 1994. يومها، وبدل معاقبة المستوطنين، عوقب الفلسطينيون بإقفال الشارع أمامهم، فيما البؤر الاستيطانية هناك.
لو لم يكن المشروع الصهيوني قد وجد، لكان طبيعياً أن تجد في شارع الشهداء دكانا لخليلي يهودي زبائنه مسلمون!
يخبرني الشبان أنّ المخطط إذا استمر سيكون أن تصبح تل الرميدة وغيرها بأكملها “بيت قفص”.
عاد شاب من إيطاليا حيث كان في زيارة عند بدء الأحداث الراهنة، وذهب لزيارة صديق في تل الرميدة، فأوقفه الجنود وطلبوا هويته، وأخبروه أن اسمه ليس في قوائم من يسمح لهم بالزيارة. فقال: إني آتي دائماً هنا، ولكني كنت مسافرا، فماذا حصل؟ فسأله الجندي: أين كنت؟ فرد: إيطاليا. فقال له: “تغيرت أمور كثيرة”.
الآن توضع حواجز جديدة، ويراد تعميم فكرة أن من يدخل البيوت ويخرج منها فقط من تسجل أسماؤهم! الآن الشوراع التي يمنع على الفلسطينيين دخولها تزداد، وتوضع نقاط عسكرية فوق بيوتها.
الخليل أم البدايات، كثير من تاريخ الكون بدأ فيها.
خلط الدين بالسياسة الذي يحمل الصهاينة مسؤولية تاريخية بشأنه، يرتبط كثيراً بروايات أضيفت للكتب المقدسة اليهودية. فهل يصحو العالم ويعيد النظر في دعمه لدولة المستوطنين هؤلاء، ويعيد النظر في دعمه للأصولية ودولتها الأبرز في العالم (اسرائيل)؟
ما يخشاه الشبان والأهالي هو تكرار سيناريوهات ما بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي، ويخشون المزيد من سياسات التمييز والتطهير العرقي.

- إنجازات انتفاضية

حققت الانتفاضة الفلسطينية -بغضّ النظر عن تسميتها- التي بدأت مطلع الشهر الماضي، عددا من الإنجازات المهمة التي يمكن المراكمة عليها. ويمكن القول إنّ هذه الانتفاضة، بغض النظر عن مآلاتها، ستفرض منطقاً وواقعاً جديدين للتفكير والأمور، وهذا رغم الافتقار لأهداف آنيّة مباشرة واضحة، أو رغم معضلات القيادة والإسناد الميدانيين لها.
أحد الإنجازات التي حققتها الانتفاضة، أنها ضربت سيناريو التغول الاستيطاني، الذي كان يريد تعدي القدرة على بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي، إلى الوصول إلى مرحلة قيام المستوطنين بعمليات تطهير عرقي صريح، من نوع الهجوم على القرى الفلسطينية وطرد الفلسطينيين، وحرقهم، وحرق أشجارهم من دون أن يمسهم أحد، أو يتصدى لهم أحد. وكان أحد أهم أسس مواجهة هذا المخطط، هو أهالي القرى الذين شكلوا لجان حراسة. وعدا عن معنى هذه اللجان والجهود على نطاق بناء الفعل الفلسطيني الشعبي، فإنّها كانت مؤشرا على التسليم بأنّ السلطة الفلسطينية، وأجهزتها، والعمليات الدبلوماسية والتنسيق الأمني، لم تعد ضمن حسابات الأهالي في تأمين الحماية لأنفسهم؛ بل وحتى الفصائل فإنّ تفعيل عناصرها لدورهم في الدفاع عن القرى أصبح يتقرر من واقع ميداني مواقعي (يرتبط بكل موقع على حدة). من دون أن يعني هذا أن المستوطنين سينكفئون كلياً، أو أنّهم توقفوا في كل المناطق، ولكن تقلصت مخططاتهم عندما ووجهوا بحسابات جديدة.
لعل الإنجاز الثاني الذي حققته الانتفاضة، هو الإنجاز الأهم، ويتمثل في فشل استراتيجية تحويل الصراع (Conflict Transformation). ولو عدنا إلى حديث مسؤولين أميركيين، ومنهم جون كيري، لوجدناه يستخدم هذه المصطلحات، (Transformative). وعلى سبيل المثال، استخدمها كيري وهو يتحدث عن دور رجال الأعمال، ومبادراته الاقتصادية والاستثمارية. والمقصود بعملية التحويل: إحداث تحول عقلي وفكري واجتماعي، ينشئ بنية جديدة لدى الفلسطينيين، ويجعل فكرة المقاومة غير مطروحة، ويوجد “مناخا” جديدا. وعملية التحويل منها ما هو مقصود، ومنها ما هو نتيجة غير مخططة؛ فمثلا تقسيم مناطق الضفة الغربية إلى (أ) و(ب) و(ج)، وجعل المناطق ذات الكثافة السكانية تحت سيطرة قوات الأمن الفلسطينية، وبعيدا عن إمكانية المواجهة المستمرة للجنود الإسرائيليين، حولا كثافة الفعل المقاوم، وجعلا الانتفاض صعبا. لكن ما اتضح حاليا هو تحول المواجهات إلى القدس ونقاط التماس. كذلك، فإن الارتباط برواتب شهرية من السلطة الفلسطينية، والغرق في دوّامات الديون البنكية، وقطاع المنظمات غير الحكومية الذي تحول إلى قطاع عمل يعتمد على تمويل أجنبي مشروط، كل ذلك كان من شأنه تفريغ الشارع وميدان المقاومة من كوادره، لكن اتضح الآن أن كل ذلك لم يحُل دون ظهور جيل جديد، حرّك من خلفه أجيالا أكبر سناً، وأثبت تفوق الواقع الموضوعي للاحتلال الذي يفجر الثورات، أكثر من تكتيكات إدارة احتواء الصراع.
ويرتبط بالإنجاز الثاني بعث وتأجيج الروح النضالية والتمكين للكوادر المقاومة؛ أي إنّ هناك جيلا جديدا، ومناضلين، يستطيعون الآن تجديد روح المقاومة.
والإنجاز الرابع، أنّه اتضح أنّ الانقسام بين الفصائل وحالة الشلل السياسية يمكن تجاوزهما، وعدم التوقف عندهما، وإعادة البوصلة من قبل جيل جديد، نحو العدو الحقيقي، المتمثل في الاحتلال. وهذا سيؤدي إلى وضع القوى السياسية المنقسمة أمام مسؤولية التوحد، وتطوير برنامج عمل مقاوم حقيقي وشامل، بعيدا عن مقولات التفاوض والدبلوماسية المجردة، وبعيداً عن نمط واحد من المقاومة، وإلا فإنّه يصبح متوقعاً أنّ الهبّة الحالية ستدفع وبشكل جديد شرائح مختلفة للتفكير في كيفية الإسناد السياسي والميداني للفعل الشعبي المقاوم، إن لم يكن في هذه الهبة ففي الهبات التالية.
أعادت الانتفاضة الاعتبار للفعل المقاوم، ومثلت قرارا شعبياً يتجاوز الاتفاقيات الأمنية والسياسية، التي تعلن القيادة السياسية نفسها أنها لا يمكن أن تستمر بها، ومثلت ترجمة لعدم الإمكانية هذه وعدم التسليم بالأمر الواقع.
قد تكون الأمور بخواتيمها، وبما ستحققه من نتائج سياسية وميدانية فعلية. وقد يعتقد كثيرون أنّ محصلة الانتفاضات السابقة لم تكن إيجابية، وأنّها جرّت دماراً على شكل اتفاقيات أوسلو، أو اجتياحات إسرائيلية وتغول استيطاني. وبطبيعة الحال هذا غير صحيح، فالأداء السياسي والقيادي هو الذي لم يحسن توجيه الانتفاضات واستثمارها وطنياً، ولكن الأكيد أن تلك الانتفاضات أوجدت إرثا تاريخيا يضمن استمرار المقاومة بانتظار الترجمة السياسية الفعالة للمقاومة، وتحقيق الحصاد الملائم المتمثل في التحرير.

- يا نبضها لا تهدأ

وأنا أتجه بالسيارة السياحية المستأجرة من عمّان إلى جسر الملك حسين، الأحد الماضي، كنت أستمع لأغنيات أحمد قعبور. وضحكت ابنتي وقالت إنّ صديقتها لينا “تحقد” على أغنية “يا نبض الضفة لا تهدأ”، لأنّ كلماتها تقول “لينا سقطت...”، وتسأل، لماذا من بين كل أسماء العالم، اختار لينا؟ أجبتها: ألا تعرفان القصة؟!
أخبرتها ما سمعته من قعبور يوماً؛ وقد التقيته في مكتبه في بيروت، وتحدثنا طويلا. وكان على جدار مكتبه رسومات أرسلها أطفال للمخيمات هدية له. وفي خضم الحديث معه، اكتشفت أن أغاني قعبور تشبهه ويشبهها، وأنّ أغنياته تشبه “الناس الحلوين”. قال إنّه عندما استشهدت لينا النابلسي، في نابلس العام 1976، وقرر غناء الأغنية، علّق أصدقاؤه أن المناسبة ستمضي والناس ستنسى؛ غنى وبقيت الأغنية، وبقيت الشهيدة.
عدت لفلسطين، أبحث على الإنترنت عن تفاصيل أكثر عن لينا النابلسي، وصورتها مطبوعة في ذاكرتي. كانت تشارك في مظاهرة سلمية، فلحقها الجنود. دخلت درج بناية تختبئ، تبعوها وأعدموها برصاصة بدم بارد. وكانت دماؤها ساخنة تنزف وهي على النعش. ثم نفذت مجموعة فدائية، من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عملية فدائية ضد معسكر للجيش الإسرائيلي، باسم عملية لينا النابلسي.
في اليوم التالي لحديث الجسر ذاك، كان هناك أكثر من لينا في القدس، أكثر من حالة يلاحق فيها الجنود والمستوطنون الشبان والبنات الفلسطينيين، يختلقون قصة أو يفضلون القتل بدماء باردة، مع أن الاعتقال سهل وممكن.
كعادته، هذا “الكادر السابق” الذي يقترب من خمسينياته، يبدأ حديثه بعبارة “يا أخي...”، ويشدد على الحروف. يزيد "شو هاد؟!، هذا جيل جديد؟! عمره 14 و15!
هذا الكادر الذي كان من يقفز في مواجهة الجنود في الانتفاضة الأولى، يشاهد بقلق أبناءه وفعلهم الآن، وهم في عمره حينها. ويتحدث في الوقت نفسه عن الجيل الأصغر. تلمع عيناه وصوته، وهو يقول: هل يعقل هذا؟ من أين جاءته روح أن يقوم بالدبكة بهذا الاتقان وهو يرمي حجراً بالمقليعة؛ مشيرا للفيلم الذي انتشر لشاب يؤدي الدبكة وهو يواجه الجنود. ويسأل: ما هذه الروح، أن يضع وعاء فوق قنبلة الغاز ويضع رجلا على رجل فوقه بمواجهة الجيش؟! ويسألني: ماذا تتخيل موقف الجنود وهم يرون “الجيب” الذي يركبونه يمر فوق شاب، قرب مستعمرة بيت إيل، ثم يقف الشاب قافزا، وقد تمركز بين عجلات الجيب؟!
هل حقاً غناها قبل أربعين عاما، هل مضى أربعون عاما على قول:
في الضفة أطفالي سبعة، أصغرهم يرضع تاريخاً
أوسطهم اسمه جيفارا، أكبرهم ثائر في الضفة
يا كل العالم فلتعلم أطفالي يُتْمٌ، زرعوا الحقل وروداً حمراء
ليس جميلاً بقاء النبض متسارعاً لاهثاً والدم ساخناً أو نازفاً..
كان من حق لينا أن تكون الآن سيدة أربعينية أو خمسينية، أمّاً أو مخرجةً تلفزيونية، أو ما تشاء.
كانت، كما غنى قعبور، تصنع غدها، ولكن دمها صار يُغني. تماماً مثل بهاء عليان، الذي حرص على أناقته المعهودة، وهو يخرج من بيته هذا الأسبوع في القدس، وقد أخبر أمه، كما ورد في الإعلام، “رايح على عرس”!
بهاء كان يصنع غده، مثل لينا؛ هو الناشط الذي كان همّه دخول القدس موسوعة “غينيس” باعتبارها صاحبة أكبر سلسلة بشرية للقراءة، وهي فعالية نفذها العام الماضي. هو الذي كانت الثقافة والقراءة والمكتبات، همّه، فاض به، ووصل إلى طريقة مختلفة عن المكتبات الممنوعة، والمغدورة، والمقهورة.
عندما استشهدت لينا في أيار (مايو) 1976، كانت رجع صدى لانتفاضة سخنين وبقية أراضي الاحتلال الأول، في آذار (مارس) من العام ذاته، فيما صار يعرف بيوم الأرض (30 آذار).
في هذا الأسبوع، كان عشرات الآلاف ينزلون في سخنين تلاحماً واندماجاً مع “الضفة” والقدس.
الآن نبض كل فلسطين لا يهدأ... ويعلنها ثورة.
من حق هؤلاء جميعاً أن يستمر نبضهم ويهدأ في الوقت ذاته.. أن تترجم دماؤهم وأغنيات هذه الدماء ودبكاتها وحزنها وفرحها ودموعها إلى حرية، وكرامة، وعدالة. وأن يتخرج من في المدرسة متعلماً حيّاً، وأن تفتح مكتبة بهاء عليان أبوابها.
هل يعي العالم أن النبض لن يهدأ إلا بالحرية؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 84 / 2177880

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2177880 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40