الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015

في مواجهة الجرائم المتنقلة

الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015 par معن بشور

أياً تكن التحليلات والتفسيرات للنمو المتسارع لتنظيمات الغلوّ والتطرف والتوحش، فإن أحداً من المحللين لا يختلف عن الآخر في أن حال الانقسام الذي تعيشه الأمّة لأسباب متعدّدة هو الثغرة الرئيسية التي نفذت منها هذه التنظيمات وتفشت مخاطرها واتسعت جرائمها، فقد ولدت هذه التنظيمات من رحم الانقسام وتغذّت منه وعمدت إلى تغذيته معتمدة بالطبع على دعم وإسناد كل من لا يريد للأمّة خيراً.
من هنا كانت الوحدة الوطنية التي واجهت بها الكويت جريمة مسجد “أم الصوابر”، كما الوحدة السياسية بين كافة الأفرقاء التونسيين بعد جريمة سوسة، من أفعل الردود على هذه الجرائم ومرتكبيها الذين يصبحون محاصرين ليس بالقوى الأمنية وحدها بل بالأغلبية الساحقة من أبناء الشعب ذاته وقد بات مدركاً أن هذه الجماعات لا تستهدف نظاماً أو حزباً أو حاكماً أو جماعة أو مذهباً بقدر ما تستهدف المجتمع والدولة والإنسان أياً كان انتماؤه.
وفي لبنان بالذات، وأياً تكن المآخذ عل الحكومة المشلولة، وخصوصاً بعد الشغور الرئاسي والتعطيل في التشريع، فإن كل منصف ومتجرد يدرك أن حال الاستقرار النسبي الذي تعيشه البلاد يعود إلى وجود ما يشبه الإجماع الشعبي على التصدي لظاهرة الغلوّ والتطرف والتوحش من جهة، وإلى نجاح الأطراف السياسية في ترجمة هذا الإجماع إلى ما يشبه ائتلافاً حكومياً رغم كل ما ينطوي عليه من اختلافات في السياسة وخلافات في الرؤى، بل ائتلاف حكومي ينطلق من فكرة قبول الفريق الآخر وعدم فرض ممثليه عليه والانتقال من فكرة القبول هذه إلى فكرة التعاون ولوعلى الحدّ الأدنى من الأمور.
يبقى السؤال هنا: أليس من الممكن أن يعمّ هذا المنطق كل أقطار الأمّة والإقليم، فيصل الجميع، حكاماً وتيارات سياسية، إلى الاعتراف أن رهانات إقصاء الآخر أو إسقاطه أو اجتثاثه أو إلغائه قد فشلت وأنها لم تنتج إلاّ تلك العقليات المتحجرة والمجازر المتنقلة من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد ثان، وفي حروب قد تمتد لعقود على غرار ما شهدته أوروبا يوماً باسم “حرب المائة عام” التي انجبت حروباً عالمية أودت بحياة عشرات الملايين من البشر.
أليس ممكناً أن تبادر مصر مثلاً، ومعها إيران المتنامية النفوذ، وتركيا المقبلة على تغييرات استراتيجية هامة، إلى الدعوة إلى قمّة إسلامية تضم كل الدول، دون استثناء، لاسيّما تلك التي تتلظى بنيران “الحرب العالمية الجديدة”، وتجري مصالحات ضرورية لإطفاء هذه النيران، وتبدأ مسيرة تنقية العلاقات العربية والإقليمية، يتم التركيز فيها على مشتركات، وهي كثيرة، ويتم ترحيل نقاط الخلاف أو الاختلاف لمعالجتها في ظلّ الأجواء الجديدة.
كم من الأرواح البشرية ستُحفظ، ومن الدماء ستُحقن، ومن الموارد ستُوفّر، ومن العمران سيُصان، لو تمّ الاتفاق على هدنة شاملة، واستراتيجية واحدة لمواجهة هذه الظاهرة الدموية الآتية من ظلمات التاريخ لتحرق بنارها حقائق وحضارات وعرى اجتماعية وإنسانية.
وكم كنا نتمنى لو أن قمة عربية تتولى هذا الأمر، لكن جامعة الدول العربية ألغت نفسها حين تحوّلت إلى جزء من المشكلات القائمة بدلاً من أن تكون إطاراً متجرداً ونزيهاً لحلها، ثم أن هذه الجامعة لا تضم أطرافاً فاعلة في أزمات المنطقة كإيران وتركيا، كما أن الإطار الإقليمي الممثل هنا بمنظمة التعاون الإسلامي هو المدخل للإطار العالمي الأوسع، خاصة وأن دول العالم كله باتت تكتوي بنار هذه الجماعات.
لا بدّ من الاستدراك هنا، فمعالجة هذه الظاهرة ليست معالجة سياسية فوقية فقط، أو أمنية تعتمد المواجهة المسلحة فحسب، بل هي أيضاً معالجة فكرية ثقافية، اقتصادية اجتماعية، تربوية وإعلامية، وبالتأكيد دينية تتطلب إصلاح الخطاب الديني المعتمد من أكثر من طرف أغرق نفسه وأمّته بمفردات التعصب والتمذهب واستحضار فتن من غابر الأزمان...
قد لا تروق مثل هذه الدعوة لأصحاب الرؤوس الحامية، من هنا أو هناك، ولأصحاب الأجندات الخارجية الذين وجدوا فيما تواجهه الأمّة فرصتهم التاريخية للإجهاز عليها تقسيماً وتفتيتاً وتدميراً، ولا بالطبع للمستفيدين من فتات الصراعات الدائرة لتحقيق مصالح صغيرة، ولكن هذه الدعوة إذا تمّت تلبيتها، وهذه القمّة إذا انعقدت، تشكّل مخرجاً للجميع من المأزق العالق به كل طرف من الأطراف المعنية، وأكثر المدركين إدراكاً لخطورة مأزقه هم الواقعون فيه.
أما على المستوى الشعبي، وهو الأهم طبعاً، فلا بدّ من توافق كل تيارات الأمّة ومذاهبها وفرقها على خطاب وحدوي جامع يضع مصلحة الأمّة فوق مصلحة أي تيار أو حزب أو جماعة، بل خطاب يحاصر أهل الفتنة ومروجيها، وهم أيضاً يختبئون في زوايا كل الأطراف المتصارعة.
وفي الإطار نفسه ما الذي يحول دون أن تتحول كل شوارع مدننا وعواصمنا إلى حاضنة لمسيرات مليونية ترفض الإجرام المتوحش، أم علينا أن ننتظر تفجيرات مماثلة لتلك التي حصلت في الكويت وسوسة، ومجازر كتلك التي جرت في عين عرب السورية، أم لقتل جماعي كما في اليمن والعراق وليبيا.
إنها مجرد أفكار، قد تبدو أحلاماً، نأمل أن تجد لها آذاناً صاغية في قلوب المعنيين قبل عقولهم، وإلاّ فالكارثة ستؤدي إلى هلاك الجميع... أم أن البعض ما زال يردد مع شمشون الجبار “عليّ وعلى أعدائي يا رب”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2165545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010