الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015

المفاوضات بين الغاية والوسيلة

الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015 par د.عبدالله السويجي

يتمتع الفلسطينيون بصبر كبير في المفاوضات، لكن «الإسرائيليين» يتمتعون بنفس أطول، وهناك قناعة تكاد تكون ثابتة لدى الطرفين؛ السياسيون الفلسطينيون الحقيقيون الصادقون مع أنفسهم، يعلمون أن «إسرائيل» لن تسمح بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، وهذه القناعة ليست مجرد علمٍ لدى الطرف «الإسرائيلي»، وإنما هي استراتيجية. ويعتقد الساسة الفلسطينيون الذين هم في السلطة أن ليس أمامهم سوى التفاوض، في ظل الخلل الكبير والفارق الأكبر في التوازن الاستراتيجي، أي القوة. ويعمل «الإسرائيليون» يومياً على الإبقاء على هذا الخلل والفارق في التوازن الاستراتيجي، ليس مع الفلسطينيين فحسب، وإنما مع الدول المحيطة بها جميعها. بل تسعى «إسرائيل» أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة، فهي لن تسمح فقط بإقامة دولة فلسطينية، وإنما لن تسمح بوجود دول حولها تمتلك جيوشاً قوية، بل لن تسمح لأي دولة في المنطقة بأن تمتلك أسلحة متطورة، تعتقد أنها يمكن أن تهدد أمنها واستقرارها وتفوقها. ومن هنا جاء اهتمامها بما يحدث في الدول العربية من (ثورات)، فعملت منذ البداية على تأجيج الصراع، مع الإبقاء على مراقبة شديدة للتوازنات بين الفرق المتقاتلة، ومن مصلحتها الإبقاء على حالة الصراع ضمن الحدود التي تضمن استمرارها وتفكيك تلك الدول.
فمنذ عشرين عاماً تقريباً، بعد عودة الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، لم تحقق المفاوضات سوى المزيد من التراجعات والأزمات، ولم تحقق القضية الفلسطينية سوى المزيد من التنازلات. وقد وجدت «إسرائيل» في الانشقاق الفلسطيني -الفلسطيني، وإقامة كيانين منفصلين في قطاع غزة والضفة الغربية، فرصة ذهبية لفرض المزيد من الشروط، وتأجيج الصراع بين الكيانين الهزيلين. وقد وصلت القضية الفلسطينية إلى حد حصرها في تأمين رواتب موظفي السلطة، والتفاوض على أموال الضرائب التي تحتجزها «إسرائيل» كلما (عاندت) السلطة في بند من البنود، وهكذا تحول الهم الرئيسي للقيادة الفلسطينية من (ثورة حتى النصر) وإقامة دولة مستقلة، إلى الحفاظ على الأمر الواقع كما هو وبأقل الأضرار، وتأمين الرواتب للموظفين، والحفاظ على مستوى مقبول من الأمن الداخلي في الضفة الغربية، ولهذا، فإن القيادة الفلسطينية تلجأ إلى التهديد بين مدة وأخرى، بحل السلطة الفلسطينية، و«وضع «إسرائيل» أمام مسؤولياتها الاجتماعية والأمنية والاقتصادية».
ويبدو أن العالمين الغربي والشرقي، باتا ينظران إلى المفاوضات كحل وغاية، بعد أن كانا ينظران إليها كوسيلة، فوجود مفاوضات يعني وجود الاستقرار في المنطقة، وبعدها الأمل في التوصل إلى حل. ويعلم السياسيون الغربيون والشرقيون والعرب أن الحل أصبح مصطلحاً يهوّم في الفضاء، فإطلاق تصريحات تتحدث عن حل الدولتين ما هو إلا تكتيكات لإبقاء الوضع على ما هو عليه، في انتظار أحد أمرين: الأول أن ييأس الفلسطينيون ويفقدوا صبرهم ويوافقوا على حكم ذاتي ودولة منزوعة السلاح، والثاني أن ييأس «الإسرائيليون» من اللعبة والانتقال إلى غيرها، وذلك بإعادة احتلال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو بشكل أدق، احتلال قطاع غزة والقضاء على التنظيمات (العنيدة)، لأن الضفة الغربية محتلة في واقع الأمر، ولا يمكن القول بغير هذا، في ظل المعطيات اليومية والحيثيات والتفاصيل التي تردنا وتتداولها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. أما الأمر الثالث الذي لم يحسب له الفلسطينيون ولا «الإسرائيليون» حساباً دقيقاً، فيتجسد في الحراك المبهم الذي يدور في المنطقة العربية، ولاسيّما الدول التي تشهد قتالاً عنيفاً ،هذا الحراك الذي لم تعد تتحكم به الجهات المتصارعة من تنظيمات وأنظمة، وإنما بات مفتاح تأجيجه أو خفوته أو حله بيد قوى إقليمية، تتصارع لتنفيذ سياسات ضبابية غير مقنعة، لأن الحرب لن تحل الأهداف المعلنة وغير المعلنة. فهنالك من يحلم بعودة إمبراطورية عفا عليها الزمن، وهناك من يحلم بخلافة واسعة جدا، وهناك أقليات تحلم بكيانات خاصة بها، وهناك من لا يحلم أبداً في ظل المشهد المعقّد.

الحساب الدقيق الذي تحدثنا عنه يتمثل في تصادم القوى الإقليمية اللاعبة بقوة وبوضوح إلى درجة الرعونة والوقاحة، تصادماً عسكرياً مباشراً، وليس عن طريق تنظيمات وجماعات مسلحة، وهذا التصادم سيخلط الأوراق من جديد، وتعود اللعبة إلى أولها، وربما تكون نتائجه كارثية لبعض اللاعبين لأسباب كثيرة، فمن أراد إقصاء الفتنة سيجدها عند بابه وفي بلاده، ومن أراد الدفاع عن مذهبه قد يجد انشقاقات سياسية في مذهبه، وستكون الخسارة للجميع، وسيعودون إلى المفاوضات.
وهذه الفرضية الثالثة ربما قد بدأت بالفعل، ويسعى كثيرون إلى تجنّب تصاعدها وتفاقمها، ولهذا يتخذون خطوة استباقية عن طريق إحياء المفاوضات من جديد، وهذا وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، يحذر كلاً من «إسرائيل» والفلسطينيين من أن «عدم فعل أي شيء بشأن تحريك عملية السلام المتوقفة، سيوصل إلى طريق مسدود يهدد المنطقة كلها بالاشتعال..»، وذكر جملة يرددها السياسيون الغربيون منذ زمن طويل، فقد شدد فابيوس على أن «ضمان أمن «إسرائيل» مهم جداً، ولكن لا سلام دون عدالة، وعندما يزداد الاستيطان يتراجع حل الدولتين». وكان فابيوس يتحدث للصحفيين بعد لقائه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وفي موضوع ذي صلة، كشفت مصادر «إسرائيلية» خلال الأسبوع الماضي أن هناك ضغوطاً على «إسرائيل» من أجل قبول هدنة طويلة توافق عليها حركة حماس، تتراوح الهدنة بين خمس وعشر سنوات، لإعادة إعمار قطاع غزة بما فيها البنية التحتية التي دمرتها الحرب الأخيرة. ونقلت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» عن مسؤول في حركة حماس،موسى أبو مرزوق قوله «نريد لمصر أن تستأنف دورها التاريخي في القضية الفلسطينية، ليس فقط في الوساطة والمصالحة بين حركتي حماس وفتح، بل أيضاً في المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين و«إسرائيل».
لقد قلنا منذ البدء إن المفاوضات أصبحت غاية وهدفاً وليست وسيلة لاسترداد الحقوق، وها هي المقترحات الجديدة تتحدث عن أمور حياتية وليست استراتيجية، مثل الحديث عن مطار وميناء بحري في غزة، وهي أمور تتعلق بالحياة اليومية للفلسطينيين، ولا تحل المأساة الحقيقية المتمثلة في وجود احتلال استيطاني بغيض، ولا تحل مأساة ملايين اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في بقاع عديدة من العالمين العربي والغربي، والحل في نظر الجميع يكمن في المحافظة على الواقع كما هو، أي الرضوخ للهيمنة الصهيونية الكاملة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2165564

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع عبدالله السويجي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

2165564 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 33


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010