الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010

الدورة التاريخية : واجهات المسألة الصومالية (5)

الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010 par د. أكرم حجازي

ما بين تجربة المحاكم والقوى الجهادية المنبثقة عنها ثمة أحداث عظيمة تجتاح الصومال وأخرى قادمة لا محالة. والثابت، حتى الآن، أن القوى الجهادية تتقدم على حساب كل القوى الصومالية والأجنبية في البلاد. ومع ذلك فلا الحكومة انهارت ولا القوات الأفريقية «الأميصوم» انسحبت ولا قامت الدولة الإسلامية ولا تَقاتَل المجاهدون فيما بينهم كما توقع الكثير من المراقبين الصوماليين وغيرهم. فمن هي القوى الفاعلة؟ وما هي نواظم العلاقات التي تحكم فعالياتها؟

خلافاً لما هو شائع فالساحة الصومالية ليست سهلة المنال لهذا الطرف أو ذاك. فالمشكلة واقعة في صميم التكوين الاجتماعي والبنية الذهنية والمعرفية وحتى التعليمية الراهنة، فضلاً عن الفقر التاريخي في الرصيد السياسي والحضاري للمجتمع الصومالي. بمعنى آخر المشكلة هي مشكلة مرجعيات. وكل ما يجري حالياً هو صراع طاحن على السيادة بين مرجعيتين هما القبيلة والإسلام. وإذا ما أمكن تفكيك هذه الثنائية، ولو بالحد الأدنى، فسيكون من السهل امتلاك مفاتيح المراقبة للمسألة الصومالية لاحقاً.

[**

أولاً : القبيلة والدولة

*]

يرى أغلب الصوماليين أن القبيلة هي :

(1) الناظم الحاسم في صياغة العلاقة بين مختلف التشكيلات السياسية والاجتماعية في البلاد؛

(2) كما أنها مصدراً للتدخلات الخارجية والإقليمية؛

(3) وكثير منها تقدم مصالحها على كل مصلحة غير آبهة بأية محرمات حتى لو كان بالتحالف مع القوى الخارجية بما فيها أثيوبيا المكروهة من الصوماليين فرداً فرداً حتى من ألدّ خصوم المجاهدين.

لذا فإن كانت المسألة الصومالية ستظل عصية على الحل إلى أن تنضج القوى السياسية والاجتماعية بصورة تمكنها من صياغة مستقبل البلاد بعيداً عن سطوة القبيلة والمخاطر التي تخلفها؛ فإن مثل هذه الأطروحة تعني أن القبيلة ستظل هي المرجعية التي لا تعلوها أية مرجعية لكافة القوى حتى لو كان الإسلام الذي يجري توظيفه من قبل القبيلة في خدمة سلطتها ونفوذها وامتيازاتها وحتى صراعاتها. مشكلة هذه الأطروحة أنها تجد لها صدى في المجتمع الصومالي الذي تستوطن فيه الأمية بنسبة تفوق الـ 83 %! وإذا صحت هذه النسبة، وهي كذلك على الأرجح، فهذا يعني أن كافة القوى الحية في المجتمع والدولة محصورة فيما تبقى من الدائرة المئوية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نسبة محدودة جداً من الـ 17 % يمكن أن تكون في دائرة الفعل.

في 26/6/1960 أُعلن استقلال شمال الصومال رسمياً عن بريطانيا، وبعد خمسة أيام (1/7/1960) استقل جنوب الصومال عن إيطاليا. وفي 21/10/1969 قاد اللواء محمد سياد برى انقلاباً على الحكم المدني ليصبح الرئيس الثالث للبلاد بعد الاستقلال. وقد امتد حكمه العسكري إلى سنة 1991 إثر انقلاب عسكري قبلي نفذته مجموعة من كبار قادة الجيش على رأسهم اللواء محمد فارح عيديد بدعم من القبائل التي كانت تعلم علم اليقين علاقة المعارضة بالأثيوبيين.

من الواضح أن عمر الدولة الصومالية الحديثة بكل أشكال الحكم التي تداولت عليها لا يتجاوز ثلاثين عاماً فقط، منها 21 عاماً من الحكم العسكري. أما على المستوى الإسلامي والتاريخي فلم تكن الصومال واقعة في المدى الحيوي للحكم الإسلامي على امتداد القرون الماضية. كل هذا يعني أن الصومال، وإنْ كان بلداً مسلماً متجانس المذهب (الشافعي)، وشعب محب لدينه وفخور بانتمائه إليه إلا أنه يفتقد لأي رصيد حضاري أو سياسي سواء على المستوى الإسلامي أو الوطني، وتبعاً لذلك فهو يفتقد لأية تجارب حكم كافية لبلورة ذهنية وطنية أو إسلامية أو، بالمحصلة، معرفية تمكِّن من الاسترشاد بها في مواجهة الأزمات. مع ذلك لا بد من التمهل في إعطاء أحكام قاطعة في هذا المجال، ولو أن ما أشرنا إليه هو الصورة الغالبة والأكثر شيوعاً بين الصوماليين عن حقيقة هذا البلد تاريخياً.

هكذا إذن! ظلت القبيلة بمثابة المرجعية الأولى، ماضياً وحاضراً، في الفهم والتفسير والسلوك والتوجيه والاختيار لدى الغالبية الساحقة من المجتمع الصومالي بما فيه النخب السياسية والإسلامية. وإذا قمنا بعملية فحص لملامح الأزمة الصومالية، فيما بعد مرحلة الاستعمار المباشر، فلن نعجب كثيراً إذا ما تبين لنا أن الرئيس الصومالي محمد سياد بري اصطفى من قبيلته ومقربيه من يساعده في الحكم وإدارة الدولة رغم أنه ألقى في البلاد في أحضان الفكر الشيوعي الذي لا يعترف بالقبيلة ولا بأية منظومة فكرية أو اجتماعية إلا منظومته القائمة على التفسير المادي للتاريخ الذي يصنعه، بحسب الماركسية، الصراع الطبقي، القوة المحركة للتاريخ.

في الفترة ما بين انهيار نظام حكم الجنرال سياد بري ومجيء المحاكم الإسلامية (1991 - 2006)، ظهر في الصومال 20 فصيلاً قبلياً مسلحاً تَزَعمها من اشتهروا بأمراء الحرب الصومالية. وتلقوا دعماً من أحط العناصر القبلية وأكثرها فساداً وإفساداً ودموية، بدء من القتلة وانتهاء بقطاع الطرق. واحتكم كل واحد من هؤلاء على مساحة اجتماعية وجغرافية عاثت في الصومال فساداً وإجراماً لم تعثه أية قوة أجنبية غزت البلاد. ولا عجب أيضاً أن يتلقى هؤلاء جميعاً تسليحاً من أثيوبيا يمنع انتصار أحدها على الآخر بحيث تبقى وضعية الصومال ممزقة بصفة دائمة ... بلد ضعيف .. عاجز .. ومجتمع مفكك ومتصارع قبلياً. وهي الحالة النموذجية التي تحبذ أثيوبيا رؤية الصومال فيها، وسط مجاعة وموت أفزع العالم في تسعينات القرن العشرين. فالخيار الأثيوبي واقع بين الإمبراطورية الأثيوبية أو الصومال الكبير.

في 31/1/2009 انتخب البرلمان الصومالي المكون من 550 نائباً الزعيم السابق للمحاكم الإسلامية شيخ شريف أحمد رئيساً للصومال في جيبوتي بأغلبية 280 صوتاً مقابل 120 صوتاً لمنافسه ابن الرئيس المخلوع محمد سياد بري! وجرت عملية الانتخاب والتنصيب برعاية أمريكية وأثيوبية ودولية. وبدا أن الرجل يتمتع بشعبية. والحقيقة أن البرلمان الصومالي جرى تشكيله على أساس المحاصصة القبلية والعشائرية. فضلاً عن أن عدداً لا بأس به من النواب هم أصلاً من أمراء الحرب السابقين، وحتى الحكومة المشكلة برئاسة شرماركي كانت القبيلة تهيمن على تشكيلتها وهويتها.

[**

ثانياً : القوى الإسلامية

*]

لم تكن القوى الإسلامية بأحسن حال من الدولة أو زعماء الحرب أنفسهم، الذين تسلطوا على المجتمع وأطلال الدولة، فهم أيضاً قبليو التفكير في سعيهم إلى جني المكاسب وتحقيق المصالح، كلٌّ وفق رؤيته واحتياجاته. وفي المحصلة فشل الصومال في استعادة ذاته كدولة مثلما فشل في لملمة انقساماته كمجتمع على وقع الانقسام القبلي والعشائري بمختلف صنوفه وتحالفاته.

مشكلة القوى الإسلامية في الصومال أنها «غير ناضجة ولا راشدة»، وهي أقرب إلى القبيلة من قربها إلى الإسلام. وأعجب ما فيها أنها تمثل انعكاساً لكافة أطياف الصحوة القادمة من مصر السبعينات وجوارها، وكذلك من الجزيرة العربية رغم العداء التاريخي بين الصوفية مثلاً والوهابية. فالإخوان موجودون بشقيهم المحلي والدولي، والسلفيون موجودون بكافة أطيافهم، والصوفية موجودة بطرقها المتصارعة والترابية (نسبة إلى د. حسن الترابي في السودان) موجودة بانفتاحها وتخبطها. لكنها جماعات ظلت منذ ولادتها ذات امتداد قبلي قابل للتشظي والانقسام على الدوام. أما لماذا؟ فلأنها (1) ضعيفة التكوين وعديمة الخبرة، و (2) لأنها مرتبطة خارجياً بأصول تكونها وتلقيها، و (3) لأنها ليس لها أية تطلعات سياسية فضلاً عن أن (4) بعضها لا يعمل بالسياسة أصلاً. فما أن انهار الحكم في الصومال حتى صدمتها التجربة وعاجلها الفشل وبدأت تبحث عن منقذ. وبدلاً من أن تتعظ من الفشل والقصور انقسمت مجدداً ورحب بعضها، علناً وضمناً، بالتدخل الأثيوبي.

فالطيف الإخواني الذي ملأ فراغاً كبيراً في التعليم والإغاثة بعد انهيار نظام الرئيس سياد بري انقسم على نفسه في أكثر من مناسبة أبرزها امتناعه عن المشاركة في المحاكم الإسلامية بزعامة شيخ شريف سنة 2006، ثم انقسم ثانية إبان الغزو الأثيوبي للبلاد ابتداء من 24 ديسمبر سنة 2006.

أما الجماعات السلفية فثمة طعون من كتاب وباحثين صوماليين في الأصول العلمية الأولى لبعض المشايخ. إذ ثمة من يؤكد بأن عدداً لا بأس به من الطلبة لم يتتلمذوا على يد كبار مشايخ الجزيرة أو مشاهيرها بحيث يتحصلوا على علم شرعي متين. بل أن بعض طلبة العلم الشرعي حصلوا من مشايخهم على تزكيات للدراسة وهم لم يتجاوزوا مراحل التعليم الأساسية، أو أنهم حصلوا على شهادات ثانوية مزورة ممن زكوهم ليضطروا بعد عودتهم إلى إعلان الحرب عليهم جزاء ما فعلوه بهم من خداع لا يقبله الشرع. وثمة طعون أخرى تكشف عن أطياف سلفية ذات أطروحة عجيبة أسوأ من أطروحة الجامية كتلك التي تبالغ بوجوب طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه بينما لا يتواجد هذا الولي إلا في صيغة أمراء الحرب الذين تقاسموا البلاد والعباد بعد انهيار النظام والدولة.

وبالنسبة لسليلي النهج «الترابي» القادمين من السودان فيعلق أحد الكتاب على مقالة لكاتب صومالي، مذكراً بالدور السلبي لهم، وساخراً بالقول أنه : «كان من أكبر إنجازاتهم، إسبال السراويل وحلق اللحى أو قصرها، وإباحة مصافحة النساء والغناء والاختلاط، والازدحام على أبواب السينما لمشاهدة مباراة كرة القدم، ... والتغني بحرية المرأة ...، وتشجيع المسلمات الملتزمات على طرح النقاب وتمييع الحجاب، يا لها من خدمات جليلة»!

حتى المحاكم الإسلامية التي تأسست أولاها ابتداء من سنة 1994 في العاصمة مقديشو لم تكن بعيدة عن القبلية؛ إنْ لم يكن في البدايات فعلى الأقل في خضم تطور التجربة التي تجلت باتحاد 17 محكمة إسلامية سنة 2006 شكلتها القبائل لمطاردة المجرمين وقطاع الطرق إلى أن ذاع صيتها وصارت نموذجاً يحتذى لضبط الأمن ورد المظالم وكفالة الفقراء وإغاثة المنكوبين. أما كيف حققت نجاحاً مفاجئاً وساحقاً باعتمادها الأحكام الشرعية مرجعية لها فلعل بعض الأسباب التالية تفسر ذلك إلى حد ما :

■ لأنها حظيت بمشروعية اجتماعية وفرتها لها قبائل الهوية التي رفعت الغطاء القبلي عن أمراء الحرب ومنحته للمحاكم.

■ لأن القوى الإسلامية بقيادة حركة الشباب، التي لم تكن قد ظهرت بعد، وكذا الشيخان حسن تركي وحسن طاهر أويس وغيرهم وفروا لها غطاء من القوة المسلحة، وهي ذات القوى التي فرضت على المحاكم التحاكم إلى الشريعة مستفيدة من غياب أية مرجعية للحكم.

■ التأييد الشعبي الساحق للمحاكم في ضبط الأمن. وهذا معطى بالغ الأهمية كونه مؤشر غير مسبوق على تراجع دور القبيلة كملاذ يوفر الأمن والحماية للأفراد.

لكن ما أن انهارت المحاكم مع التدخل الأثيوبي حتى تفككت، وعاد بعض أفرادها إلى قبائلهم فيما بحث قسم آخر عن انتماءات جديدة لهم في إطار التحالف من أجل تحرير الصومال الذي انقسم هو الآخر إلى جناحي «أسمرة» بقيادة حسن طاهر أويس و «جيبوتي» بقيادة شيخ شريف. أما حركة الشباب المجاهدين الذراع العسكري الأساسي والأقوى في المحاكم فقد استقل وحده مبتعداً عن أية تشكيلات سياسية وطنية أو علمانية.

بالنسبة لعلماء الصومال فأغلبهم يقيم في الجوار والدول العربية وحتى في أوروبا. ولئن شكا الصوماليون من غيابهم طوال فترة الأزمة فإن من بقي منهم في الداخل خاصة في إطار جماعة «الاعتصام» فقد نأى بنفسه عن الأزمة منذ اندلاعها، أو على الأقل لم يكن فاعلاً إلا في إطار الانقسام الخلوي. فـ «الاعتصام» خرجت من رحم «الاتحاد الإسلامي» مبكراً جداً، ثم ما لبثت أن اتخذت قرارا بوقف العمل المسلح تماماً ابتداء من سنة 1996. ولعل الجماعة ظلت أقرب إلى الحكومات الصومالية المتعاقبة من قربها لأي حركة تغيير سلمية أو مسلحة، مما تسبب بخروج عدة أجنحة منها رفضت إلقاء السلاح أو أنها اختلفت مع قيادة الجماعة على مسألة الجهاد والمقاومة.

وهكذا ظلت مواقف «الاعتصام» من الاحتلال الأثيوبي والجماعات الجهادية طي الصمت إلى أن أكملت أثيوبيا انسحابها من الصومال في 15/1/2009. وبعدها سارع حشد من علماء الصومال في الداخل والخارج، بقيادة «الاعتصام»، إلى تنظيم مؤتمر في أواخر شهر شباط / فبراير شارك فيه كل من :

- الشيخ بشير أحمد صلاد، رئيس «جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة» ورئيس «لجنة العلماء»؛

- الشيخ نور بارود غرحن، الناطق باسم اللجنة؛

- الشيخ عبد الرحمن أحمد محمد، رئيس «حركة التجمع الإسلامي» الإخوانية المحلية؛ وهو حصيلة تجمع أسسه الشيخ محمد معلم في أواخر التسعينات باسم «تجمع العلماء» ثم تَسَمى باسم «مجمع علماء الصومال» سنة 2000 برئاسة الشيخ أحمد طِعِسو.

- الشيخ عثمان إبراهيم أحمد، وهو الذي أصدر بياناً بعزل القيادة القديمة لحركة الإصلاح الإخوانية احتجاجاً على تواطئها مع حكومة عبد الله يوسف ورفضها إدانة الغزو الأثيوبي، إلا أن الجماعة الأم في مصر تنصلت من الاعتراف بالقيادة الجديدة؛

- الدكتور أحمد طاهر أويس، داعية صومالي مشهور؛

- الشيخ عبد القادر نور فارح «جعمي»، عالم دِين وداعية من «بونت لاند»؛

- الشيخ علي ورسمة، داعية من «بُرعو»؛

- الشيخ جامع عبد السلام؛

- الشيخ الدكتور يوسف محمد علمي؛

- الشيخ عبد الله شيخ نور؛

- الشيخ حسن أحمد محمود «حسن طيري»؛

- الشيخ محمود أبو شيبة؛

- الشيخ محمد محمد باكستاني؛

- الشيخ عبد الرزاق آدم، والشيخ عمر حسن نوح؛

- الشيخ يوسف عبد الغني حوبلي؛

- الشيخ عبد الناصر حاج أحمد؛

- الشيخ أحمد محمد سليمان؛

- الشيخ عبد الرحمن يوسف عبد «جرني»؛

- الشيخ حسن غاب، وغيرهم من العلماء؛

كما جاء من خارج الصومال كل من :

- الدكتور شريف عثمان أحمد، مقيم في السعودية؛

- الداعية الكيني الصومالي الأصل الشيخ محمد عبد أمل.

وبعد أسبوع من المناقشات أصدرت المؤتمرون بياناً تضمن الإعلان عن ميلاد «هيئة علماء المسلمين» بقيادة الشيخ بشير أحمد صلاد. وطالب البيان الرئيس شيخ شريف والحكومة الصومالية باتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيق الشريعة في غضون تسعين يوماً تبدأ من 1/3/2009، والعمل على إخراج القوات الأفريقية في مدة أقصاها 120 يوماً. كما طالب كافة القوى بعدم اتخاذ أي إجراء منفرد إلا بالعودة إلى العلماء. وفي المحصلة كان من الممكن قبول بيان العلماء لولا أن كافة القوى الجهادية وغيرها رأت في ميلاد الهيئة وتركيبتها ورئاستها وبيانها تشريعاً للرئيس الجديد وحكومته. كما أن الهيئة ليست من القوة بحيث تلزم الحكومة فعلياً بتطبيق شريعة توافق هوىً لدى أثيوبيا والقوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وليست من القوة بحيث تلزم الحكومة بطرد القوات الأفريقية من البلاد. زد على ذلك أن البرلمان الصومالي المطالب باتخاذ قرار بتطبيق الشريعة هو برلمان قبلي يضم في ثناياه علمانيين وأمراء حرب. أما «الاعتصام»، ذات المنحى السلمي في بنيتها الفكرية والدعوية والسياسية، فإن تاريخها لا يؤهلها البتة لقيادة مرحلة ما بعد الاحتلال الأثيوبي خاصة وأنها فشلت في قيادة أية مرحلة سابقة. فكيف يمكن الثقة بالهيئة أو برئيسها أو ببيانها؟ وكيف يمكن لها أن تنجح في المصالحة وتوحيد البلد وهي التي عانت من الانشقاقات الداخلية أكثر من أية جماعة أخرى؟

[**

ثالثاً : أهل السنة والجماعة

*]

قبل أن تفكر الصوفية في الخروج من معازلها التقليدية فقد حاولت بعض القوى الصومالية إخراجها منها في وقت مبكر، واستمالتها لتوظيفها في الصراعات الدموية نظراً لما تمثله من ثقل اجتماعي يحسب حسابه. فالصوفية تنتشر في المجتمع الصومالي قبل أن تتأسس الدولة الصومالية، وقبل أن يظهر فيها أي نظام حكم. ومن الطبيعي ألا يمسها السوء طالما أنها لا تقترب من السياسة ولا من المقاومة. مع الأخذ بعين الاعتبار حالات التمرد لبعض المشايخ المنتمين إليها، وشروعهم في مقاومة القوى الاستعمارية. لذا فقد ظلت الصوفية أميل إلى الانعزال وأبعد ما تكون عن الإسلام الحركي إلى ما بعد الانسحاب الأثيوبي حيث تغير كل شيء. وإذا تأملنا قليلاً في تحول الصوفية نحو الإسلامي الحركي الذي ينافس بعضه وغيره ويخوض معارك باردة وساخنة دفاعاً عن أطروحاته؛ فيمكن القول أن الصوفية ما كان لها أن تخرج من عزلتها إلا في ضوء :

■ شعورها بالخطر إزاء انتشار القوى السلفية على اختلاف أطيافها في المجتمع الصومالي، ومزاحمة كافة القوى الإسلامية، خاصة فيما تقدمه من عقيدة تحارب البدع والخرافات وتبحث عن الدليل وتتمسك به. وهذا تَسَبب بانتشار بعض الوعي في الإسلام وأحكامه بعيداً عن الأطروحات الأسطورية للصوفية.

■ العداء التقليدي بين الصوفية والوهابية. فالصوفيون الصوماليون، كغيرهم، كانوا يوصون أتباعهم لدى سفرهم إلى السعودية طلباً للعلم الشرعي الابتعاد عن الوهابية ومشايخها ومذهبها التاريخي ممثلاً بالإمام أحمد بن حنبل وتلاميذه خاصة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية.

■ حملة القوى الجهادية لاسيما حركة الشباب المجاهدين على كل مظاهر الشرك التي تؤمن بها الصوفية وأتباعها خاصة فيما يتعلق بهدم المزارات ونبش القبور والأضرحة ودفن رفاتها في أكثر من مكان بحيث لا يعاد بناؤها مجدداً. ولا ريب أن مثل هذا السلوك أثار حفيظة مشايخ الصوفية في أرجاء الصومال، وعرّى معتقداتهم خاصة فيما يتعلق بمشايخهم الذين قدموهم للأتباع على أنهم من أهل العرفان وأصحاب الكرامات والوسطاء بين الله والأتباع سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فإذا بهم لا يستطيعون الدفاع عن رفاتهم! وأخطر ما في هدم الأضرحة أنه سلوك سيدفع العامة من الناس والأتباع إلى المقارنة بين ما تلقوه من تعاليم ومعتقدات وما تراه أعينهم.

أعجب ما في الجماعة أنها لم تكن هي من اختار اسمها، لكن ظهورها بهذا الاسم «أهل السنة والجماعة» لم يكن صدفة ولا هوى، بل فيه خداع كبير للعامة لتزكية الذات والالتفاف على سيل الاتهامات الملازمة لها تاريخياً في صناعة المعتقدات الشركية والعمل بها وتقديسها. فالصوفية وفقاً للصيغ البدعية الغالبة عليها كتعظيم القبور والأضرحة والأولياء والرقص والطبل والطرب والشعوذات السلوكية عبر تثقيب الأجساد بالقضبان الحديدية والأسياخ المعدة خصيصاً للغرض، والمشي على الجمر والكرامات والمعجزات والخوارق التي يزعم مشايخها أنهم يتمتعون بها فضلاً عن الاتصال بالأنبياء والله عز وجل والتوسط لهذا وذاك لا يمكن أن تكون من معتقدات أهل السنة والجماعة بقدر ما هي معتقدات بدعية صاغها المعتقدون بها والمدافعون عنها والمروجون لها. ولأن طرقها شائعة في الصومال وسط مجتمع تسوده الأمية من كل جانب فقد وجدت لها رواجاً واسعاً.

بحسب أحد الكتاب الصوماليين فقد ظهرت التسمية «أهل السنة والجماعة» عبر إذاعة محلية في العاصمة مقديشو افتتحها الجنرال محمد فارح عديد في أوائل تسعينات القرن الماضي. وبدأت تبث على الهواء أناشيد وأوراد طرقية، في محاولة منه لاستمالة الصوفية كواجهة دينية يستخدمها لإضفاء الشرعية على أعماله الإجرامية من جهة وضربهم بالحركة السلفية التي قاتلته في ضواحي مدينة كسمايو من جهة أخرى. وفي منتصف التسعينيات عادت التسمية للظهور في العاصمة عبر تجمع محدود النشاط على ذمة الشيخ عبد الرزاق أحد علماء الطريقة القادرية الصوفية، رفقة مدرسة ثانوية سميت بـ «مدرسة المأمون». لكن الظهور الأقوى والمسلح كان في أواخر العام 2008 في المناطق الوسطى، حين اصطدمت مع القوى الجهادية على خلفية التعرض لمقابر بعض أقطاب علماء الصوفية وهدم مزاراتهم في أكثر من مكان، وحظر المناسبات الدينية، ناهيك عن تهديد التجمعات الصوفية في مدن وقرى الجنوب.

لكن إذا كان سبب اصطدام الجماعة بالقوى الجهادية هو هدم الأضرحة وغيرها في مناطق متفرقة من الجنوب خاصة في إقليم شبيلي الأوسط حيث مدن «كسمايو وبارطيرى وبيولي»، موطن أهم المزارات والمقامات والأضرحة التاريخية لرموز الصوفية، فإن أول ظهور مسلح للجماعة لم يكن في هذه المناطق بل في المناطق الوسطى التي لم تتعرض لما بات يعرف، لاحقاً، بـ «حملة فأس الخليل»، كونها معاقل نفوذ تاريخي للصوفية لم تنل منها القوى السلفية مثلما نالت من مناطق الجنوب وقراه.

وفي حربها ضد القوى الجهادية تمركزت الجماعة في «غوريعيل وطوسمريب»، وتلقت تعزيزات من معاقلها في «غالكعيو وعابدواق وحرالي ومتبان وعدادو وعيل دير»، بالإضافة إلى مناطق الأطراف مثل «غلغدود» أو تلك المحاذية لإثيوبيا مثل مناطق «بكول - غدو» حيث يمكن الحصول على الدعم والمساندة بعكس صوفية الجنوب والساحل الواقعة تحت مطرقة القوى الجهادية بلا أي دعم أو مساندة. وقد أثار ظهور الجماعة المفاجئ والسريع، وتقدمها العسكري في عدة مناطق، وخوضها معارك طاحنة ضد حركة الشباب المجاهدين اهتماماً إعلامياً واسع النطاق، وتسبب بإثارة الكثير من التساؤلات حول مصدر تمويلها وتسليحها وقدرتها على الاستمرار.

ولم يطل الوقت حتى تحدثت تقارير كثيرة عن تلقي الجماعة لدعم إقليمي من أثيوبيا وكينيا وأوغندا. كما أنها على علاقة وثيقة مع حكومة الرئيس شيخ شريف سواء لجهة ما يجمعها معه من هدف مشترك في محاربة خصومه خاصة من القوى الجهادية، أو لكونه سليل عائلة صوفية شهيرة تتبع الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي، أو ما يعرف بالطريقة الإدريسية.

لكن تَقَصِّي نمو الجماعة وتحالفاتها المحلية والكشف عنها، من شأنه أن يلحق بها ضرراً شرعياً بالغاً داخل البلاد وخارجها، ويجردها أخلاقياً بحيث لا يبقي لها ما يكفي حتى لستر العورة. فالجماعة غدت حاضنة لكل من عارض القوى الجهادية ورغب في قتالها. ولا ضير إن كان بعض الحلفاء الجدد للجماعة من الجنرالات المتقاعدين وأمراء الحرب السابقين كبري هيرالي الذي هزمته حركة الشباب في مدينة كيسمايو وعبد وال، أو من القادة العسكريين في الحكومة مثل صلاد حريد الذي انضم مع آلياته وأسلحته للجماعة في 12/12/2009 بعد هزيمته في مدينة بلدوين عاصمة إقليم هيران أمام الحزب الإسلامي في تشرين أول/ أكتوبر 2009، أو مثل عبد الرحمن معو الذي انضم إلى الحزب الإسلامي بعد انشقاقه عن الحكومة الصومالية لينضم مؤخراً إلى الجماعة، وكذلك يوسف سياد انطعدي أحد أقطاب الحزب الإسلامي قبل انشقاقه عنه في شباط/ فبراير سنة 2009 والتحاقه بحكومة الرئيس شيخ شريف وتوليه وزارة الدفاع. والذي شارك إلى جانب الجماعة في المعارك التي دارت في المناطق الوسطى، وتعرض فيها مع الجماعة لهزيمة على يد القوى الجهادية، علماً أنه ينحدر من نفس المنطقة ويتلقى من قبائلها ما يحتاجه من دعم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الصبغة القبلية للمجتمع الصومالي فمن الطبيعي أن تحظى الجماعة بدعم من القبائل المناوئة للقوى الجهادية إما بسبب هزيمة مسلحيها وبعض قياداتها أو بسبب انتماءاتها الصوفية أو بسبب كونها خصيمة تاريخية لما تصفه بالإسلام الوهابي، أو بسبب أحقاد وثارات بين القبائل ورغبات في الانتقام ليس إلا.

هذا المحتوى المسلح والهجين للجماعة شجع بعض الآراء الصومالية على وصفها بالقول :

- أهل السنة والجماعة» ليست حركة إسلامية بمفهومها المعهود، بل هي ثورة وتمرّد وعصيان على السلفية الجهادية عامة وعلى حركة الشباب المجاهدين خاصة، وهذا الباب قد فُتح وكل خصم ينتظر الفرصة.

- يقود هذه الثورة كل مناوئ لحركة الشباب وحلفائها سواء كانوا زعماء حرب أو قبليين أو صوفيين أو إخوانيين في الحكومة أو زعماء قبائل.

يبقى القول بأن المصادر الصومالية لا ترى في الصوفية تماسكاً سياسياً فيما بينها حتى لو اختلفت جميعها مع القوى السلفية والجهادية، بل أن بعض الطرق على عداء شديد فيما بينها كالعداء التاريخي بين الطريقة «القادرية» والطريقة «الصالحية». ولا ريب أن مصدر التباين يرجع إلى اختلاف في الطرق والمناهج. وتبعاً لذلك يمكن ملاحظة خلافات منهجية شديدة بين الطريقة «الزيلعية» التي ينتمي إليها صوفية المناطق الوسطى الذين يعرفون داخلياً بـ «السمنترية»، وهي جماعة متشددة تقول بعض المصادر الصومالية أنها تتبنى تكفير مخالفيها، والطريقة «الأويسية» التي ينتمي إليها العديد من الطرق الجنوبية، وهي التي عقدت مؤتمرها العام تحت رعاية حكومة الرئيس شيخ شريف أحمد، وجددت فيه البيعة للشيخ شريف شيخ محيي الدين رئيساً للجناح غير المسلح لـ «أهل السنة والجماعة»، وهو الذي أعلن تأييده للحكومة الانتقالية فور انتخابه. والغريب أن الشيخ نفسه، بحسب ذات المصادر الصومالية، يرى أن العداء لحركة الشباب لا يبرر التحالف مع أديس أبابا. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه مشايخ آخرين في الجماعة ممن يرفضون مبدأ الاستقواء بالقوات الأجنبية لاسيما إثيوبيا كالشيخ عبد الله صومو، والشيخ عثمان حدغ.

أما عن حقيقة مواقفها من الحكومة، قبل وبعد مشاركتها الأخيرة وتوليها خمسة وزارات؛ وفي حكومة أثيوبية النفوذ والولاء، فالصوفية واقعة بين الحذر والاندفاع. فثمة أجنحة تكتفي بالقول أنها ستتوقف عن القتال إذا توقفت القوى الجهادية عن المساس بمزاراتها وأضرحتها. وهناك أجنحة أخرى أعلنت استعدادها لبناء تحالف استراتيجي مع الحكومة للقضاء على من تعتبرهم قوى «تكفيرية». لكن ثمة أجنحة لا تثق كثيراً في السلطة أو التحالف معها. وفي السياق لا يخفى أن بعض التصريحات ذهبت إلى حد التحذير من خطر الولوغ عميقاً في علاقات مع الحكومة قد لا تحمد عقباها خاصة فيما يتعلق بمصداقية الجماعة وشعبيتها أو بسبب عدم الثقة بمواقف الأطراف التي غالباً ما تحركها القبائل والمصالح والمغانم. فقد أعاقت الخلافات القبلية بين الصوفية انتخاب شخصية مشهودة لتوحيد طرقها تحت مشيخة واحدة. وهو ما حصل في مؤتمر مدينة «عابدواق - 16/12/2009» الواقعة في إقليم جلجدود، حين نجحت القبائل المتنفذة في استبعاد الشيخ النافذ دولياً محمود معلم حسن من رئاسة «أهل السنة والجماعة - جناح الزيلعية» المتشدد واستبدلته بالشيخ عمر محمد فارح لحسابات قبلية صرفة لا علاقة لها بالكفاءة ولا بالسياسية.

[**

رابعاً : القوى الجهادية

*]

■ [**المجتمع والشريعة والدولة*]

الحقيقة التي ينبغي التوقف عندها هي أن تيارات الصحوة الإسلامية بمختلف تشكيلاتها قد وطّنت للحضور الإسلامي الحركي في البلاد على الأقل ابتداء من سبعينات القرن العشرين. وأوجدت ثقافة إسلامية بين مختلف التشكيلات الاجتماعية سواء على مستوى القواعد أو على مستوى النخب. ونجحت فعلاً في الترويج لفكرة تطبيق الشريعة حتى صارت مطلباً تتفق عليه القبيلة والقوى الإسلامية التقليدية والجهادية وحتى شيخ شريف والولايات المتحدة وأثيوبيا! وهذا يعني أنه لا مناص ولا فكاك من تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية في الصومال عاجلاً أو آجلاً. وبلسان أحد الكتاب الصوماليين فإن : «الحركات الإسلامية حالياً هي المسيطرة على جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية، بل تجاوزت الخطوط الحمراء لتكون القوة العسكرية الحقيقية في البلاد، فالأحزاب السياسية الأخرى المحسوبة على العلمانية أو القبلية خرجت عن الساحة، كما أن الأفكار غير الإسلامية لا تجد رواجاً عند غالبية الشعب الصومالي».

لكن (1) الأمية الساحقة التي تميز المجتمع الصومالي، و (2) غياب الرصيد الحضاري والإسلامي والتاريخي الذي أشرنا إليه، و (3) طغيان الحضور القبلي المحمل بقيم العصبية التقليدية كالغزو والغنائم والنفوذ وحب السلطة والقيادة وإخضاع الغير .. كلها وغيرها غدت معايير ترجح الشك على الثقة لدى القوى الجهادية والحليفة لها، حتى لو صدقت الدعوات التي تطالب بتطبيق الشريعة. فالأمريكيون والأثيوبيون والحكومة وحلفاؤهم يراهنون على مثل هذه المعايير في إسقاط مطلب تطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الإسلامية. وهذا يعني، مبدئياً، أن المجتمع الصومالي يتعرض لحملة خداع دولية تنفذها أدوات محلية إقليمية متعددة؛ ليست القوى الجهادية بغافلة عنها، وإلا ما كانت هذه القوى المخادعة لتسقط المحاكم الإسلامية وهي تقيم الشرع وتحفظ الأمن وتطارد المجرمين وأمراء الحرب دون أن تهدد أحداً في الجوار أو في العالم.

وما أن مرت بضعة أسابيع أو شهور؛ حتى سقطت أطروحة الحكومة المؤيدة لتطبيق الشريعة سقوطاً ذريعاً، وسقطت معها مهلة هيئة علماء المسلمين للحكومة التي غدت تطالب علناً بزيادة القوات الأفريقية ومنحها صلاحيات أوسع من ذي قبل، وانكشفت تحالفات الحكومة وهي تنسق مع أثيوبيا والأمريكيين، وتجتمع بهم في أماكن شتى، وتطالبهم بالدعم والمساندة والتدخل الدولي وخاصة الأمريكي لإنقاذ الصومال ممن باتت تصفهم الحكومة صراحة بأنهم «متطرفين» أو «إرهابيين» دوليين. وبالتوازي مع هذا السقوط كانت التركيبة المحلية للحكومة ومؤسساتها تتكشف هي الأخرى تباعاً من حيث أصولها القبلية أو تحالفاتها مع القوى الأجنبية أو قواعدها الشرطية والأمنية التي لا تختلف كثيراً عن ميليشيات أمراء الحروب في قطع الطرق وابتزاز العامة والاعتداء على الممتلكات الشخصية. لكن إذا وضعنا في الاعتبار التوصيفات السابقة لمنظومات القوى، وشدة تعقيدات المسألة الصومالية، والعقبات الكبرى التي تقف بوجه القوى الجهادية؛ فالسؤال : كيف نجحت هذه القوى في توسيع نفوذها ومحاصرة الخصوم إلى الحد الذي صار فيه حلم الدولة الإسلامية على مقربة من أبواب القصر الجمهوري وثكنات القوات الأفريقية؟

[**- الأداء المدني لحركة الشباب المجاهدين*]

قلنا أن الصومال ليس لديه رصيد حضاري إسلامي ولا خبرة سياسية ولا دولة حديثة ذات امتداد تاريخي يمكن أن تساعد الصوماليين في استحضار ما لديهم من خبرات وتراكمات معرفية لإطفاء لهيب الأزمة. ولا شك أن هذين المعطيين مثّلا جزء من المشكلة الصومالية. لكنهما جزء من الحل بقدر ما يشكلان عناصر مغرية وجاذبة للمقارنة بين ماض مفقود أو فاشل، وآخر معروض وقابل، على الأقل، للنظر والاستكشاف. فالصوماليون باتوا أقرب إلى الإسلام والرغبة بإقامة دولة إسلامية من قربهم لاستعادة دولة علمانية لم يَخْبروها، ولم يروا منها خيراً يذكر، خاصة وأن الإسلام هو دين المجتمع ولا دين غيره. لكن بما أن القبيلة لا تشكل مشروع دولة؛ وبما أن المشروع الإسلامي فشل منذ بداية الأزمة في مطلع تسعينات القرن الماضي فما الذي يجعله مغرياً عبر القوى الجهادية؟

من المهم الإشارة إلى أن تجربة المحاكم بالمنظار الشرعي وليس بالمنظار السياسي تُعدّ من أنجح تجارب الحكم في الصومال. ورغم بنيتها القبلية إلا أنها مثلت اختباراً واقعياً ونموذجياً لمدى فاعلية الحكم الإسلامي في تطبيقاته القضائية من جهة، ولمدى قبوله من عامة الناس من جهة أخرى. كما أنها، تجربة، مثلت رصيداً لحركة الشباب المجاهدين يمكن الاستفادة منه والبناء عليه. وقد أثبتت التجربة أن اعتماد الأحكام الشرعية مرجعية للتقاضي، مكّن القوى الفاعلة من توفير الأمن أكثر مما وفره العرف القبلي، كما مكن القوى من حفظ الحقوق ورد المظالم أكثر مما فعلته أية مرجعية أخرى.

لا شك أن حركة الشباب المجاهدين هي الجماعة الأكثر قوة وانضباطاً وتدريباً وخبرة وتجربة مقارنة بكافة الجماعات الأخرى. ولا شك أيضاً أنها الجماعة الوحيدة التي تمتلك مشروعاً واضح المعالم في الصومال، بقطع النظر عن قبوله أو رفضه. ولا شك أنها الأقدر على فهم طبيعة البلاد والعقبات التي تعترضها. كل هذا يفسر لنا إلى حد ما جملة الأسباب التي دفعت بالحركة لِأنْ تؤسس لها جيشين، بخلاف كافة الساحات الجهادية الأخرى في العالم. والأعجب أن جيشها المقاتل أسمته بـ «جيش العسرة» استجابة فيما يبدو لقراءة منها رأت فيها أن الواقع الذي ينتظرها يحتاج إلى «جيش» تنتظره مهمات «عسيرة» وجبهات مفتوحة ابتداء من أمراء الحرب والمسلحين والمجرمين وقطاع الطرق مروراً بالقوى الإقليمية وانتهاء بالقوى الدولية. أما الأعجب من «جيش العسرة» فهو «جيش الحسبة» المدني. وما لا ينبغي تجاهله الإقرار بأن المسألة الصومالية هي مسألة اجتماعية بدرجة لا تقل عن كونها مسألة سياسية، وإلا ما كانت الحركة لتنشئ جيشاً قائماً بذاته. فقد كان من الممكن أن تكتفي بدائرة أو لجنة أو مؤسسة اجتماعية في إطارها تُعنى بمتابعة القضايا المدنية والدينية. وفي المحصلة لو كان «جيش العسرة» يفي بالغرض لما احتاجت الحركة لـ «جيش الحسبة» لفك تعقيدات الجبهة المدنية.

على كل حال، إذا ما انطلقنا من بيانات الحركة وما تناقلته وسائل الإعلام من أخبار عن نشاطاتها المدنية فسنلاحظ أن «جيش الحسبة» يتكون من مجموعات على قدر من العلم الشرعي، وعلماء شرع، ودعاة ومشايخ، وخبراء في المجتمع والسياسة، وتجار ووجهاء من قبائل حليفة للمجاهدين، ومثقفين وقياديين إداريين في حركة الشباب. هؤلاء تبدأ مهمتهم، على الأغلب، بعد سيطرة جيش العسرة على منطقة ما. وهم ذوو مهام متنوعة. فمنهم مجموعات مختصة بمراقبة الأسواق وحركة التجارة، وآخرون مكلفون بالدعوة والإرشاد وتهيئة المنطقة لتطبيق الشريعة، ومثلهم معنيون بتحصيل الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، ومجموعات أخرى تهتم بالتعليم، وأخرى مخصصة لفض النزاعات بين الأفراد أو بين القبائل والإصلاح فيما بينها، ومجموعات مكلفة بالمحاكم الشرعية وتطبيق الحدود والعقوبات، ومجموعات مهمتها مراقبة منظمات الإغاثة والمؤسسات الدولية العاملة في الصومال، ومجموعات أخرى معنية بالتنمية والزراعة والري ... وهكذا.

ومن الطبيعي في مثل هذه الأوضاع أن تضعف سلطة القبيلة وهيبتها كلما توسع سلطان الحركة على المناطق الخاضعة لسيطرتها، وشرعت، عبر «جيش الحسبة»، ليس بتطبيق الشريعة فحسب بل في تثبيت أهم العناصر المركزية في المشروع الإسلامي تمهيداً لإعلان الدولة الإسلامية. فإذا ما واصلت تقدمها على الأرض، وأحكمت سيطرتها، فستغدو فرصها أكبر في تقديم بديل أكثر جاذبية مما قدمه زعماء الحرب أو الدولة أو حكومة الرئيس شيخ شريف خاصة بالنسبة للقبائل الضعيفة أو التي عانت من الصراعات المدمرة مع القبائل الأخرى أو لأولئك الأفراد والعشائر والعائلات الذين خضعوا مكرهين لسلطة القبائل الطاغية ومظالمها.

فإذا كانت القبائل، حتى الكبيرة منها، تتصارع على الوجاهة والامتيازات والمكانات الاجتماعية والرياسات، ولو باسم الدين، فإن هيمنة بعضها على بعض لا يعني انتصاراً لهذه على تلك ولا تشريعاً لسلطة دون سلطة بقدر ما يعني مزيداً من الأحقاد والضغائن والخوف والثارات المؤجلة زيادة على التربص ببعضها البعض طوال سنين أو عقود من العداء المتبادل. وهنا بالضبط سيكون لفض النزاعات والإصلاح بين القبائل على أساس الحكم الشرعي إغراء لا يستهان به، ومخرجاً كريماً للجميع من حالة الاحتراب، ومكسباً شرعياً واجتماعياً. بل إن الخضوع للحكم الإسلامي سيكون ملاذاً من عقدة الحرج الواهية التي تتسبب بها غالباً بعض القيم القبلية، فمثل هذه العقد تكبل الشخصية القبلية وتعمق من الحواجز وتشحذ النفس بمشاعر المهانة أو الهزيمة أو الذل والعار. لكن في ظل حكم شرعي فالمقارنة المتاحة أمام القبائل لن تكون على قاعدة العار والنصر بل على قاعدة : أي المرجعيات أعدل .. وأيها أولى بالمراهنة والاتباع .. وأيها أكرم وأحكم؟ مرجعية القبيلة .. أم مرجعية أمراء الحرب .. أم مرجعية الإسلام .. أم مرجعية العزة بالإثم .. أم مرجعيات القوى الأجنبية والعلمانية؟

[**- الشباب والحزب الإسلامي*]

بعد الانسحاب الأثيوبي أوائل العام 2009 تم الإعلان عن تشكيل الحزب الإسلامي بزعامة د. عمر إيمان في الصومال، ومنذ ذلك الحين ساد المراقبين وأنصار المجاهدين مخاوف من أن تنتهي العلاقة بين الحزب وحركة الشباب إلى صراع دموي. فهما الآن يخوضان صراعاً ضد الحكومة وشيخ شريف، وصراعاً آخر ضد القوات الأفريقية، وصراعاً ثالثاً ضد جماعة «أهل السنة والجماعة». لكن إذا استطاع الطرفان تصفية خصومهم فالصراع بينهم قادم لا محالة.

في الواقع فإن مثل هذا الافتراض هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالحزب الإسلامي تأسس من جماعات صغيرة وبقايا مقاتلي المحاكم في تحالف «أسمرة» الذين يتزعمهم الشيخ حسن طاهر أويس. أما الأصل في التأسيس فيرجع إلى رفض المقاتلين استمرار الانضواء في تحالف «أسمرة» الذي لا يختلف في الواقع عن تحالف شيخ شريف في «جيبوتي» من حيث بنية التكوين والأهداف، فهو تحالف لا يتبنى الجهاد بصورة واضحة، فضلاً عن أن ميثاقه ذو محتوى وطني، ولا يضع في حسبانه إقامة الدولة الإسلامية.

إذن كلا الجناحين يضمان في عضويتهما علمانيين، وكلا الجناحين من ناحية شرعية وطنيين ليس لهما تطلعات فعلية حول تطبيق الشريعة أو إقامة دولة إسلامية. ولما يكون جناح جيبوتي قد اختار أثيوبيا والغرب مرجعية له فلا شك أن الموقف سيكون محرجاً للشيخ أويس الذي يقود تحالفاً بلا مرجعية. فمن جهتها استقلت حركة الشباب المجاهدين بعيداً عن أي من التحالفات الوطنية بعد انهيار المحاكم مباشرة، كما تبرأت الجبهة الإسلامية من التحالفات منذ اللحظة الأولى لظهورها سنة 2008، والأمر نفسه فعله الشيخ حسن تركي قائد جماعة رأس كامبوني. كل هذه التطورات السريعة دفعت د. عمر إيمان والشيخ حسن تركي إلى التقدم خطوة للأمام، ووضع النواة الأولى للحزب في إقليم جوبا. والسؤال : لماذا جاءت المبادرة من د. عمر إيمان في حين بقي الشيخ أويس في الظل؟

مشكلة الشيخ أويس الأولى أنه إسلامي التوجه والعقيدة، ويؤمن حقيقة بدولة إسلامية ولا يؤمن بغيرها، لكنه قبلي التفكير حتى النخاع. فمن جهة، لا يحتمل الشيخ أويس الضغوط الدولية، ومن جهة أخرى لأن مشروعه الشخصي لا يتصور فيه رئيساً للصومال غيره. ولأن السعي للرئاسة يستوجب قبولاً دولياً نراه حذراً من خطاب الشيخ أسامة بن لادن الذي انتقده، لتطلعات شخصية، وأعلن أنه يريد تطبيقاً معتدلاً للشريعة كما يقول. وهذه تصريحات لا تتوافق مع متطلبات الموقف الشرعي، لكنه يحاول أن ينأى بنفسه عما يعتقد أنه يشكل عقبات أمام طموحاته. فهو يعرف جيداً أنه لا يوجد في الشريعة أحكام معتدلة وأخرى متطرفة، ويعلم أن الغرب لن يرحب به طالما أصرّ على أفكاره.

مشكلة أويس الثانية أن معظم مقاتليه، بحسب مصادر صومالية، انضموا إما إلى القائد العسكري يوسف سياد انطعدي الذي انشق عن الحزب والتحق بالحكومة وصار وزيراً للدفاع، وإما إلى «أهل السنة والجماعة» في الأقاليم الوسطى. وهكذا لم يتبق له نفوذ كبير في الحزب. ومع ذلك فقد عاد وتولى رئاسته بعد إجبار د. عمر إيمان على الاستقالة. فما الذي حصل بالضبط؟

الذي حصل أن الشيخ أويس ينتمي إلى عشيرة تابعة لقبائل الهوية الكبيرة في الصومال. ولأن معظم مقاتليه تخلوا عنه؛ فقد استغلت الحكومة هذا الوضع وحاولت الإيقاع بالحزب الإسلامي وضربه بالقبائل عبر إظهاره بأنه يخوض حرباً ليس ضد «أهل السنة والجماعة» أو الحكومة بل ضد قبيلة الهوية. وهذه وضعية سياسية حساسة لا ينفع في التصدي لها شخص كالدكتور عمر إيمان بل شخصية عسكرية وحرفية وتاريخية ومن ذات القبيلة. وهكذا انسحب د. عمر إيمان ليفسح المجال أمام الشيخ أويس.

لكن هذه الوضعية للحزب لا تؤهله مستقبلاً للبقاء أو القدرة على خوض مواجهات حاسمة مع الخصوم. ولأن معظم قواعد الحزب من المقاتلين يعتنقون الفكر السلفي الجهادي فقد لاحظنا صدور تصريحات من قيادات مختلفة داخل الجماعات المكونة للحزب تتحدث عن مفاوضات وحوارات للتوحد أو الاندماج مع حركة الشباب المجاهدين خاصة بعد افتضاح محاولة الانقلاب على إدارة ميناء كيسمايو احتجاجاً على تطبيق الشريعة من قبل أحمد مدوبي القائد العسكري القادم من كينيا فجأة، والذي زعم انتماءه للحزب الإسلامي ليلقى بعض الترحيب من بعض القادة والتبرؤ من قادة آخرين. كما رصدنا تصريحات بدا وكأنها تحاول اختصار الطريق وهي تتحدث عن حوارات بين الجانبين تمهد لإعلان الدولة الإسلامية.

قد يسأل سائل : لماذا انضوت الجماعات الصغيرة تحت راية الحزب لدى اعتراضها على تحالف أسمرة ولم تندمج مباشرة مع حركة الشباب المجاهدين رغم أنها تعتنق نفس الفكر بدرجة كبيرة جداً؟ بل أنها تكاد تكون في حالة تطابق فكري تام؟ الأرجح أن قادة الجماعات حاولوا طويلاً، بعيداً عن مزالق الشيخ أويس، الإفلات من التصنيفات الدولية والإقليمية لكن دون جدوى. فلما اتضحت المواقف حسموا أمرهم بالانضمام إلى الحركة، بل أن الأنباء تحدثت عن مجموعات كبيرة من الحزب في مناطق عدة بايعت حركة الشباب.

هكذا لا يبدو أن الشيخ أويس أو الحزب يشكلان أي خطر على المشروع الإسلامي الذي يقوده المجاهدون في الصومال بمن فيهم الحزب الإسلامي، حتى لو حاول بعض أقطاب الحزب اللعب على وتر تكثير سواده، في مواجهة الحكومة، ولو على طريقة أحمد مدوبي الذي انفصل أو تم فصله من الحزب. وإن كان هناك احتمال لخطر قادم من الشيخ أويس بالذات فهو بالغ المحدودية إن لم يكن معدوماً. ولعل أطرف توصيف لوضعية الشيخ أويس نجده لدى أحد الكتاب الصوماليين الذي روى طرفة يتناقلها الناس بعد ترؤس الشيخ للحزب تقول : «إن الشيخ ترأس مجلس شورى المحاكم الإسلامية فانهار، وترأس التحالف من أجل تحرير الصومال - جناح أسمرة فانهار، فهل سينهار الحزب الإسلامي برئاسته؟». وعليه فالشيخ بدون حركة الشباب ضعيف، وقوته مرهونة بقوة «الشباب»، وليس في العكس أدنى قدر من الصحة.

[**

ملاحظة :

*]

شكلت المحاكم الإسلامية التي امتد حكمها لستة أشهر فقط حاضنة للصوماليون بكافة أطيافهم الاجتماعية والإسلامية، ودعموها بقوة، إلا من أبى! وحين ظهرت «أهل السنة والجماعة» شكلت، هي الأخرى، حاضنة لفرق الصوفية المتصارعة، ولكل من بحث عن عنوان لمقاتلة المجاهدين! ولما ظهرت حركة الشباب المجاهدين شكلت حاضنة للقوى الباحثة عن تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية حتى لو جاؤوا من شرطة وجنود الحكومة وبعض نواب البرلمان والشخصيات الناقمة على تجربة الحكومة!

لكن المحاكم فشلت في مواجهة القوى الإقليمية والدولية، بينما تحالفت «أهل السنة والجماعة» مع القوى المعادية من موقع الضعيف. أما حركة الشباب فقد بلغت من القوة ما يكفي لطرد القوات الأثيوبية، وتهديد «الأميصوم»، وإصابة كينيا بالفزع من احتمال تمدد التيار الجهادي إلى مجتمعها واختراقه لأراضيها، وما يكفي لقرص أذن أوغندا، بصورة كادت تفقدها صوابها، عقاباً لقواتها في «الأميصوم» على استهداف المدنيين كلما شعرت بالتهديد ولو بقذيفة طائشة. ومع أن حسم الموقف في الصومال ما زال غامضاً إلا أن سرعة دوران الدورة التاريخية فيه لا تقل عن سرعتها في أفغانستان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 86 / 2165286

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165286 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010