الأحد 14 حزيران (يونيو) 2015

أسباب نظرية إلغاء الدولة ونتائجها

الأحد 14 حزيران (يونيو) 2015 par علي جرادات

الصراع المتعدد الأشكال الدائر بين الدول العظمى على مناطق النفوذ والسيطرة يتصاعد، سواء كان في إقليم «الشرق الأوسط»، والمنطقة العربية منه تحديداً، أو في منطقة شمال إفريقيا وجمهورية أوكرانيا، بينما ترتفع وتيرة التنافس وتحرشات المناورات العسكرية بين واشنطن وبكين في منطقة «الشرق الأقصى». بهذا عاد العالم إلى «الحرب الباردة»، بما ينذر بانتقال حروب الدول العظمى بالوكالة، إلى صدام مباشر بينها، علماً أن توازن القوى بعد الحرب العالمية الثانية، هو ما جنّب البشرية ويلات مثل هذا الصدام، بل الكارثة.
يتمثل مصدر القلق من وقوع مثل هذا الصدام، ولو على نطاق إقليمي، في أن الولايات المتحدة لا تريد الإقرار والتسليم بأن استمرار إدارة العالم ب«نظام القطب الواحد» بات حلماً أيديولوجياً خارج الممكن الواقعي، بعد فشل مساعيها لتحويل روسيا إلى «دولة تابعة»، ولاحتواء الصين التي تنافسها اليوم في حجم الانتاج القومي السنوي (اكثر من 17 تريليون دولار لكل منهما). هذا ناهيك عن أن دولاً كبيرة ووازنة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تنسق مع روسيا والصين وتعمل معهما في إطار مجموعة «البركس» على بناء نظام عالمي جديد يتسم بالتوازن وتعدد الأقطاب، بينما تتوق وتسعى إلى الهدف ذاته، ما تسمّى «الدول المتمردة»، مثل كوريا الشمالية وإيران وأغلب دول أمريكا اللاتينية. وكل ذلك من دون أن ننسى تعاظم نقمة شعوب العالم، (بما فيها الشعوب «الغربية»)، واحتجاجاتها المتعددة المظاهر والأشكال على هذا النظام الذي قاد إلى سيطرة 30 شركة احتكارية معولمة على 70% من السوق العالمية، حسب محمد حسنين هيكل، ما يشير إلى ما بلغته البشرية في حقبة «نظام القطب الواحد» من مستويات مذهلة من الفقر والبطالة والأمية والتخلف والجهل، وتدني فرص السكن وانعدام الأمن والاستقرار وانتشار الجريمة ونقص المياه الصالحة للشرب، ومن حروب وأشكال مرعبة من الإرهاب أزهقت أرواح الملايين من البشر، وخلفت أضعاف أضعافهم من المصابين والمعاقين والمشرّدين والمهجرين، وصولاً إلى تفكيك الدولة أو تقسيمها في كل من أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال ومالي وأوكرانيا، وإعادتها وغيرها من الدول إلى ما قبل نشوء الدولة.
إذاً ثمة ترابط بين انتهاك الدول العظمى لمعاهدات ومفاهيم وقواعد الحفاظ على الدولة وسيادتها واستقلالها ووحدتها، ونظريات شطب الدور التنموي للدولة، كنظريات يتبنّاها بعض حكام رأسمالية الاحتكارات المعولمة الذين يضبطون إيقاعهم على إيقاع نصائح خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، الذين لا يرون دوراً تنموياً اقتصادياً للدولة، ويتركون لقوانين السوق على نهج تاتشر وريغان وبوش الأب والابن، الذين أطاحوا نظرية «كنز» التي تمسّكت بدور للدولة بعد «الركود العظيم»، (أزمة 1929-1933) الذي مهّد لصعود النازية والفاشية وتعاظم قوة الحركة الصهيونية، وصولاً إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانحازوا إلى سياسات الليبرالية الجديدة التي قضت بإلغاء دور الدولة حتى الرقابي على المضاربات في البورصة،( مركز الثروة الاقتصادية العالمية اليوم). وهو ما أفضى إلى الأزمة المالية، عام 2008، التي تحولت إلى أزمة اقتصادية أسفرت - حسب الإحصاءات «الغربية» الرسمية - عن خسائر عالمية تناهز 35 تريليون دولار، وعن مديونية أمريكية تجاوزت 17 تريليون دولار، ومديونية أوروبية بلغت نحو 10 تربليون دولار.. إلخ بينما خسر الدولار أكثر من 10%، ما رفع اسعار المواد الغذائية في العالم إلى أكثر من 40%.
بالمحصلة، إن إعادة بعض الشعوب إلى ما قبل نشوء الدولة تعادل إعادتها - عملياً - إلى أنظمة الإقطاع التي حشرت البشرية - لقرون طويلة - في وضعية الطغيان السياسي، وحروب الإبادة الطائفية والمذهبية والإثنية، وقصور الديناميكية والمراوحة في المكان تنموياً، علماً أن النظام الرأسمالي الذي اكتسح أوروبا ثم أمريكا واليابان.. إلخ هو الذي أسقط أنظمة الإقطاع تلك، وحقق للبشرية خلال القرنين الأخيرين إنجازات تاريخية اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وديمقراطية سياسية ليبرالية. والبداية كانت في نشوء الدولة المدنية الحديثة بعد الثورات البرجوازية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا.. إلخ.
لكن رأسمالية السوق الانتاجية التي أعطت الدولة دوراً تنموياً في عصر «الثورة الصناعية» تحوّلت إلى رأسمالية احتكارية، ثم إلى احتكارات معولمة في عصر «الثورة التقنية»، وحقبة «نظام القطب الواحد». وهذا ما يفسّر تناقض أن النظام الرأسمالي الذي حقق للبشرية إنجازات تاريخية، هو ذاته الذي قادها إلى حربين عالميتين وعشرات الحروب المحلية والإقليمية، وإلى نشوء الفاشية والنازية والصهيونية، وقبل ذلك إلى استعمار واحتجاز تطور واستتباع ما يسمى بلدان «العالم الثالث»، ما يكشف الخلل البنيوي للرأسماليات «الغربية» المتمثل في تغييب الديمقراطية الاجتماعية، داخلياً وخارجياً. وهو الخلل الذي أنجب سياسات الليبرالية الجديدة «المتوحشة» التي تضرب، فيما تضرب، ما بناه النظام الرأسمالي من قطاع عام، وصل أحياناً إلى 20 - 30% من الاقتصاد الكلي، ومن اقتصاد انتاجي استوعب الشغيلة، وشيّد المدن المعاصرة، وأنشأ تنظيمات اجتماعية ونقابية ونسوية وأحزاب سياسية ومؤسسات اكاديمية وإعلامية وقواعد ضغط وحريات وحقوق..إلخ.
في المقابل عرفت البشرية في القرن الماضي تجارب النظام الاشتراكي الذي اكتسح رقعة واسعة من العالم، (الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية قبل الانهيار، والصين وبعض ولايات الهند ودول أخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية). والبداية كانت في الثورة الروسية عام 1917، ثم الثورة الصينية عام 1949. وهنا يجدر التذكير بأن النظام الاشتراكي كما النظام الرأسمالي، وإن بمضامين اجتماعية مغايرة، أنجز من خلال الدولة التي استحوذت على نسبٍ واسعة من الاقتصاد والمؤسسات المتصلة به راوحت بين 30 - 50% في بلدان و 70- 80% في بلدان أخرى، قاعدة اقتصادية انتاجية وعلمية وثقافية ومؤسسات دولة ومدن عصرية وديمقراطية اجتماعية حققت تحرراً من نهب الشركات الرأسمالية، وتوزيعاً أكثر عدالة للثروات والمنافع العامة، بينما كشف انهيار النظام في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، عن خلل بنيوي هو، جوهراً، تدني الديمقراطية السياسية، إن لم يكن تغييبها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2160607

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي جرادات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2160607 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010