السبت 6 حزيران (يونيو) 2015

الحروب والحضارات وأقواس النصر

السبت 6 حزيران (يونيو) 2015 par نسيم الخوري

عندما سألت صديقي الأستاذ في جامعة السوربون عن عظمة قوس النصر وبهائه، وكنا نتحادث تحته في مدى القتل والحروب التي تغرق فيها بلداننا العربية، وجرف المعالم الأثرية في بلاد الرافدين التي لم تكن تسمع بها أوروبا ولا الغرب، قال: لو نسيت الحروب والقتلى والدماء والمعارك التي خاضها نابليون بونابرت في حياته، وتأمّلت فقط في تلك الأيدي المشقّقة النازفة القابضة على الأزاميل لنقش قوس النصر، هذا أو كلّ المنقوشات والبقايا التي اعتبرها نابليون حضارة قدّمها إلى البشرية، عندها تدرك مدى القرابة التاريخية بين الحروب والحضارات.

طبعاً هو يشير إلى معلم حضاري لإحدى النقشات «النابليونية» التي توسم التاريخ بنصر نابليون، أو أوامره في النقش والحفظ، وقدّمها لي في صيغة متحيّرة بين الإعجاب والازدراء بمعالم التاريخ. كان يقصد، على الأرجح، البحث عن أعداد الأحياء، لا الأموات الذين نقشوا مجد نابليون وفرنسا فوق الأحجار والساحات والجادات.

لكنّنا اتفقنا على أن الكثير من طلاّب فرنسا قد لا يحنون رؤوسهم كثيراً لمعالم حضارتهم.

وقد أرجعتني هذه النزهة عقوداً ثلاثة إلى الوراء، عندما أجبرتني الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان إلى المكوث أكثر من عقد ونصف العقد في العاصمة الفرنسية، كنت أمرّ خلالها يومياً تحت قوس النصر الواقع في منتصف الطريق بين منزلي ومركز عملي.
لم أعد أشاهد فيها قوس النصر قوساً للنصر. هو معلم الشهود الصباحي والمسائي في البحث عن وطن جديد.
ولطالما سألت الحرّاس هناك عن تقديرهم لكمية الصور اليومية التي يلتقطها السياح الآتون من مختلف الجنسيات والألوان والثقافات واللغات لرؤية قوس النصر هذا، ولطالما كانوا يضحكون ويهزأون من سؤالي لسببين: الأوّل لكونه سؤالاً لا جواب له، والثاني لأنّهم لشدّة تآلفهم مع قوس النصر بات المعلم الحضاري هذا لا يرون فيه أكثر من صخرة عادية في زاوية مهملة أو تعجّ بالناس.

غريب أمر هذا التداخل بين الحروب والآثار والحضارات والناس في تعاقب أجيالها.

أعترف بأنّني لم أعد أشاهد قوس النصر بعظمته المعهودة لدى الرائي والواقف تحته للمرّة الأولى، ولشدّة ما بهتت صورته بين بيروت المقتولة الجريحة يومذاك، وباريس التي لا تنتهي، عقدت مقارنة بين أقواس النصر في المدن العظمى، وأحواض التنك التي تحضن شتلات الحبق التي كانت تزرعها أمي فوق الشبابيك الخضراء في القرية الوديعة الضائعة في جنوبي لبنان.
وكتبت: كان المحظيون من الناس يقصدون حمص ثم حماه لشراء السمنة الحموية ويفاخرون بها في لبنان والمحيط، وكان الناس أيضاً يقصّون مربعات التنك هذه ليقعدوا فوقها ويريحوا
أجسادهم المتعبة، أو يزرعوا فيها شتلات الورد والحبق. كانت الشتلات تموت ثم تزهر، ثمّ تموت وتزهر من عام إلى آخر، ومع تعاقب الأجيال، وعندما يصدأ التنك ويثقب، يسيل الوحل فوقها وفوق الجدران.
كان يكفي تذكّر منظرها ليدبّ الحنين في نفسي متجاوزاً منظر قوس النصر في باريس وأقواس النصر في العالم.
وكنت أسأل: متى ينتصر اللبنانيون على حروبهم.. فنعود؟
مهما استغرقت الحروب في الدماء والقتل والتدمير فإنّها آيلة إلى السلام، والصخرة التي من خلفها يطلق المقاتل قذائفه، أو يسند جسده للتصويب على إنسان لقتله تخفي حلم طاولة خشبية للحوار أي للسلام، هذا إن لم يدركه الموت. هي لعبة تاريخ الحروب الملازمة للإنسان منذ قابيل الذي قتل شقيقه هابيل بحجر فجّر رأسه. هي لعبة هائلة ومعقّدة لم تخرج من بلاد العرب تآلفهم كما بين مفهومي الحروب والحضارة.

كيف؟

يتقاتل عدد من الباحثين المؤرخين السوريين واللبنانيين، لنسب قابيل وهابيل إلى جغرافيتهم، للقول، وهذا صحيح، إن الحروب مركونة أساساً في النفوس، قد نجدها في المزاج والوجدان والذاكرة التاريخية المرتبطة بالسلطة.
قد تنبتها نظرة، أو كلمة قاسية، أو طمع، أو حقد، أو تطاول، أو اعتداء وعداوة قديمة موروثة.
لكن عندما تعلن الحروب وتنشب يصبح الناس والسلاح والمال والخبز هي القوى الحية تطيل حياة الحروب كما كتب ميكيافللي في «الأمير». تتقسّم دول وإمبراطوريات وتندثر وتتشتّت شعوب وتظهر أخرى بعدما تضع الحروب أوزارها، ويروح المنتصر المدمّى بدوره ململماً معالم نصره آمراً بحفرها فوق الجدران رسوماً ونقوشاً لمعارك وأسماء شهداء، كما في الأذهان والكتب المدرسية، وفي كلّ ما طالت يداه ورقاً وصوراً ونقشاً وتراثاً، يبقى للمنتصر وللأجيال تراثاً، وكلّ هذا يندرج في خانة الحضارة التي تبقى بدورها محكومة بالزوال ومهددة بالحروب. ماذا ننقش فوق أرض العرب؟ أي نوع من أقواس النصر في فوضى «داعش»، وما يسمى «دولة الخلافة»؟ عمّ يسأل الفلسطيني، والسوري، والعراقي، واللبناني، بعدما باتت معظم بلادنا مشتّتة فوق أرضها ولامقاعد لها لائقة في العالم، وقد أضاعت مقاعدها؟ ماذا عن مستقبل العرب والعروبة، وأقواس النصر القديمة التراثية والحديثة في أرضنا العربية؟
إنّ جحافل الجيوش المستوردة لرسم صورة «داعش» تمحو المعالم كلّها تماماً بعدما دأبت «إسرائيل» على إشاعة فلسفة وممارسة قتل الماضي ومحو آثاره، والسكان الأصليون إنّما غاروا في الأرض و«دماؤهم سماد نبتة العبقرية»، على ما قال الباحث جوزف مايستر أو نزحوا وفروّا باحثين عن تنكة فارغة أو صخرة يقعدون فوقها في انتظار... سحب الخرائط فوق شاشات الغرب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2178562

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع نسيم الخوري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2178562 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40