الجمعة 29 أيار (مايو) 2015

فلسطين ملحق السفير أيار 2015

الجمعة 29 أيار (مايو) 2015

نكبة فلسطين: الذكرى 68 بعناوين عربية متعددة..

- طلال سلمان | أيار 2015

سنة بعد سنة تتعاظم آثار “النكبة” في فلسطين على مجمل أقطار الوطن العربي، بينما تكتسب إسرائيل صورة “الدولة العظمى” في الأرض العربية مشرقاً ومغرباً.
تكفي مقارنة سريعة، هذه اللحظة، بين وقائع الحياة اليومية في العديد من الدول العربية وبين ما يجري داخل الكيان الإسرائيلي لنتبين فداحة الفوارق بين الأحوال التي يعيشها “المواطن” العربي وتلك التي ينعم بها الإسرائيليون، وهم بأصول أكثريتهم الساحقة “طارئون” على الأرض الفلسطينية استقدموا بالثمن، فضلاً عن إغراء الدين، إلى “واحة الديموقراطية” في هذا الشرق الذي تخلخل الكيانات السياسية فيه مشاريع حروب أهلية مفتوحة على المجهول.
كمثال فقط: في الفترة بين دعوة الإسرائيليين إلى انتخاب أعضاء الكنيست الجديد ونجاح نتنياهو في تشكيل حكومته الائتلافية الجديدة سقط ألف قتيل عربي أو يزيد في أربعة أقطار عربية هي اليمن وسوريا والعراق وليبيا، فضلاً عن مئات البيوت التي هدمت والمؤسسات الحكومية التي دمرت، والتي احتاج بناؤها إلى عشرات السنين وإلى مئات الملايين من الدولارات، وكل ذلك في ظل أنظمة دكتاتورية لا تعترف بالمواطن وحقه في الاختيار.
وفي ظل هكذا أنظمة لا عجب ان تتعاظم قوة إسرائيل وأن يتهاوى حلم “الدولة الفلسطينية” في ظل انهيار عوامل القوة العربية، وأن تصبح “السلطة” في رام الله مجرد هيكل إداري مفلس يخضع ـ بالضرورة ـ للإرادة الإسرائيلية... خصوصاً وقد خرجت الأنظمة العربية من ميدان بناء دولها التي تفتقد الآن مقومات وجودها، بل ويندفع بعضها سراً أو علناً إلى عقد الاتفاقات مع الكيان الصهيوني بعدما سقط عامل الخوف من “الشعب” وغضبته، في ظل تحول بشائر الثورة الشعبية العربية إلى نذر متلاحقة بتفجر مسلسل من الحروب الأهلية بلا نهاية.
ولقد فقد “الاحتفال” بذكرى “النكبة” دلالاته، بعدما تعددت النكبات العربية من دون ان تكون إسرائيل بالضرورة هي السبب، بل لعل السبب الفعلي يكمن في عجز النظام العربي عن حماية الأرض التي يحكمها وأهلها، وغالباً بالحديد والنار... ثم إن معظم أهل النظام العربي منهمكون في حماية مواقعهم وأسباب تسلطهم على شعوبهم، وهي تشغلهم عن مواجهة “العدو الإسرائيلي”، وإن كان هذا العدو قد تحول إلى ذريعة لتأكيد العجز بتعظيم قوته الأسطورية ورمي تهمة التخاذل على “الآخرين” ممن يتآمرون على أشقائهم ويتناسون عدوهم أو ينسونه فعلاً.
أي فلسطين، والحديث عن تحريرها، بينما النظام في مصر، الذي ورث دولة سلطتها متهالكة ومجتمعها مدمر وهاوية الإفلاس تتهدد اقتصادها؟.. والعهد الجديد سيكون مشغولاً بهمومه الثقيلة لفترة طويلة، وهو يحتاج إلى أموال دول الخليج العربي بالقيادة السعودية، والأموال لا تعطى من خارج السياسة، والحاجة تذهب بالعنفوان وتبرر التسليم بالشروط المجحفة التي تسيء إلى الكرامة“. ولكن الرغبة في شراء الوقت من أجل النهوض قد تبرر التساهل في ما هو”معنوي“من أجل ما هو”مادي"، وضروري من أجل تأمين الخبز والماء والكهرباء لعشرات الملايين!
أي فلسطين.. وسوريا غارقة في دمائها بنتيجة الحرب بل الحروب فيها وعليها، ينتشر جيشها على كامل أرضها ليواجه معارضات شتى بعضها سوري المنشأ وبعضها الآخر مستورد، ومن قبل كانت فلسطين عنوان بنائه، وهو قد خاض فيها ومن أجلها ثلاثة حروب كانت تتطلب أكثر من قدراته..
أي فلسطين والعراق الذي دمره الطغيان ومزقه الاحتلال الأميركي يعيش حالة من الحرب الأهلية في قلب الفتنة، يفصل مسعود البرازاني كُردَه في الشمال عن بقية أنحاء العراق تمهيداً لإقامة “دولته المستقلة” تحت الرعاية الأميركية ـ الإسرائيلية واحتضان شيوخ الخليج الذين لم يعرفوا “الدولة”، وإن كانوا حالياً يتحكمون بالدول ذات التاريخ في هذا الوطن العربي المهدد الآن في هويته فضلاً عن حلم توحده ولو بعد حين؟.
أي فلسطين ونيران الحرب الأهلية تجد من ينفخ لتأجيجها في “الدول” التي تحملت في الماضي عبء المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بينما دولة الأردن تكاد تتحول إلى حليف رسمي لإسرائيل، فهي ـ عملياً ـ شريكة في قراراته السياسية والاقتصادية، ثم إنها توظفه كجسر عبور (مموه) إلى أقطار الخليج، فضلاً عن العلاقات المفتوحة بين أجهزة المخابرات... هذا قبل الحديث عن “التكامل الاقتصادي”، وآخر انجازاته صفقة الغاز والنفط التي عقدها مع إسرائيل بأرقام فلكية ولمدة مفتوحة.
أي فلسطين وأهم الدول العربية التي كانت الأقوى، والتي استطاعت ذات يوم ان تخوض الحرب، أكثر من مرة، مع هذا العدو القومي الذي يتبدى الآن وكأنه “السيد” في هذه المنطقة هائلة الأهمية، مشغولة بإعادة صياغة دولتها.. ثم إنها مرتهنة (وكذلك الأردن ومنظمة التحرير) لشروط معاهدة كمب ديفيد، وجيشها ممنوع من دخول سيناء لحمايتها كجزء من أرض الوطن المصري، في حين تحتضن “القاعدة” ووريثتها “الدولة الإسلامية” وتحت الرعاية الإسرائيلية مجموعة من العصابات المسلحة التي تشاغل قوات الأمن المصرية، سواء داخل سيناء، وفي داخل المدن المصرية، بالتفجيرات وعمليات تصيد رجال الأمن والجيش وبث الذعر، مفيدة من المناخ المرضي الذي نشره “الإخوان المسلمون” بعد إسقاطهم من سدة السلطة.
... وفي سيناء، وعبرها، أقيمت “الأنفاق” تحت شعار “إيصال السلاح إلى المناضلين في غزة”... لكن هذه الأنفاق سرعان ما تعددت وجوه الإفادة منها، فغدت مرتعاً لشبكات تهريب السلاح وسائر الممنوعات إلى داخل مصر... وهذا ما تسبب في الإساءة إلى العلاقة بين السلطة المصرية ومنظمة “حماس” التي اعتبرت ان إقفال الأنفاق خدمة لإسرائيل، خصوصاً وقد جاء قراره مباشرة بعد الحرب الإسرائيلية الخامسة على المقاومة في قطاع غزة.
وهكذا فإن غزة تعيش منذ شهور طويلة حالة حصار قاس، يمنع عنها مقومات الحياة، ويفرض على أهلها نوعاً من الإقامة الجبرية، ويوفر لإسرائيل فرصة ان تتقدم وكأنها منظمة للإغاثة والنجدة، فتفرج عن بعض الأموال، وتيسر حركة الغزاويين عبرها.

ها هي دولة العدو الإسرائيلي تدخل سنتها الثامنة والستين، في حين يكاد العرب ينسون فلسطين وهم غارقون كلٌ في همومه الثقيلة.
وآخر ما حرر هذه الحرب السعودية الظالمة على اليمن، والتي استخدم فيها “العهد الجديد” في الرياض آلته الحربية جميعاً لدك المدن والقرى والقصبات وخطوط المواصلات والثكن العسكرية في سائر أنحاء اليمن، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بعدما فرض عليها حصاراً بحرياً قاسياً. والتهمة ان إيران قد استولت على اليمن، وأنها تستخدم تنظيم “أنصار الله” كأداة للسيطرة"... وواضح ان اليمن ستكون بعد هذه الحرب أرض خراب، وهي التي بالكاد قد عرفت شيئاً من أسباب العمران، وابتنت جيشاً يُتهم الآن بالولاء للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
إن السعودية تحاول، بهذه الحرب، ان تقدم نفسها، كقوة إقليمية كبرى وحيدة في المنطقة العربية، نتيجة غياب مصر في غياهب ضعفها واحتياجاتها التي وجدت فيها السعودية، وسائر دول الخليج، الذريعة لفرض هيمنتها الناعمة على الدولة العربية الكبرى التي كانت الضمانة ومصدر الحماية والدعم بمختلف وجوهه للدول العربية في عصر ما قبل كمب ديفيد.
ومن يذهب إلى اليمن محارباً أهلها الفقراء لا تخطر بباله فلسطين، وإن وجد من يذكِّره بها فإنه سيلبي النداء فينفح سلطتها مدداً بالكاد يكفي لدفع رواتب موظفيها وأجهزتها الأمنية المحكومة بالقرار الإسرائيلي.

اننا محكومون بالأمل..

وستبقى فلسطين، هي عنوان العروبة، عنوان حالة العار والهوان التي يعيشها العرب في مشرق أرضهم كما في مغاربها.
ويشهد التاريخ ان مئتي سنة من الاجتياح الغربي تحت لواء الصليبيين لم تجعل العرب، والفلسطينيين منهم أساساً، ينسون أرض القداسة،.. وهم قد عادوا إلى الميدان فحرروها بكل مقدساتها.
ولن يطول غياب العرب عن عروبتهم التي تعطي وجودهم المعنى، وعنوان العروبة: فلسطين.

إسرائيل: المسألة الشرقية

جيلٌ يهودي جديد “يصوغ” شرقيته: ينتصرون في برامج الواقع.. لا الواقع

- كفاح عبد الحليم | أيار 2015

أنا الشرقية التي لا تعرفونها / أنا الشرقية التي لا تذكرونها / التي تردّد عن ظهر قلب / كل أغاني “زوهار أرجوف” / وتقرأ ألبير كامو وبولغاكوف / أخلط كلّ شيء على نار هادئة / الحليب باللحم / والأبيض بالأسود / البخار يسمم سمائكم البيضاء-الزرقاء / ماذا ستفعلون بي؟ / أنا أتنفس بالعبرية / أشتري بالانكليزية / أحب بالعربية / ... وأتبكبك بالشرقية / The revolution will not be televised / The revolution will not be televised / ففي التلفاز هناك فقط إعلانات لشتى الشقراوات / ربما لهذا كانوا ينادونني بالمدرسة “زنجية” / أنا بالوسط - لست هنا ولا هناك / وإن كان عليّ أن أختار لاخترت “أفرو- يمن” / ماذا ستفعلون بي؟ / لا تقل لي كيف أكون شرقية / حتى لو قرأت إدوارد سعيد / لأنني الشرقية التي لا تخاف منك / لا بلجان القبول / ولا بمقابلات العمل / ولا بالمطارات / رغم أنك تسألني أسئلة ليست بقليلة، بعيون متهمة / تبحث عن بقايا عروبة بي / لكم من الوقت أتيت وكم من المال لديك / لم تأتِ الى هنا للعمل، صحيح؟ / لم تأتِ إلى هنا للعمل، صحيح؟ / ماذا ستفعلون بي؟ / فها أنا أقف بمركز الشبع / بعيداً عن الضواحي الجائعة / وتعلمت أن اتحدث بالأكاديمية / وأن أسافر بباص رقم 25 / وأن أقيس المسافة ما بين العقل والقلب / فقط لكي أفهم الطريق الى بيتي / ... ماذا ستفعلون بي؟ / وأنتم توبخونني / اذا ما توقفت بالحديث عن ذلك / لن يعد له وجود / فالكلّ يتزوج من الكلّ اليوم / ضعوا موسيقى شرقية بالعرس / الشرقية تبهج الأجواء / وبذهني “أهوفا عوزيري” تعطيني صوتها مرة أخرى / تعطيني الصوت / تعطيني كل شيء / وبذهني “صوت أجراس” / “أمي أمي افتحي الباب / كلّ جسمي يرتجف من البرد / أمي أمي أفتحي الباب / على كتفي عبء ثقيل”..
كتبت هذا النصّ عدي كيسار، وهي مؤسسة مجموعة “a’rs poetica” التي تجمع عدداً من الشاعرات والشعراء اليهود الشرقيين الشباب في إسرائيل. وكما في القصيدة أعلاه، يبرز تداول هذه المجموعة للمسألة الشرقية، لا سيما أنهم اختاروا لأنفسهم هذا الاسم، محرّفين المصطلح اللاتيني باستبدال الألف بالعين بحيث تتحول ars إلى a’rs. و “عرص” بالعبرية هي تسمية مهينة تطلق على شخص من أصول شرقية وتشير، باستخدامها الدارج، إلى كونه صاحب أسبقيات وذوق هابط، يتصرف بسوقية، ويتحدث بصوت عالٍ.

جيلٌ شرقيٌّ آخر، في السياق

يدلّ اختيار الاسم على التغيير الذي يجسّده هذا المشهد الجديد بتبنيه للثقافة الشرقية وإبرازه لها من دون محاولة تجميلها أو جعلها ملائمة لشيفرة الثقافة الغربية السائدة في أواسط النخب الإسرائيلية الأشكنازية. وعلى الرغم من أن التعاطي مع العلاقات الشرقية - الأشكنازية وغيرها من المسائل الشرقية البحتة ليس جديداً على الشعر العبري، إلا ان مجموعة الشعراء هذه قد نجحت في استقطاب الكثيرين إلى أمسياتها، والحصول على اهتمامٍ إعلامي لا بأس به، ولو أن البعض يجدها مغالية ومستفزة.
وربما ساعدها على ذلك كونها تأتي ضمن حراكٍ ثقافي أوسع بات ملحوظاً في الحيز العام الإسرائيلي خلال السنوات القليلة الأخيرة. فصعود جيل جديد من المبدعين الشرقيين قد خلق ما يشبه الصحوة الشرقية الثقافية التي لم تقتصر على الشعر والأدب، بل طالت الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية والموسيقية، ناهيك عن سواها من المجالات الثقافية كالفنون التشكيلية. إن الأسماء الشرقية لم تعد تتصدر اللوائح بأغاني البوب الشائعة فقط، بل أيضاً بموسيقى الأندي التي تستعيد الأغاني العربية والألحان الشرقية من الدول العربية التي أتى منها الآباء والأجداد. إلى ذلك، فإن السنوات الأخيرة شهدت طفرة في الأعمال السينمائية التي قدّمها مخرجون شرقيون، ورواجاً للأعمال التلفزيونية، التسجيلية والدرامية، التي تتناول المسألة الشرقية، وكان آخرها مسلسل “زغوري امبيريا” الذي يروي قصة عائلة يهودية مغربية الأصول من بئر السبع. سجّل المسلسل أرقاماً قياسية بحصوله على أكثر من 3 ملايين مشاهدة(!).
وكما يبين الكاتب الليبيّ الأصول يوسي سوكري في معرض حديث صحافي: “قبل 20 عاماً، لم يكن من الممكن نشر مثل هذه الأشعار التي تنشر الآن. فالمجتمع الإسرائيلي لم يستطع في الماضي احتواء قصائد كالتي يكتبها أعضاء”a’rs poetica“. صحيح أن الطريق ما زالت طويلة، ولكن شيئاً هاماً يحدث هنا، وهو عودة المهمشين.. لقد همشوا الثقافة الشرقية بحيث إنها لم تكن حاضرة في الحيز العام.. لقد قمعوها، أحياناً قمعا ثانويّا، وأحياناً قمعا فظّا. ولكنهم في كل الأحوال، لم يعطها مساحة. في مرحلة معينة، لم يعد بالإمكان فعل ذلك. عندها، تفجّرت بتأخيرٍ عمره عشرات السنوات”.
ومن جهتها وتجربتها، تضيف كيسار، وهي يمنية الأصول: “لا أريد أن أسمّيها صحوة، ولكنّ هناك جيلا جديدا. جيل حصل على تعليم عالٍ في الجامعة، ونجح بالوصول إلى أماكن مختلفة. إذا أردنا تحليل التوجهات الجديدة، أعتقد أن لها علاقة بعدّة عناصر. فأولاً، عندما وصل أهالينا إلى البلاد، أول ما أرادوا أن يقوموا به كمهاجرين هو الاندماج، ما يعني محو السمات الفارقة، لا سيما عندما يقول لك المجتمع:”نحن غير معنيين بثقافتك“، معتبراً ثقافتك الشرقية متدنية نسبةً للغربية. صحيح أن هذا الأمر موجود حتى اليوم، ولكن الجيل الذي اندمج، أصبح اسرائيلياً بكل شيء، ولم يكبر على الحاجة لمحو ثقافته. نحن لا نخجل من سماع أم كلثوم في البيت. في داخلنا شيء أصبح مستعداً للتعايش مع هذا الجانب من كينونتنا. ثانياً، أبناء جيلي كبروا برفاهٍ اقتصادي مقارنة بأهالينا. هناك تحسّن معيّن. هذا الجيل لم يرسل أوتوماتيكياً لتعلّم المواضيع المهنية، بل ذهب وتعلّم العمل في الإعلام، والسينما، والفن، وبدأ يندمج بمجالات الانتاج، وفهم أن لديه ما يقوله للعالم. هناك سببٌ إضافي في الحراك، وهو الثورة التكنولوجية التي حدثت هنا. فمع”يوتيوب“و”فايسبوك“، الحراس الذين قرّروا في السابق ما هي الثقافة المهيمنة لم يعودوا الوسطاء الوحيدين”.

ليّ عنق الصورة النمطية عن الشرقيين

تتوقف كيسار وغيرها من المتحدثين الشرقيين في أحاديثهم العامة عند السائد في الإعلام حتى الساعة. وتراهم يعتبرون أن الإعلام، حتى ولو استمرت محطات التلفزة بالضحك على الشرقيين وتصويرهم على أنهم سخيفون وغير متحضرين، وحتى لو استمرت الإذاعات بإبعاد الموسيقى الشرقية عن الأثير، لا يمكنه الاستمرار بتجاهل واقع الشارع الإسرائيلي طويلاً. فنظرة خاطفة إليه تبين أنه ليس جزءاً من الغرب. التيار المركزي في إسرائيل - بمعنى الغالبية وليس المقبول أو المهيمن - هو شرقيّ بوضوح، باعتقادهم. ما يفسّر نسب المشاهدة والتصفح العالية للمضامين الإعلامية المتعلقة بالشرقية. وقد تنبّه إلى ذلك العاملون في الإعلام، فصارت برامج تلفزيون الواقع تحرص على إدخال بعض الشرقيين لتحمية الأجواء بين المتسابقين وكسب نسب مشاهدة أعلى.
وعلى الرغم من حصول الشرقيين اليوم على حضور إعلامي أوسع، إلا أن صورة الشرقي في الثقافة المهيمنة لا تزال نمطية وسلبية أكثر منها إيجابية. ولا يزال المتحدثون الشرقيون يتساءلون عن حقيقة غياب الشرقيين عن النخب الثقافية في إسرائيل، حتى بعد 67 عاماً من إقامة الدولة. وبالإمكان القول إن الخطاب الشرقي السائد في العقد الأخير، يتمحور تمحوراً كبيراً حول القضايا الثقافية. وليس صدفةً أن بعض المواقع صارت توصف هذا النقاش بـ “الحرب الثقافية”. تدور رحى هذه الحرب بين من يحلو لهم تصوير إسرائيل على أنها “فيلا” غربية داخل “جانغل” (غابة) الشرق الأوسط، ومن يريدون لهؤلاء أن يستفيقوا ويفهموا أنهم يعيشون في الشرق الأوسط، وأن نصف السكان قدموا من الدول العربية. إلى ذلك، فإن الخطاب الجديد يركّز على مسألة تمثيل الشرقيين، لا سيما في الثقافة المهيمنة والرموز الوطنية والنخب التي تصيغ هوية الدولة، من كتّاب وإعلاميين وفنانين. وقد كانت حملة “شطار - خوفسكي” الأخيرة مثالاً على ذلك، إذ طالبت بوضع صور لشخصيات ذات أصول شرقية على الأوراق المالية المعتمدة في إسرائيل، والتي تحمل صورا لسياسيين ومثقفين جميعهم أشكنازيم (غربيون). أما حصول الشاعر ايرز بيطون على “جائزة إسرائيل للأدب والشعر العبري” مؤخراً فقد اعتبر إنجازاً كبيراً بهذا المعنى، خاصة أنه أول شاعرٍ من أصول شرقية يحصل عليها.

اليسار كـ “تشكنز”

يرى طليعيو الشرقيين الجدد، أو “النخب الجديدة” كما سمّوا في أحد البرامج التلفزيونية المعروضة مؤخراً، أن التيار الثقافي الأشكنازي المهيمن حتى اليوم لا يمثل الأغلبية. لذلك، هم يسعون لاختراقه في محاولةٍ للسيطرة عليه من الداخل.. حتى أن بعضهم يأخذ صورة “العرص” على عاتقه ليقول نحن، “العرصيم”، الذين نسمع الأغاني الصاخبة ونمتعض من “اريك اينشطاين” (مغن اشكنازي يعتبر من الأيقونات الإسرائيلية) خاصتكم. نحن الأغلبية، وكون ثقافتنا هابطة لن يغير من ذلك شيئاً، هذه هي الإسرائيلية بصيغتها الشرقية. أما النشطاء منهم فيسندون الأقوال بدراساتٍ ومقالات لباحثين شرقيين مثل إيلا شوحاط وسامي شالوم شطريت . بيد أن هؤلاء وغيرهم من نشطاء الجيل السابق للشرقيين، لا سيما مؤسسي “القوس الديموقراطي الشرقي”، كانوا بمعظمهم يساريين، ومنهم من كان معادياً للصهيونية. أما أبناء الجيل الجديد فيحرصون على عدم ربط اسمهم باليسارية خوفاً من ان يوصفوا بـ “المتشكنزين”، كما أنهم لا يعادون الصهيونية بقدر ما يحاولون تعريفها من جديد بما يتوافق مع رؤيتهم.

ارتباط العربية باليهودية.. والابتذال بالنيوليبرالية

المسألة الشرقية تتبدّل تبعاً لتبدّل الأجيال وما تتلقاه من الحياة. عن هذا الحراك، تشرح الإعلامية والناشطة عراقية الأصول شوشانا جباي لموقع “هعوكيتس” المختص بالشؤون الشرقية: “بالنسبة إلى قطاع من الأصوات بين الشرقيين، الناشط الجديد، الشخص الشعبوي، هو اليهودي الشرقي”الأصيل“، وهو نقيض”المتشكنز“الذي يبدو مزيفاً. التشكنز أصبح اسماً مرادفاً للتغريب الحداثي وحقوق الإنسان والتعليم والأخلاق الرفيعة. أما الشرقي الجديد الواعي، وفق كلامه، فيواصل تقبل الصورة السلبية عنه، وفي الواقع يواصل استنكار ذاته والتزلف كأن يقترح بأن”العرص هو شيء حقيقي“(!).. في الواقع، كلّ هذا اللغو حول الإشكنازييم والتشكنز يخفي موضوعاً أكثر جوهرية، وهو أن غالبية اليهود الشرقيين في إسرائيل ليس لديهم وعي شرقي أو أي وجهة نظر شرقية ذات معنى (يا ليتها كانت موجودة!) وإنما فقط وعي صهيوني. الوعي الشرقي حدث في الماضي، في الارتباط بين العربية واليهودية. أما الآن فقد أصبح ذلك مجرد خطاب إسرائيلي”.
وتضيف: “اليهود الشرقيون يشعرون بعدم الانتماء إلى الثقافة المهيمنة، لكنهم يعتقدون خطأً بأنهم يشكّلون الأغلبية العددية في الدولة والشعب اليهوديين. هذه حقيقة ليست مدرَكة في الوعي الإسرائيلي السائد، لأنها تناقض الصورة المكرسة عن”الجماهير الشعبية“التي تحاول الهيمنة الصهيونية دفعها في ذهننا منذ وطئت أقدامنا هنا. من لحظة هجرتهم إلى إسرائيل، توقّف اليهود الشرقيون عن تقلد الوظائف الأكبر في الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، وفقدوا وضعهم كنخبة. لهذا، فتسمية”النخب الجديدة“التي تنضح بالجهل المتذلل، تنثر الملح على جروحهم وذاكرتهم الطويلة. نحن لسنا نخبةً جديدة بل قديمة، قديمة جداً، وسلبت منها قوتها.. واقع الحياة اليومية الصهيونية هو في جوهره واقعٌ من الاقتحام العدواني وعدم الحساسية والاستهانة بحيز الفرد الآخر. ولكن، في الخطاب الصهيوني، يتم إسقاط هذه التصورات واختزالها بتقاليد اليهودي الشرقي. هذا الإسقاط شائع أيضاً بين نشطاء شرقيين، وهم لا ينشغلون الآن إلا به.. الانسحاب إلى سياسةٍ مبتذلة وسطحية للهويات والرموز يحدث الآن، خطوة خطوة، مع التدمير الذي يزرعه النيوليبراليون في البلد وفي العالم”.

لسنا ضحايا فحسب، ولا الحاصل نصراً

كلما ازدادت الصورة دقّة، تتشعّب. وهي حكماً متشعّبة. فتوضح جباي لموقع “هعوكيتس”: “الحق يقال إن الشرقيين ينتصرون مجدداً في التلفزيون، في برامج الرياليتي (تلفزيون الواقع)، وفي برامج الرياليتي التي تتشبه بالوثائقي. هذه البرامج القائمة على التوتر الطائفي تمتلك نسبة مشاهدة عالية في إسرائيل. ها قد احتشدنا وأرسلنا”إس إم إس“وهوب انتصرنا، مع إعلان دعائي وتاج على الرأس واحتفالات برّاقة بالتتويج، نظراً لأننا لا نملك إمكانية الحرب والتغلب على بنى القوى القائمة في الواقع.. فهيا بنا نحتفل بعوالم الوهم التلفزيوني.. بقلبٍ متألم، لم يبق إلا متابعة كيف تم سحب النشطاء الشرقيين إلى هيكل المجد الإعلامي النيوليبرالي، وهم، بالضبط مثل اليهود الشرقيين في الضواحي الذين يتم اختيارهم بحرص من قبل فرق تلفزيون الرياليتي، ينشغلون بالصراخ والتمرد على التصورات السلبية عن الشرقيين في عين الإشكنازيم ليس إلا.. التصورات السلبية لا الهوية، التصورات السلبية لا التقسيم العادل للموارد، التصورات السلبية عن الشرقيين فحسب، لا الفلسطينيين أو أية جماعة أخرى مهمشة. هذا الدفق العاطفي المتزايد من الصراخ في التلفزيون وفي الشبكات الاجتماعية، لا يسهم في تجنيد الناس للنضال ضد الظلم الهيكلي للمنظومة.. حتى الآن، ليس ثمّة مكان للبرامج السياسية المنظمة للشرقيين. ولا مكان للنضالات الاجتماعية الجماعية وللنشطاء على الأرض. وليس من قبيل المصادفة أن هذا المكان مفقود. ولا هو أمر عرضي أن تتردّد مقولات تستخف بمن يتبنون مواقف طبقية وعالمية، لأن النضال الشرقي الثقافي الاختزالي للنشطاء النيوليبراليين والصهاينة هو الذي انتصر الآن.. هل يعتبر نصراً لنا، هذا الانشغال بنا فحسب، وغلق العينين عن حقيقة أننا نحن اليهود الشرقيين لسنا فقط ضحايا العنصرية، بل شركاء كاملون كجلادين لجماعات أخرى، وأن هناك جماعات أخرى مهمشة بيننا، وفي مقدمتها الفلسطينيون؟ بالمساعدة المحسنة للنيوليبراليين الذين ورثوا سلطة”مباي“، تم تحييد التوتر الإثني، وأصبح موضوعاً ثقافياً فحسب ومعركة هزلية إعلامية مع الإشكنازيم على المكان في القمة، وعلى حق السيطرة على الآخرين.. أيّ انفصال بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي - السياسي الذي هو أساس الحياة، مآله استمرار القمع.. صحيحٌ أنه، حتى الآن، لم تولد جماعة مقموعة في التاريخ وحّدت قواها مع الجماعات التي تقع أسفل منها في السلم الاجتماعي، بهدف هزيمة الحاكم بدلاً من أخذ الغنائم في اللحظة التي يقترحونها لها. ولكن أن نسمي ذلك انتصاراً؟ ثورة؟”نحن النخب الجديدة“؟ فعلاً؟”لماذا أنتم النخب الجديدة“، هكذا يتساءل المحاور المستمتع في التلفزيون.”لأننا نحن من نقرر معدلات المشاهدة، نحن من نقرر أسعار الإسكان، نحن نقرر من هو رئيس الحكومة“، يجيب الثرثار الشرقي الجديد بجدية مطلقة. وفي الواقع، تراه يصادق بذلك على الصورة المرغوبة للإشكنازيم كنخبة، وعلى دور الشرقيين كقطيعهم الشعبي (بالإشارة الى معدلات المشاهدة والتصويت الجمعي في صناديق الاقتراع!)”.

في نقد السلطة
الأسئلة التي توقظها نتائج انتخابات “جامعة بيرزيت”

- خالد فرّاج | أيار 2015

جاءت نتائج انتخابات مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت لهذا العام الدراسي (2015/2016) مثيرةً ومفاجئة بكل المقاييس. إذ لم تستطع كل القوى السياسية المنضوية تحت لواء “منظمة التحرير الفلسطينية”، سواء متفرقةً كانت أو مجتمعة، التفوقَ على “كتلة الوفاء الإسلامية” التابعة لـ“حركة حماس”. ولا تقتصر المفاجأة على ذلك فحسب، وإنما تشمل عجز قوى “المنظمة” عن تقليص الفجوة حتى، وكان ذلك أضعف الإيمان. فنتائج الانتخابات تتيح لـ“الكتلة الإسلامية” تشكيل المجلس الطالبي، من دون الحاجة إلى أيّ من الكتل الأُخرى التي كان يمكن لها أن تؤدي دور بيضة القبّان. في المقابل، فإن كتلة “تحالُف بيرزيت الطلابي”، التي ضمّت “الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين” و “الاتحاد الديموقراطي الفلسطيني” و “حزب الشعب”، حصلت على مقعد واحد. إذا أضيفت إليها الكتل الطلابية التابعة لكل من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و “حركة فتح”، فإن جميعها لا تستطيع تشكيل المجلس، لا متفرقة ولا مجتمعة.

تاريخياً: على إيقاع البلد السياسي

لقد شكّلت انتخابات مجلس الطلبة في “جامعة بيرزيت” على مدار عشرات الأعوام، وتحديدًا قبل توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، مؤشرًا حيويًا يدلّ على الاتجاهات السياسية والفكرية للشعب الفلسطيني، وخصوصًا في الداخل الفلسطيني. كان ذلك في الوقت الذي مارست فيه دولة الاحتلال مختلف الإجراءات لتحول دون إجراء هذه الانتخابات، سواء عبر اعتقال ممثلي الكتل الطلابية والمرشحين للانتخابات، أو عبر وضع الحواجز على الطرق المؤدية إلى الجامعة، أو حتى بإغلاق الجامعة قبيل الانتخابات. بالفعل، لقد كانت هذه الجامعة الفلسطينية العريقة تعبّر عن نبض الشارع الفلسطيني ومزاجه السياسي، وكانت قيادة القوى السياسية الفلسطينية تراقب باهتمامٍ بالغ العملية الانتخابية في الجامعة، وتأخذ نتائجها دائمًا بعين الاعتبار. ثم إنها كانت تخصّص ميزانيات كبيرة للدعاية الانتخابية للكتل الطالبية التابعة لها، عدا عن الدعم السياسي الكبير لهذه الكتل لما لهذه الجامعة من أهمية وثقل.
كانت المنافسة تحتدّ على إيقاع الوضع السياسيّ الذي يسود البلاد. فعلى سبيل المثال، خاض كلّ من “حركة فتح” و“حزب الشعب” انتخابات مجلس الطلبة في العام 1993 بكتلةٍ واحدة حملت اسم “القدس والدولة”، في دعمٍ واضح للاتفاقية الانتقالية أوسلو. في المقابل، فإن “حركة حماس” والجبهتين “الشعبية” و “الديمقراطية” خاضتا تلك الانتخابات ضمن كتلةٍ حملت اسم “القدس أولاً”، في إشارة إلى تفريط القيادة الفلسطينية بالقدس كعاصمةٍ للدولة الفلسطينية. وفازت آنذاك كتلة “القدس أولاً” بفوارق بسيطة جدًا عن كتلة “القدس والدولة”، فكتب المحللون والمراقبون أن هذه الانتخابات بمثابة استفتاء فلسطينيّ عام على اتفاقية أوسلو، وأن النتائج أظهرت “رفض الشعب الفلسطيني لهذا الاتفاق”، وتمسّكه بخيار المقاومة كخيار بديل عن المفاوضات والاتفاقيات التي لا تنصف الفلسطينيين. ومن أبرز ما أوضحته الانتخابات حينها كانت سعة صدر الكتل الطلابية المتنافسة، بالإضافة إلى الغطاء والدعم اللذين وفّرتهما الجامعة لحماية العملية الديموقراطية. لا ينفي ذلك أن المزايدات السياسية بلغت حدّ التجريح والإساءة، ولكن، مع ذلك، مرّت التجربة على نحو مثير.
مع تأسيس السلطة الفلسطينية وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأولى في سنة 1996، تراجعت إلى حدّ كبير الأهمية الممنوحة لانتخابات مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية، وباتت تعتبر مسألة محلية حدودها الجامعات. وبعد العام 2007، أيّ بعد الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، عاد الاهتمام بانتخابات الجامعات الفلسطينية إلى الصدارة، خاصة أن المؤسسة الرسمية قد تعطّلت وانكفأت الى برلمانين وحكومتين والخ.

أسئلةٌ للشعب.. وأسئلةٌ لأحزابه

تثير نتائج الانتخابات الأخيرة في “جامعة بيرزيت” الكثير من التساؤلات السياسية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية. وليس من النباهة حصْر هذه التساؤلات داخل حرم “بيرزيت” فقط، بل من الملائم طرحها كأسئلةٍ تنتظر إجابات من القوى السياسية الفلسطينية وقوى المجتمع المدني، بمختلف هيئاته ومؤسساته، داخل الوطن وخارجه. لا يُقارَب هذا الحدث كمرور الكرام، ولا تبعاته ستنتهي بمجرد أن يندب الخاسرون حظهم أو يحتفل المنتصرون بنصرهم.
السؤال الأبرز الذي علّقته، وهو موجّه إلى الكلّ الفلسطينيّ: أيّ مجتمعٍ نريد؟ وأيّ نظامٍ سياسيّ نريد؟ وما هي أدواتنا للخلاص من الاحتلال؟ (وهنا لا بد من التذكير بأن مختلف القوى التي تنافست في “انتخابات بيرزيت” أجمعت على المقاومة كوسيلة فضلى للخلاص من الاحتلال، حتى ولو كان ذلك لأغراض الدعاية الانتخابية)، وأيّ نظامٍ ثقافي نتمنى، آخذين بعين الاعتبار التحولات والتغيرات التي تدور حولنا؟ هذه أسئلة عامة إلى الكلّ الفلسطينيّ. أمّا الأسئلة الأكثر تحديدًا التي يجب أن تتوفّر لها إجابات فهي برسم “فتح”، و “حماس”، والتيار الإسلامي بشكل عام، واليسار الفلسطيني.
السؤال الأول موجه إلى “حركة فتح”، ويتناول مشروعها التحرّري الوطنيّ والديموقراطيّ. هل ما زالت تشكّل العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية برمّتها؟ وإذا كانت الإجابة أنها بعُدت عن كونها كذلك، فما هو السبيل إلى إعادتها إلى هذا الموقع، مع إدراكها وإدراك قادتها أن مسار التسوية كما خُطّط له قد فشل. ومن الواجب إعادة النظر في هذا المسار، خصوصًا بعد تصريحات قادة إسرائيل، وتحديدًا اليمين الإسرائيلي، قبيل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في 17 آذار/مارس 2015. فقد أعادت إنتاج الخريطة السياسية الإسرائيلية التي تستند بمختلف برامجها إلى تأبيد الاحتلال وتشريعه، ليس ذلك فحسب، بل يمكن القول إن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة شرّعت بصورةٍ قانونية وأشد وضوحاً تمثيل المستوطنين، ليس في البرلمان فحسب وإنما في الحكومة أيضاً عن طريق وزارات سيادية، وكذلك في الجيش من خلال المناصب القيادية الرفيعة. تأتي أسئلة “حركة فتح” هذه في خضمّ التحضير لمؤتمرها العام.
السؤال الثاني موجهة إلى “حركة حماس” والتيارات الإسلامية المستفيدة من هامش الحرية في الضفة الغربية. هل أنتم على استعداد للالتزام المبدئي بحماية المشروع الديموقراطي والوطني الفلسطيني، وعدم استخدام الأدوات الديموقراطية كوسيلة وليست كغاية بحدّ ذاتها؟ وإذا كان الجواب نعم، فكيف يتفق ذلك مع إعاقة انتخابات الجامعات والمؤسسات والنقابات في قطاع غزة ومنعها وتقييدها؟ وكيف يتفق ذلك مع حالة حقوق الإنسان والحريات في القطاع؟ بطبيعة الحال، فإن إدارة القطاع تمت ضمن حالة الأمر الواقع الذي فرضه الانقسام. وهي حال لا بد أن تنتهي، ويُصار إلى توجيه الأسئلة إلى الكلّ الفلسطيني كجزءٍ من نظامٍ سياسيّ واحد.
السؤال الثالث موجّه إلى اليسار الفلسطينيّ: ألم يئن الأوان بعد للتوحّد تحت عنوان الشراكة والمصلحة الواحدة؟ ألم تستفيدوا من تجربة وحدة “القائمة المشتركة” في الداخل الفلسطيني، التي هندستها الأحزاب اليسارية، “الجبهة” و “التجمّع”؟ ربما من المفيد أن تتذكروا أن الهدف الأكبر الذي وضعه الراحل أبو علي مصطفى نُصب عينيه عندما عاد إلى البلاد سنة 1999، كان وحدة اليسار الفلسطيني. وبالوحدة هنا، يُعنى اليسار تحديداً، لبناء خريطة سياسية أكثر تفاعلاً في الداخل الفلسطيني، وعدم اقتصارها على القطبين “الحمساوي” و “الفتحاوي”. ثم إن الخطوة الوحدوية في اليسار، التي أتمناها ويتمناها كثيرون، لا بد أن تأتي في إطارٍ أوسع يعني وحدة الكلّ الفلسطينيّ، وضمن برنامجٍ مشترك للخلاص من الاحتلال.
أما سؤالي الأخير فموجّه إلى قوى المجتمع المدني ومؤسساته: أين أنتم من المساهمة في خلق حوارٍ فلسطينيّ ـ فلسطينيّ، ليس حول الانقسام فحسب، بل حوار قادر أن يتعامل مع الأسئلة الكبرى المتعلقة بالكلّ الفلسطينيّ، بشتاته وداخله وداخل داخله. ألم يحنّ الوقت لورشة عملٍ كبرى هدفها حماية المشروع الديموقراطي والحريّات وحقوق الإنسان، كمقدّمة للبحث في أجندة وطنية شاملة ومتفق عليها؟

قدر المستطاع

لا هذا المقال ولا غيره يقوى على الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا أدَّعي أنني أملك لها الإجابة، ولكن يحقّ لي التساؤل، والمسّ بالأصنام السياسية والاجتماعية.
قبل سنة 1993، كانت انتخابات مجلس الطلبة في مختلف الجامعات الفلسطينية، وفي “جامعة بيرزيت” بشكل خاص، مؤشرًا جوهريًا يدلّ على حالة الشارع الفلسطيني في الداخل. وكانت القوى السياسية تركّز جهودها بصورةٍ لافتة للحصول على قطعة من هذه “الكعكة” التي كانت تظهر أحجام القوى، في ظل غياب انتخاباتٍ عامة. وكان لهذه الانتخابات صداها الكبير في الخارج كما في الداخل. أمّا اليوم، وخشية من أن تتحمل “بيرزيت” ما لا تستطيع احتماله، فلا بد من الإشارة إلى أن المنافسة السياسية الحقيقية يجب أن تكون في انتخابات المؤسسات التشريعية الفلسطينية، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني والمجلس التشريعي. ولن يكون ذلك إلاّ بإنهاء حالة الانقسام المَرَضيّة. بعدها، يجري دفع عجلة الحياة الديموقراطية الفلسطينية قدمًا إلى الأمام، وقدر المستطاع تحت الاحتلال.

غزّة.. 7 أعوامٍ تحت الحصار

صيّادون مقيّدون في بحرهم: يوميات معركة الأميال البحريّة

ــ جهاد أبو مصطفى | أيار 2015

نصّ اتفاق أوسلو المُبرم بين إسرائيل و “منظمة التحرير الفلسطينية” في العام 1993، على السماح لصيادي الأسماك في قطاع غزّة بالصيد ضمن مسافة 20 ميلاً بحريّاً، إلا أن الاحتلال لم يلتزم أبداً بالاتفاق. فبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية في العام 2000، قلّصت إسرائيل مسافة الصيد إلى 12 ميلاً، وتوالى بعدها تقليص المسافة تدريجيّاً إلى ثمانية، فستّة، وصولاً إلى ثلاثة أميال فقط مع سيطرة “حركة حماس” على القطاع في العام 2007.
بعد الحرب الإسرائيليّة الثانية على غزّة في أواخر العام 2012، أشار اتفاق التهدئة المُبرم آنذاك إلى توسيع مساحة الصيد إلى ستّة أميال بدلاً من ثلاثة. التزمت السلطات الإسرائيليّة بالاتفاق أسابيع قليلة، ثم عادت وقلّصت المسافة مرّة أخرى. يتكرر ذلك الآن، بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على القطاع، صيف العام الماضي.
في السادس والعشرين من أغسطس/آب الماضي، توصّل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي إلى تفاهمات وضعت حدّاً للحرب الإسرائيلية التي استمرت خمسين يوماً وليلة. قضى الاتفاق حينها بتوسيع المساحة المسموح للصيّادين الفلسطينيين في قطاع غزّة الصيد فيها من ثلاثة أميال بحريّة إلى ستّة، على أن تزيد تلك المسافة تدريجياً لتصل في النهاية إلى 12 ميلاً.
إلا أن معاناة الصيّاد الفلسطيني بقيت كما هي، بل وتراها تتفاقم يوماً تلو الآخر، وغالباً ما يُلاحق الصيّادون ضمن مسافة ثلاثة أميال بحريّة، وأحياناً أقل، بينما تدّعي الماكينة الإعلاميّة الإسرائيليّة أن دولة الاحتلال تسمح للصيّادين في غزّة بممارسة مهنتهم ضمن النطاق المُتفق عليه، أيّ مسافة ستّة أميال بحريّة في عرض بحر غزّة.

في الميناء، ساعات الفجر الأولى

في صلب معركة الأميال البحريّة هذه، يُصرّ زهاء أربعة آلاف صيّاد فلسطيني في قطاع غزّة على ممارسة مهنتهم في ظل خطورة كبيرة جداً تتربّص لهم في عرض البحر بشكل يومي، وقد تودي بحياتهم. إذ لا سبيل أمامهم سوى ممارسة عملهم، على الرغم من كلّ التحدّيات التي يواجهونها، خاصة أنهم لا يمارسون أيّ أعمالٍ أخرى تسدّ رمق عائلاتهم.
غالباً، يكون البحر هادئاً في ساعات الفجر الأولى، وكذلك هي الحال هنا في ميناء الصيّادين الواقعة غرب مدينة غزّة. الصيّادون لم يعودوا بعد من رحلتهم الليليّة. ومع انسدال خيوط الشمس الذهبيّة، بدأت ملامح مراكب الصيد تلوح في الأفق، مُنذرةً بعودتها إلى الميناء. العودة هنا أشبه بالسباق، فأسرع المراكب في الوصول يحظى بموقعٍ أفضل في سوق السمك المُحاذي لميناء غزّة.
مع اقتراب المراكب من الميناء، محمّلةً بخفايا مُغامرات خاضها الصيّادون مع البحريّة الإسرائيلية كما في كلّ ليلة، يتهافت التجّار لشراء الأسماك من الصيّادين بالجملة، من رصيف الميناء. وعلى الرغم من علمهم بأن الصيد ليس وفيراً نتيجة المُنغّصات الإسرائيليّة، إلا أن “حسبة السمك” تظلّ مُتعطشة للأسماك الطازجة.
صيّادٌ يبدو في العقد الخامس من عمره، أحرقت الشمس بشرته، يعمل هنا برفقة فتى لم يتجاوز السادسة عشر من عمره على نقل ثلاثة صناديق تحتوي على أسماك “السردين” من قاربه المُتهالك إلى رصيف الميناء. بعد رحلة صيد شاقة، سمعناه يُتمتم مُحدّثاً فتاه: “يمكن أن نبيعها بـ100 أو 120 شيكلاً ـ يقصد أسماك السردين ـ ربنا يسهّل”. ثنايا جبهة الصيّاد المُكنّى “أبو رامز”، كانت كفيلة بأن تروي عن رحلة عمله التي امتدت منذ الثانية عشر من منتصف الليل حتى السادسة صباحاً، وأتت مُخيّبة للآمال. إذ بالكاد تملأ أسماك السردين الصغيرة التي اصطادها دلوين متوسطي الحجم، تاركةً الرجل في حيرة من أمره: هل سيفي بيع السمك لسدّ ثمن وقود المركب، أم لا؟ بأيّ حال، “المربح أو الخسارة لن يُشكّلا فارقاً كبيراً، اعتدنا أن نخسر أكثر”، يقول لـ “السفير” بعدما أرسل ابنه ليبحث عن أفضل سعر لأسماكه.
بدا أبو رامز مُتعباً جداً، ليس من إرهاق العمل فحسب، بل مما آلت إليه مهنة الصيد في قطاع غزّة. يتكئ الرجل على كومة من شباك الصيد المُتهالكة في غرفة مُخصصة للصيّادين كان الاحتلال قد استهدفها خلال الحرب الأخيرة، ويشعل سيجارته قائلاً: “هناك جملة كان الصيادون يتداولونها في السابق، تفيد بأنه لا يجب على الصيّاد أن يحزن في اليوم الذي لا يُرزق فيه بصيدٍ وفير، سيأتيه اليوم الذي يكون فيه صيده أفضل. لكن اليوم اندثرت هذه الجملة، ولم نعد نقولها. حالنا كما هي، ولا مستقبل لهذه المهنة المتعثرة في غزة”.
بطبيعة الحال، لم يسلم ميناء غزّة خلال الحرب من دائرة الاستهداف الإسرائيلية. أمطرت الزوارق الحربيّة المتمركزة في عرض البحر عشرات القذائف على سفن الصيّادين ومراكبهم التي كانت ترسو في المرفأ، ودمّرت عدداً منها بشكل كلّي وجزئي، بالإضافة إلى استهداف غرف الصيادين ومخازنهم في المكان نفسه. فيها، يُخزّن فيها الصيادون أدوات صيدهم ومستلزماتهم الخاصة، ما أدّى إلى تدميرها واشتعال النار فيها، وتكبيد الصيادين خسارة مالية فادحة.
يذكر الصيّاد إحدى رحلات الصيد التي يقول إنه لن ينساها أبداً، حين اعترضت البحريّة الإسرائيليّة طريق مجموعة من الصيّادين كانوا يُمارسون مهنتهم في عرض البحر، قُرابة الثالثة فجراً، وكان هو واحداً منهم. بعدما أطلقت الطرّادات الحربيّة النار تجاه مولّدات المراكب وخرّبتها، أجبرت الصيادين على نزع كافة ملابسهم، والسباحة من مراكبهم صوب بارجة إسرائيليّة على بعد 200 متر منهم، في أجواء باردة جداً. تم اعتقالهم وجرى التحقيق معهم حول عناصر “حماس” الذين يتدربون في البحر (“الضفادع البشريّة”)، قبل أن يتم إعادة إطلاق سراح الصيّادين في اليوم التالي.

الأسماك الصغيرة التي تصل الشاطئ الحزين

اعتاد الصيادون المعتقلون على الخضوع لتحقيقاتٍ وحشية، مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين، محتجزين لأيام. يُطلق سراحهم بعد إجبارهم على دفع غرامة، ويتم التحفظ على القوارب ومحرّكاتها لأشهر. تعاد القوارب بعد دفع غرامة قدرها 1000 شيكل، غير أنه لا يُسمح لهم برفع قضايا قانونية لاسترجاع حقوقهم أو حتى مناقشتها قانونياً.
يصف أبو رامز الذي أمضى قُرابة ثلاثين عاماً في البحر مهنة الصيد في قطاع غزّة بـ “مُخاطرة من أجل لقمة العيش”. ويشرح أن الصيّاد الفلسطيني إمّا أن يتعرّض لإطلاق النار، أو الاعتقال، أو مُصادرة المركب وأدوات الصيد، أو القتل المباشر على أيدي الجنود الإسرائيليين الذين يُضيّقون الخناق على الصيّادين يوماً بعد الآخر، ولا يسمحون لهم بالصيد ضمن المسافة المُتفق عليها مؤخراً في اتفاق التهدئة.
وبحسب إحصائيات سابقة، فمنذ العام 2000، استشهد زهاء 12 صياداً فلسطينياً في أثناء ممارسة عملهم نتيجة إطلاق النار عليهم من قبل الزوارق الإسرائيليّة، فيما تعتقل البحريّة الإسرائيلية مئات الصيّادين بين الحين والآخر، فضلاً عن إلحاق الضرر بعشرات المراكب وأدوات الصيادين.
ومع ذلك، فإن أكثر ما يمتعض منه الصيّادون في غزّة هو عدم السماح لهم بالصيد ضمن نطاق المسافة المنصوص عليها في الاتفاقيّات الأخيرة. ويقولون في أحاديث منفصلة لـ “السفير” إن الزوارق الإسرائيليّة نادراً ما تسمح لهم بالصيد في مسافة ستّة أميال بحريّة. وفي أغلب الأوقات، تتم مطاردتهم عن عمق ثلاثة أميال أو أقل حتى، تبعاً لمزاج الجندي الإسرائيلي.. حتّى أن أصوات الرصاص والمدفعيّة التي تُطلقها الزوارق الإسرائيلية صوب الصيادين تُسمع من داخل قطاع غزّة بوضوح.
أدّى هذا المنع الإسرائيلي إلى انحسار أنواع الأسماك التي يصطادها الغزّيون بمراكبهم الصغيرة، والتي تعرّض أغلبها لإطلاق نار. إذ لا مجال لوصول الأسماك الكبيرة في مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، وكلّ ما يعلق بشباك الصيّادين راهناً هو بعض أنواع أسماك السردين، السلاطعين، الحبار، وأسماك أخرى صغيرة تصل الشاطئ الحزين.
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الصيّادون أن الاحتلال الإسرائيلي بعد الحرب الأخيرة نصب شباك ومصائد ضخمة قبالة شواطئ قطاع غزّة لمنع عمليّات تسلل مقاومين من القطاع صوب البلدات الفلسطينيّة المحتلّة، والمُحاذية لساحل قطاع غزّة الشمالي. يجدر التذكير هنا بأن المقاومين خلال الحرب الأخيرة نفذوا عمليّة قاعدة “زكيم” البطوليّة عبر التسلل بحراً من القطاع. ويظن الصيّادون أن هذه القواطع تمنع وصول الأسماك إلى شواطئ القطاع.

400 دولار شهرياً..

يؤكد نقيب الصيّادين في قطاع غزة نزار عيّاش لـ “السفير”، أن قطاع الصيد في غزّة كان يوفّر 4000 طنّ سنوياً قبل الحصار الإسرائيلي الذي بدأ في حزيران العام 2007: “وهذه الكمية كانت تكفي السوق المحلي، ويتم تصدير جزء منها. لكن، الكمية انخفضت بعد الحصار إلى 1500 طن سنوياً، أغلبها من الأسماك الصغيرة؛ وذلك بسبب صغر المسافة المسموح الصيد بها، والتي تُقدر بـ6 أميال بحرية وما دون”. ويشير عيّاش إلى أن قرابة 4000 صياد يمتهنون مهنة الصيد في غزة على 1000 مركب، تختلف بالأحجام والأنواع.
ويعتمد الصيّادون في غزّة على مراكب صغيرة الحجم في الصيد، ولا يتمكّنون من الإبحار بسفن كبيرة لأن ميناء غزّة غير مُؤهل لاستيعاب هذه السفن. وتمنع إسرائيل حتّى اللحظة أيّ تطوير أو تأهيل للميناء، ما تُفاوض عليه القيادة الفلسطينية في اتفاق التهدئة الذي لم يُستكمل بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع صيف العام الماضي.
أسعار الأسماك في القطاع شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بعد الحرب، إذ بلغ سعر كيلو سمك السردين والبوري مثلاً 25 شيكلاً، أيّ ما يُعادل 6.5 دولار تقريباً، علماً أن الكيلو كان يُباع قبل الحرب بسعر يتراوح ما بين 18 و22 شيكلاً فقط. وهما من أنواع الأسماك التي يتم اصطيادها بكثافة في شواطئ غزّة، ويعزو الصيّادون ارتفاع أسعار الأسماك لسببين، الأول: ندرتها وقلّة الناتج العام بالمجمل من الصيد، والثاني: إغلاق الأنفاق الحدوديّة بين القطاع ومصر، إذ كان بعض التجّار يعملون على استيراد بعض أنواع الأسماك من مصر، ما يخفّض أثمانها في القطاع.
لا تُحقق مهنة الصيد أرباحاً كبيرة للصيّادين، بالكاد تُغطّي تكاليف مهنتهم من وقود ومحروقات يتم استخدامها خلال الصيد. مجموع ربح الصيّاد الفلسطيني شهريّاً لا يتعدّى 1500 شيكل، ما يُعادل 400 دولار أميركي فقط.
على أيّ حال.. سواء كانت مسافة الصيد المسموح بها للصيّادين في غزّة ستّة أو ثلاثة أميال، أو حتّى أقل كما هو الوضع الراهن، فإن القطاع ينهار يوماً تلو الآخر. فممارسة مهنة الصيد بمحاذاة الشاطئ هي أمر بائس، ناهيك عن الخطورة التي يشكلها نظام المجاري في غزّة الذي تم تأسيسه ليخدم 400,000 مواطن. تصبّ هذه المجاري في البحر.
بحسب بعض الإحصائيّات، فإن نسبة الصيد في السنة الماضية تعادل نصف ما كان يصطاده الصيّادون قبل 10 سنوات. وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة، فإن الصيادين هم أفقر فئة في مجتمع غزة، حيث تعتمد نسبة 95 في المئة منهم على الإعانات. وتقول إرشادات مؤسسة “أوكسفام” إنه يتوجب على إسرائيل أن تسمح للصيادين الغزيين بالصيد ضمن مساحة العشرين ميلاً المتاحة لهم، والتوقف عن استخدام القوة المفرطة ضدهم.

آخر صانع سفن في غزّة

على الرغم من تدهور الصيد والملاحة البحرية في قطاع غزّة، وعطل عشرات السفن الكبيرة واصطفافها بالقرب من الميناء البحري والعجز عن إعادة تأهيلها، إلا أن حرفة صناعة السفن تُصرّ على البقاء ولو برمق أخير في هذا القطاع الساحلي الصغير. فأغلب صانعي السفن بغزة امتهنوا مهناً جديداً لقلة الإقبال عليهم، وبات الانقراض يُهدد هذه الحرفة النادرة.
الحرفي عبد الله النجار يُعتبر آخر صانع سفن في غزة. يمضي في صناعة السفن وتجهيزها من دون كللٍ أو ملل، ويساعده في هذا العمل الشاق ستة من أبنائه الذين يمتهنون الصيد أيضاً. لقد استطاع تعليمهم شيئاً من فنون صناعة السفن والقوارب الصغيرة.
التقت “السفير” النجار في محل عمله، جنوب قطاع غزّة بالقرب من شاطئ البحر. وبدا سعيداً وهو يعمل على تجهيز قاربٍ متوسط الحجم. ورغم مشقة العمل تحت أشعة الشمس الحارقة، إلا أنه يشعر براحة ومتعة كبيرة في عمله.
وعن بداية امتهانه لهذه الحرفة، يقول الرجل الذي جاوز منتصف الخمسينيات من العمر: “حين كنت في الـ15 من عمري، اضطررت للعمل كي أساعد أسرتي. فعملت في البداية مع الصيادين، ومن ثم انتقلت للعمل مع عمي في صناعة السفن والقوارب البحرية. بعدها، تركت هذه الحرفة وافتتحت منجرة لصناعة غرف النوم والأبواب الخشبية. لكن مع تزاحم العمل في النجارة وصناعة غرف النوم، عدت مرة أخرى إلى حرفتي التي أحبها، صناعة السفن”.
ويعمل النجار حالياً على تجهيز قارب جديد يبلغ طوله حوالي 18 متراً، وعرضه خمسة أمتار، وبارتفاع يزيد عن مترين. وقد صنعه من أخشاب شجر “الكينيا” المنتشر بكثرة في أراضي قطاع غزة، ليعمل عليه أبناؤه الستة في صيد الأسماك وإعالة أسرهم.

يا أغاني البحر: الريّس يقول، والصيّادون يردّون

للصياد الفلسطيني نصيب من الموروث الثقافي للأغنية الشعبيّة، فقد شكلت الأغنية بالنسبة إليه رفيقةً في مهنته. لكل مرحلة من مراحل العمل فقرة موسيقية مميزة يرددها الصيادون. وفي أغلب الأحيان، تكون الأغاني عبارة عن مقطوعات يبدأ بها ريّس العمل، ويرد الصيادون عليها بمقطع آخر، محدثين تناغماً موسيقياً منقطع النظير.
ولكي نتعرف على أغاني الصيادين الفلسطينيين، كان لا بد من زيارة أكبر الصيادين سناً، حافظ هذا الموروث الفني. لما زرناه في الميناء، كان الصياد أبو أيمن العامودي (58 عاماً) يهمّ بإعادة ترتيب شباك صيده بعد ساعات قضاها في بحر غزّة. ويُعرف أبو أيمن بين الصيادين بأنه الشخص الأكثر مرحاً وترديداً للأغاني الشعبية القديمة في أثناء الصيد مع زملاء مهنته. فطلبنا منه أن يحدثنا عن هذه الأغاني التي لا يفهمها – غالباً - سوى الصيادين.
يقول أبو أيمن لـ “السفير” إن أولى تلك الأغاني يتم ترديدها في أثناء دفع الصيادين للقارب من اليابسة نحو المياه، بشكل إيقاعي منتظم. وفيها، يقول: “هيه يالله يا ستر الله”، فيردّ الصيادون: “هيه يالله، يا عناية الله”. ثم يقول: “هيه يالله يا كرم الله”، ويردّ الصيادون: “هيه يالله، يا رسول الله.. هيه يالله، تعين يا رب”.
حين يصل القارب إلى المياه، يفرح الصيادون ويشحذون الهمم لبدء رحلة الصيد. فيقول الريّس: “صلّي على النبي صلّي”، فيرد الصيادون: “هيلا هيلا هيلا”، ثم يقول: “يا رب هوّن هلا هيلي”، فيقول الصيادون “هوّن علينا هلا هيلي”. ثم يبتهل الريّس ويقول: “بجاه محمد هلا هيلي”، فيؤكد الصيادون: “محمد نبينا هلا هيلي”.
ويُكمل الريّس أبو أيمن حديثه لـ “السفير” بلهجةٍ ممتعة تُجبر الحاضرين على الإصغاء، فيقول: “بعدما نصل بالقارب إلى المياه، ونبدأ الإبحار في عرض البحر، هناك أغنية نرددها للتخفيف عن الصيادين”. فيبدأ الريس ويقول: “كل ما يشدو المحامل”، فيردد باقي الصيادين: “للنبي قلبي يهيم”. ثم يقول الريس: “لأسعى وأزور النبي”، فيجيبه الصيادون: “وأرمي حمولي عليه”.
وتزداد الردّات شيئاً فشيئاً مع زيادة ضربات المجداف داخل المياه للوصول إلى المنطقة المطلوبة. ويبدأ هنا الصيادون بتسلية أنفسهم ببعض الأغاني الفكاهية، فيقول صياد: “والله وان طال زماني، لأشكي لقاضي الغرام”. فتردّ بقية الصادين: “لأشكي لقاضي الغرام”. يكمل الصياد: “يا قاضي حب البنات حلال ولا حرام؟”. فيتساءل معه الصيادون: “حلال ولا حرام؟”. يقول الصياد الأول: “حرام للمتجوز أما العزابي حلال”، فيردد الصيادون: “وإن كان حرام يا قاضي اكتب لي بالحلال”.
وفي أغنية أخرى، يبدأ أحد الصياديين بالقول: “ويا بنت قولي لأبوكي، خليه يعطيكي إلي”. فيردد الصيادون: “خليه يعطيكي إلي”. يكمل الصياد: “وإن ما رضيش أبوكي، أمك بتعطيني”. فيؤكد الصيادون: “أمك بتعطيني”. يعود الصياد ويقول ساخراً: “وإن ما رضيتش أمك، إبكي ونوحي”. فيضحك الصيادون ويهتفون بصوت عالي: “إبكي ونوحي”.
وفي أثناء عملية الصيد، يُردّد الصيادون أغنية شهيرة عن الحال لمّا لا يحالفهم الحظ بصيد وافر، فيقولون: “صلّي على النبي صلّي، إن عجبك صلّي، وان ما عجبك صلّي، على النبي العربي صلّي.. صلّي صلّي صلّي”.
وفي حال كان البحر هائجاً وخطيراً، يقول الصيادون: “ما قلتلك يا هاني هلا هي.. لا تنزل القيعاني هلا هي.. لا تنزل إلا غزّة هلا هي.. وسوقها التحتاني هلا هي”. وفي الوقت ذاته، يؤكد الصيّاد على قوة عزيمته وصبره، فيقول: “وان هبّت الريح قلت لمركبي سيري، وأنا أصبر صبر الخشب تحت المناشيري، ناديت يا طير يا طير بحق السما العالي، تلمّ شملي وتجمعني على الغالي”.
وحين يسحب الصيادون الشباك من المياه، يستبشرون بالرزق ويغنون: “يا ربنا هلا هي، ابعث لنا هلا هي.. رزق الهنا هلا هي”.
وإذا كان الرزق وفيراً، ترتسم الفرحة على شفاه الصيادين شاكرين الرزّاق الكريم، وتراهم يرددون في رحلة العودة إلى الشاطئ: “صبح الصباح هلا هيلي، واصطحبنا هلا هيلي، في نور محمد هلا هيلي، والله ربحنا هلا هيلي، والله صدنا والله صدنا، وربك والله حقق مقاصدنا، صدنا والله سمك كتير، وربك والله ربّ كبير”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2178492

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178492 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40