الجمعة 29 أيار (مايو) 2015

المقاومة روح بيروت وخيارها وقدره

الجمعة 29 أيار (مايو) 2015 par معن بشور

يتميز لقاؤنا اليوم في عيد المقاومة والتحرير في هذا المركز العامر بالأنشطة الثقافية والاجتماعية والتربوية، مركز توفيق طبارة وفي محلة الظريف قلب بيروت، وبدعوة من فعاليات العاصمة وهيئاتها، معنى خاصاً لأنه يؤكد على دور بيروت كمنطلق لهذه المقاومة الوطنية والإسلامية منذ الغزو الصهيوني عام 1982، وكحاضنة لروح المقاومة على مستوى الأمة كلها. ومن ينسى وقفة ابن بيروت الرئيس الدكتور سليم الحص رئيس الوزراء يوم التحرير تجسيداً لالتزام هذه المدينة وهذا الوطن بروح المقاومة.
ألم تنطلق من بيروت أول نداءات المقاومة الفلسطينية منذ نكبة عام 1948، ثم ألم تحتضن بيروت على مدى سنوات ثورة فلسطين فقدمت الشهيد اللبناني الأول في هذه الثورة الشهيد خليل عز الدين الجمل. بل قدمت العديد من أبنائها شهداء شركاء مع كل شهداء الثورة الفلسطينية.
ثم ألم تخرج من بيروت أول حركات التضامن مع مقاومة مصر الغالية على كل عربي يوم العدوان الثلاثي، البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي عام 1956 والذي استهدف إخضاع ارض الكنانة وإسقاط جمال عبد الناصر، فكان ذلك النداء الشهير الذي أطلقه الزعيم الماروني الراحل حميد فرنجية رئيس مؤتمر التضامن الافرو أسيوي، إلى إضراب تضامناً مع مصر ومع جمال عبد الناصر إثر تأميم قناة السويس فاستجاب الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه لذلك النداء حتى قالت “اللوموند” الفرنسية يومها: ” إذا أردت أن تعرف حدود القومية العربية فما عليك إلا أن تنظر إلى الشعوب التي تجاوبت مع نداء الزعيم الماروني اللبناني حميد فرنجية لإضراب عام تضامن مع مصر، جمال عبد الناصر”.
ثم ألم يستقل أبان العدوان آنذاك الراحل الدكتور عبد الله اليافي من رئاسة الحكومة، ومعه الراحل الأستاذ صائب سلام من الحكومة، احتجاجاً على رفض رئيس الجمهورية آنذاك قطع العلاقات مع دولتي العدوان الاستعماري منحازاً إلى محور بغداد – عمّان الذي كان جزءاً من حلف بغداد، وكما هو معلوم فان اليافي وسلام هما من زعماء بيروت ونوابها لعقود طويلة وكانا في موقفهما يتجاوبان مع الموقف الشعبي الصارخ لأبناء مدينتهما وبلدهما وأمتهما.
ثم ألم تنطلق أول التظاهرات المناهضة لحلف بغداد من بيروت وتقدم الشهداء والجرحى ومنهم الشهيد الطالب حسان اسماعيل عام 1954، مُؤسسة بذلك لحركة إسقاط حلف بغداد التي توجتها ثورة 14 تموز في العراق.
ثم ألم تمتلأ شوارع بيروت بالتظاهرات المساندة للثورة الجزائرية منذ انطلاقتها في 1/11/1954، وهي الثورة التي كانت احد ابرز حركات المقاومة والتحرر في العالم كله، ثم ألم تتبرع نساء بيروت، كنساء طرابلس وصيدا والنبطية وصور وبعلبك والبقاع الغربي وراشيا والشوف ، ومعهم الرجال بأغلى ما يملكون لدعم تلك المقاومة .
ثم ألم تكن رصاصات المقاومة الأولى عام 1982 هي الرصاصات التي انطلقت من أحياء بيروت وأزقتها، والشهداء الأوائل للمقاومة هم من أبنائها العابرين للطوائف والمذاهب قبل أن نقع في مستنقع العصبيات الذميمة السائدة اليوم.
وعشية الحرب الظالمة على العراق واحتلاله، وما زالت تداعياتهما حاضرة حتى الساعة تمعن في العراق العظيم تمزيقاً وتوحشاً ودماراً ودماءً وغلوا طائفياً ومذهبياً، ألم تخرج بيروت ومعها كل لبنان منتصرة للعراق وشعبه ومقاومته في إدراك مبكر لمخاطر تلك الحرب وذاك الاحتلال، ولخطيئة التساهل معه والتعامل مع إفرازاته، تلك المخاطر لم تكن تهدد مستقبل العراق نفسه بل مستقبل الأمة والإقليم أيضاً.
بل في كل لحظة من لحظات المقاومة العربية للصهيونية والاستعمار من عدن إلى طنجة، ومن الخليج إلى المحيط، كانت بيروت بشارعها ومنابرها وشخصياتها وأبنائها حاضرة، حتى أحس كثيرون إن ما تعرضت له هذه المدينة، بأبنائها وسكانها، بأحيائها وعمرانها، على مدى أكثر من أربعين عاماً، كان نوعاً من الانتقام من تاريخ هذه العاصمة ودورها المشهود في مقاومة المشاريع والأحلاف الاستعمارية.
فالعلاقة إذن بين بيروت والمقاومة لم تكن يوماً علاقة عابرة أو ظرفية، بل كانت متجذرة في وجدان المدينة وخياراتها وقدرها، بل كانت علاقة تفاعلية لا تبخل فيها بيروت بدماء أبنائها ونضالهم من اجل المقاومة، كما لا تبخل أيضاً بملاحظاتها واعتراضاتها على تجاوز من هنا أو إساءة من هناك، فهي كما قلنا يوماً للمقاومة الفلسطينية أبان تواجدها في لبنان: “نحن مع الثورة الفلسطينية في وجه أعدائها وأخطائها”، وكان الرئيس الشهيد ياسر عرفات أول المبتهجين بذاك الشعار وداعياً إلى تعميمه مستعيناً بألسنة الخلق على تجاوزات المحسوبين على الثورة”.
وبهذا المعنى فلقاؤنا اليوم تعبير عن استمرار هذه العلاقة، وعن روح هذه المدينة التي شكلت مع توأمها دمشق أحد ابرز عواصم النهوض والتحرر والصمود في امتنا.
* * *
ليست المقاومة خيار الأمة فحسب بل هي قدرها الذي واجهت به كل ما مر عليها من غزوات واحتلالات وهيمنة استعمارية، بل يمكننا القول إن امتنا امة مقاومة على مدى الزمان والمكان….
فمنذ أن وطأت أرضنا العربية أقدام الغزاة الفرنجة قبل ألف عام ونيّف، والأمة تقاوم حتى تمكنت من طردهم. وفي عصرنا ومنذ أن غزا الفرنسيون في نهايات القرن الثامن عشر ارض مصر وامتنا تقاوم بالسلاح وبالإيمان وبالثقافة، بل كان الوطن العربي بكل أقطاره ساحة تنتقل فيها المقاومة من بلد إلى بلد ويحمل راياتها شعب إثر شعب، ليدرك العدو، بكل عناوينه انه أمام امة لا يقهرها إلا إذا جردها من أفعل أسلحتها وهو المقاومة، كما من أمنع مخزون تملكه وهو ثقافة المقاومة النابعة من تراثنا الروحي والإيماني العميق، ومن هويتها القومية، ومن تفاعلها مع تجارب المقاومة على امتداد العالم.
وعلى امتداد عمر المقاومة في امتنا، كان هناك دائماً متخاذلون ومتواطئون يعترضون على المقاومة ونهجها وسلاحها، ألم نرَ كيف تعاملوا مع ثورة الجزائر لحظة انطلاقها ، ومع ثورة فلسطين عند رصاصاتها الأولى، ومع المقاومة العراقية المظلومة يوم شيطنوها واجتمعوا عليها، واليوم يفعلون الشيء نفسه مع المقاومة اللبنانية فيتهمونها بالمذهبية كما فعلوا مع المقاومة العراقية بعد الاحتلال، ويتهمونها بخدمة أجندات خارجية كما اتهموا المقاومة العراقية.
ولكن انتصار المقاومة في لبنان في مثل هذه الأيام قبل 15 سنة، وانتصارها على العدوان في حرب تموز 2006، تميّز بأنه جاء معاكساً لتيار سائد في المنطقة والعالم، يوم ظن أرباب الاستعمار ومعهم الصهاينة إن التاريخ قد انتهى بانتصارهم، كما كتب احد منظريهم الكبار فوكوياما، ويوم ظن البعض في وطننا العربي انه قادر على أن يستفيد من انتصار أعداء الأمة والعالم ليترجمه انتصاراً لمنطق الاستسلام والخنوع في منطقتنا وليستفيد منه في تعزيز مكاسبه الآنية والظرفية.
وأذكر في هذا المجال لقاءً ضمني مع عدد من القيادات الوطنية في حزيران 1992 مع وزير الخارجية الإيراني آنذاك الدكتور علي اكبر ولايتي، وكانت وسائل الإعلام تتداول معلومات إن لزيارة ولايتي علاقة بتحويل حزب الله من حزب مقاوم إلى حزب سياسي، في ضوء المتغيرات الضخمة في المنطقة والعالم إثر عملية عاصفة الصحراء التي ضربت العراق ودمرته عام 1991، وإثر مؤتمر مدريد الذي ظن كثيرون انه فتح آفاق التسوية السياسية للصراع العربي – الصهيوني، وإثر انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز واشنطن كقطبية أحادية في العالم، ومع بلوغ الانقسام العربي، الرسمي والشعبي ذروته في الموقف من الحرب الأمريكية على العراق عام 1990.
في ذلك اللقاء قلت للوزير الإيراني: البعض يحاول أن يصور لكم إن المقاومة في لبنان هي من بقايا مرحلة انقضت، (ولم يكن مرّ على استشهاد أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي، سوى أشهر ثلاثة ونيّف). وأنا أقول لكم إن هذه المقاومة طلائع مرحلة آتية معاكسة لما يبدو على السطح من تراجعات.
لم تكن رؤيتنا آنذاك، سواء مع اخواني في تجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان، أو في المؤتمر القومي العربي، يومها ولم يكن قد مضى على تأسيسه سوى عامين، وسط زلازل كانت تهز الأمة والمنطقة بأسرها في تلك الأيام، نتيجة نبوءة أو قراءة في فنجان، بل كانت وليدة قانون قام عليه تاريخ الأمة، بكل تياراتها القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية والوطنية، وهو انه حيث يوجد احتلال توجد مقاومة، وحيث توجد مقاومة سيأتي التحرير.
لم تكذب السنوات التالية تلك الرؤية التي ما خرج عنها إلا قصيري النظر أو ضعاف النفوس من أبناء الأمة، كما لم تكذب المقاومة العراقية الباسلة تلك الرؤية، ولم يكذبها ابدا قرن كامل من المقاومة الفلسطينية حين ظن كثيرون، وفي مراحل متعددة، انها انتهت، وإذ بها تولد من جديد، وبقوة أكبر، وبسالة أوسع….
كما لم تكن تلك الرؤية بغافلة عن الأخطار التي تحيط بمسار المقاومة ومصيرها، ولا عن أخطاء وخطايا تقع بها وهي في عز الاشتباك دفاعاً عن وجودها، لكن أصحاب تلك الرؤية يتصرفون بهدي مقولة بسيطة، وهي اننا جزء من هذه المقاومة، وجزء من معسكرها الممتد، ولكننا أيضاً جزء له رأيه وله ملاحظاته التي يعتقد انها احيانا تكون أفضل ما يمكن ان يقدمه لمن يقود هذه التجربة التاريخية العظيمة على قاعدة صديقك من صدقك.
كما لم يكن اصحاب هذه الرؤية القومية المبدئية الواضحة مقصرين في التأكيد على انحيازهم للمقاومة، حيثما وجدت، وأيّاً كان حاملو راياتها، وكلما اشتد الحصار عليها، فرفضوا دوما ازدواجية المعايير في التعامل مع المقاومة فيؤيدونها في مكان ويعارضوها في مكان، مثلما رفضوا دائماً الانسحاب من تأييدها تحت هذه الذريعة أو تلك، وبسبب ضغط أو اغراء أو اتهام أو وعيد….
ويعلم كل من تابع تجربتنا الوطنية والقومية على مدى العقود الماضية اننا بقينا على التزامنا بالمقاومة العربية اينما وجدت، واننا كنا نُبقي أي ملاحظة أو اعتراض تحت سقف الالتزام بالمقاومة، فأخطاء بعض العروبيين واستبداد انظمتهم لا تخرجنا من العروبة، وغلو بعض الاسلاميين وحتى توحشهم لا يبعدنا عن الاسلام كروح لهذه العروبة، وتخبط بعض اليساريين لا يجعلنا في خانة العداء لليسار، كما ان استغلال اعداء الأمة لشعار الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان لا يدفعنا إلى التنكر للحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان.
ويعلم كل من تابع تجربتنا أيضاً ان أكثر الاخطار التي كنا نحذر منها، هو نجاح اعداء المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان في استدراجها إلى أتون الحروب الاهلية لأنها اكثر فعلاً وأمضى سلاحاً في ضرب هذه المقاومة أو في حرفها عن اهدافها. لذلك كنا نتمسك دائماً بشعار” المقاومة توحدنا والوحدة، وطنية أو قومية، تحررنا”، وانه كلما اجتمعنا حول المقاومة اقتربنا من الانتصار على اعدائنا، وكلما انقسمنا حولها تمكن اعداؤنا منا….
من هنا رفعنا بعد احتلال العراق، في المؤتمر القومي العربي المنعقد في صنعاء عام 2003، شعار الرباعية الذهبية: المقاومة، المراجعة، المصالحة، المشاركة، وهي رباعية ما زالت صالحة حتى اليوم لعمق العلاقة بين اعمدتها الاربع، بل ان هذه الرباعية هي التي تجد ترجمتها اليوم في لبنان، كما في الوطن العربي كله، بمعادلة الشعب والجيش والمقاومة والطريق اليها شعب متحد، وجيش وطني، ومقاومة باسلة عابرة للعصبيات والحدود.
حين تكون المقاومة خيار الأمة وقدرها في آن، فان الوحدة الوطنية والوحدة العربية هما خيار المقاومة وقدرها، والمقاومة والوحدة هما جوادا العربة التي تقود الأمة إلى النصر، مع التأكيد دوماً ان التذرع بالوحدة لا يجوز ان يكون سبباً لتراجعنا عن خيار المقاومة، كما ان الانتصارات في المقاومة يجب ان لا تكون سببا لاضعاف سعينا نحو الوحدة.
قد تبدو هذه الخيارات صعبة، ولكن ألم تعلمنا المقاومة على امتداد الزمان والمكان انها صانعة المستحيل

- مداخلة ألقيت في ندوة عيد المقاومة والتحرير في مركز توفيق طبارة في 26/5/2015 بدعوة من الفعاليات والهيئات البيروتية وشارك فيها أيضاً المحامي احمد مرعي نائب رئيس حزب الاتحاد وأدارها جميل ضاهر منسق تيار المقاومة اللبناني.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165328

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2165328 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010