الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010

لماذا يخافون من مقابرنا؟

الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010 par د. بثينة شعبان

بعد هدم جميع منازل قرية العراقيب الفلسطينية ومحوها من الوجود ارتكبت حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» جريمة تجريف مقبرة القرية لإلغاء الذاكرة والتاريخ لهذه القرية الفلسطينية كما محوا مئات القرى الفلسطينية من الوجود في الماضي. وبعد ذلك بأيام قامت قوات الاحتلال بإزالة 150 مدفناً في مقبرة «مأمن الله» التاريخية في القدس والتي تعد من أعرق وأكبر المقابر الإسلامية في القدس. وكانت هذه المقبرة تضم قبل الاحتلال رفات الآلاف من الصحابة والتابعين والعلماء والقادة والشهداء، وكانت مساحتها تبلغ 200 دونم ولكن لم يتبق منها سوى 20 دونماً بسبب الاعتداءات «الإسرائيلية» عليها. وفي الوقت ذاته أحرق المستوطنون مئات الدونمات الزراعية الفلسطينية في الضفة، كما يستمرون في هدم المنازل وتهجير السكان الأصليين، خاصة بعد أن أصدروا قانوناً بمصادرة أملاك الفلسطينيين «الغائبين» الذين هجّرهم الاحتلال من ديارهم ولا يزال يحرمهم من حق العودة، ثم يصادر الآن ديارهم وأملاكهم وأرزاقهم بحجة غيابهم.

هذه الاعتداءات السافرة على رفات الأموات بعد اليأس من كسر إرادة الأحياء تؤشر إلى إفلاس يقض مضاجع «الإسرائيليين» اليوم والذين يحاولون عبره محو ذاكرة القرى والمدن الفلسطينية حتى بعد أن هجروا السكان الأصليين لأنهم يخشون أن يستيقظ التاريخ حتى من القبور فيلاحقهم في نومهم ويقظتهم فتستحيل الحياة عليهم فتراهم تقض مضاجعهم حتى أرواح الموتى الراقدة منذ قرون في القبور. وفي هذا مفارقة صارخة مع تعامل العرب والمسلمين مع المقابر والمعابد اليهودية الموجودة في الدول العربية، حيث إنها وعلى الرغم من الحروب التي نشبت بين العرب والكيان الصهيوني لم تتم إزالة قبر يهودي واحد أو كنيس واحد لأن هذا ليس من شيم العرب والمسلمين ولا يمت لأخلاقهم الرفيعة بصلة، وذلك أيضاً لأن العرب يحترمون كل القبور وكل المعابد ويعتبرون تجريف القبر اعتداء على حرمة وقدسية الإنسان الذي هو صورة الله على الأرض.

وعلى الرغم من كل هذه الجرائم التي يرتكبها «الإسرائيليون»، والتي لا يقابلها العرب بالمثل في أي من عواصمهم، فإن الخوف «الإسرائيلي» من العرب وكل من يؤيد حقوقهم بلغ أشده في المرحلة الأخيرة وتم التعبير عنه بطرق مختلفة. أحد مظاهر هذا الخوف هو اتهام الرئيس «الإسرائيلي» شيمعون بيريس الشعب البريطاني كله بأنه ضد السامية متغافلاً عن حقيقة إهداء حكومة بريطانيا فلسطين للعصابات الصهيونية من خلال وعد بلفور حيث تبدو التهمة معبرة عن خلل في توازن بيريس وليس المتهم. إذ على الرغم مما تحاول «إسرائيل» إبرازه من قدرات نووية وصاروخية وعلى الرغم من مليارات الدولارات التي تقدم إليها سنوياً من حكومة الولايات المتحدة فلا شك أن تسلسل الأحداث في الأعوام الأربعة الأخيرة بدأ يلقي بثقله على الثقة «الإسرائيلية» بما ترتكبه «إسرائيل» من جرائم وأثرها على مستقبل كيانها المشاد على الاغتصاب لحقوق العرب.

فقد عبرت حركة مقاطعة «إسرائيل» (BDS) المحيط الأطلسي للمرة الأولى، حيث اتخذت شركة غذائية في واشنطن قرارا تدعو فيه إلى مقاطعة المنتجات «الإسرائيلية». هذه الحركة التي تأسست في العام 2005 وأثارت وعياً أوروبياً ودولياً بضرورة مقاطعة «إسرائيل» تهدف إلى إنهاء الاحتلال والاستعمار «الإسرائيلي» لكل الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، وإنهاء التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين والاعتراف بحق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، كما أكده قرار مجلس الأمن رقم 194.

وحتى في «إسرائيل» تشكلت حركة المقاطعة من الداخل عام 2009، مما يؤكد، كما يقول عمر البرغوثي في مقاله «محاصرة حصار إسرائيل» («الغارديان» 12 أغسطس/ آب 2010)، أن لحظة «جنوب أفريقيا الفلسطينية قد حانت». أحمد مور في «الهوفينغتون بوست» (9 أغسطس 2010) يكتب أنه لا يمكن لـ «إسرائيل» أن تكون يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته ويفند عنصرية «إسرائيل» وتمييزها العنصري المفضوح ضد السكان الأصليين. أما كريستوفر غونيس فقد اتهم سلطات الاحتلال «الإسرائيلية» ببث تقرير «جملة أكاذيب» حول الأونروا وعملها مع اللاجئين الفلسطينيين. إن كل هذه التطورات في الصراع العربي - «الإسرائيلي»، إضافة إلى تحول دور تركيا لصالح العدالة في فلسطين، وفشل الإدارة الأميركية في صياغة مقترحات معقولة للسلام يجعل «إسرائيل» التي كانت تدعي القوة والنفوذ في «الشرق الأوسط» تخشى على قدراتها على ارتكاب الجرائم دون حساب لأنها تعلم من التجربة عجزها عن استخدام الأسلحة النووية المحرمة دولياً في وجه المؤمنين بالدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين وخاصة الحق في الحرية والعدالة.

ليس من المبالغة في شيء القول إن «الشرق الأوسط» قد تغير بفضل الكفاح من أجل العدالة وصمود الضلع المقاوم في هذه المنطقة من دول وأحزاب والتحولات الاستراتيجية وأهمها نهوض تركيا كدولة يحسب لها حساب في الدفاع عن العدالة، إذ ليس من الحكمة إغفال استخدام رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون تعبير رجب طيب أردوغان بوصف غزة بأنها أكبر سجن في العالم. وقد انتفى اليوم مصطلح تقسيم المنطقة إلى أصدقاء وأعداء من قبل الإدارة الأميركية وإلى راديكاليين ومعتدلين، حتى وإن كانت الإدارة الأميركية الحالية ما زالت تتمسك بدعم المتطرفين «الإسرائيليين»، ولكن على الأرض وفي أذهان شعوب هذه المنطقة حُسمت الأمور بين متواطئ يحمل في جيبه قراراً أميركياً بدعم الاستعمار «الإسرائيلي» وبين مقاوم يعمل بكل الوسائل لصياغة مستقبل هذه المنطقة بما يتناسب وحرية ومصالح شعوبها.

وعل استطلاع الرأي الذي قام به مؤخراً شبلي تلحمي في جامعة ميريلاند يشكل نافذة حقيقية ينقل عبر المحيط الواقع الجديد هنا في منطقة «الشرق الأوسط» للطرف البعيد هناك خلف المحيط والذي فشل فشلاً ذريعاً في فهم طموحات وقوة وإرادة أبناء هذه المنطقة التي تعبق بالتاريخ والانتصار على الغزاة مهما طال أمد ظلمهم وتعددت غزواتهم. فقد أشار هذا الاستطلاع أن رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا هو الأول في الشعبية 20% ويليه هوغو شافيز 13% وبعده الرئيس محمود أحمدي نجاد 12%. والأخبار التي وصفت بأنها أخبار سيئة للبيت الأبيض هي أن 77% من الذين تم استطلاع رأيهم يعتقدون أن لإيران الحق في الطاقة النووية و57% منهم يعتبرون أن إيران النووية ستكون أفضل لـ «الشرق الأوسط». وهذا يبرهن على الهوة الكبرى بين تفكير الإدارة الأميركية وتوجهات شعوب هذه المنطقة. حين ضغطت أوروبا القلقة على الولايات المتحدة لإيقاف الحرب على لبنان عام 2006، أجابت كوندوليزا رايس بأنه «ليس للولايات المتحدة مصلحة في إعادة المنطقة إلى الحال الذي كانت عليه» بالتأكيد لم تعد المنطقة للحال الذي كانت عليه بل أخذت توجهاً جديداً ومهما بصياغة مستقبلها بطريقة تضمن حرية وكرامة أبنائها واستقرار بلدانهم ولكن بقي أن يعترف البيت الأبيض ومتخذو القرار بهذه الحقيقة التي أصبحت ساطعة كالشمس هنا والتي تفسر أسباب خوفهم حتى من مقابرنا.

فهل نرتقي نحن أيضاً إلى هذا المستوى الجديد الذي بدأت بشائره تنتشر في أصقاع العالم وتؤكد أن مستقبل فلسطين لن يكون سوى مستقبل جنوب أفريقيا التي انتصرت على العنصرية والأبارتايد بعد أن نفذت إلى ضمائر شعوب العالم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 88 / 2165855

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165855 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010