الأحد 26 نيسان (أبريل) 2015

عن الوطنية الفلسطينية وإطارها الناظم

الأحد 26 نيسان (أبريل) 2015 par علي جرادات

للهوية الوطنية الفلسطينية خصوصية، تتمثل في أن تبلورها ارتبط بمواجهة غزوة استعمارية استيطانية احلالية إقصائية، استهدفت وجود الفلسطينيين، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وأدخلتهم في صراع وجودي مفروض ممتد ومرير . وهو ما جعل، (ولا يزال)، من المقاومة إطاراً ناظماً للوطنية الفلسطينية وشرطاً لازماً للتعبير عنها، ثقافياً وسياسياً وكفاحياً . لكن سياسة “أوسلو” و“الانقسام” الداخلي أورثت الفلسطينيين تفككاً وطنياً، ما زال يفتك بوحدة إمكانات فصائلهم وروابط تجمعاتهم المُشتتة والمستهدفة أصلاً، حتى صاروا بلا برنامج وطني واحد، وبلا قيادة واحدة، وبالتالي بلا خط سير عام واحد .
هنا، بعيداً عن محاولات حجب هذه الحقائق المرة بالاختباء خلف الأصبع، يتضح أن أسباب الانقسام القائم لا تقتصر على الخلافات السياسية، بل تتخطاها إلى نزاعات فئوية بلغت درجة الاحتراب الدموي، ويحركها هدف التفرد بقيادة الشعب وتمثيله، ويذكيها تعدد الأجندات ومصادر التمويل . ولو أن أمر الانقسام على غير هذا النحو، لكان يمكن تفادي ارتداداته على البنية الشعبية والمجتمعية من خلال التوحد الميداني إلى حين التوصل إلى توافق سياسي على القواسم المشتركة، وهو تكتيك اتبعته، (في عام 1986)، الفصائل الفلسطينية الأساسية المنقسمة سياسياً، للدفاع عن مخيمات لبنان في مواجهة حرب ظالمة شكلت حركة “أمل” رأس حربتها . أما وأن الانقسام القائم ليس سياسياً، وحسب، فقد كان من الطبيعي أن يطول بمفاعليه وحدة الشعب، وأن يجعل من تلاحم تجمعاته تلاحماً باهتاً ومحدوداً ومبعثراً، ولا يلبي الحد الأدنى المطلوب لمواجهة استباحات وجرائم بوزن حروب الإبادة والتدمير على قطاع غزة، وعمليات الاستيطان والتهويد المتصاعدة في النقب والمثلث والجليل والضفة والقدس، وعمليات التدمير والقتل وإعادة التهجير والتشريد الحاصلة في مخيم اليرموك، وفي مخيمات اللجوء عموماً، عدا عمليات التنكيل بالأسرى والاعتداءات المتواصلة على المقدسات، وصولاً إلى الاستباحة الشاملة والمُخططة لكل ما هو فلسطيني . ماذا يعني هذا الكلام؟
على الرغم من أن الوطنية الفلسطينية تجذرت، (بفعل الصراع وفي خضمه)، حتى صارت عصية على الاقتلاع، فإن التعبير الجماعي عنها، ثقافياً وسياسياً وميدانياً، يبقى مشروطاً بتوافر برنامج مقاومة وقيادة وطنية موحدة وجسورة، ذلك لأنه من دون توافر هذين الشرطين، يصعب، بل يستحيل، انتظام التجمعات الفلسطينية في خط سير واحد، ما دامت مشتتة ومستهدفة وتعيش في ظل ظروف وأنظمة سياسية و“قانونية” واجتماعية واقتصادية مختلفة . وكي نعرف أين كان الفلسطينيون وأين أصبحوا، ارتباطاً بتوافر أو عدم توافر هذيْن الشرطين، يجدر إمعان النظر والتأمل في دلالات مفارقات عدة، نشير إليها بإيجاز وتكثيف، وللتدليل لا الحصر، على النحو التالي:
في عام 1976 تلاحم الشعب الفلسطيني من أقصاه إلى أقصاه في هبة “يوم الأرض” لمواجهة مخطط استكمال استيطان وتهويد الجليل، بينما لا يتلاحم اليوم في هبات جماعية مشابهة لمواجهة مخططات استكمال استيطان وتهويد النقب والضفة والقدس . في عام 1987 انخرط الشعب الفلسطيني بأجياله ومكوناته السياسية والاجتماعية وأماكن وجودة كافة في انتفاضة كبرى شاملة ومتواصلة أطلقتها شرارة الدهس المتعمدة لمجموعة من العمال الفلسطينيين، بينما يمر بلا رد جماعي جاد ما يرتكب بحقه من تقتيل بلغ درجة الإبادة الجماعية والتدمير شبه الكامل في قطاع غزة، والاستباحة الشاملة لحياة وممتلكات أبنائه في الضفة، والتدمير الشامل لمخيم اليرموك وموت المئات من أهله الأبرياء قتلاً أو جوعاً وعطشاً . في عام 2000 تخندق الشعب الفلسطيني بكله في انتفاضة شاملة وممتدة رداً على زيارة شارون الاستفزازية لباحات المسجد الأقصى، بينما تمر بلا رد موجع وشامل الاستباحات المتكررة لمقدسات الشعب الفلسطيني كافة، والمسجد الأقصى منها بالذات . في الأعوام، (،1976 ،1984 ،1987 ،1992 2000)، توحد الشعب الفلسطيني بكامله في هبات شعبية دعماً لأبرز اضرابات الأسرى المفتوحة عن الطعام، بينما لا يحظى الأسرى بمثل ذاك الدعم الشامل رغم ما يتعرضون له منذ سنوات من عمليات تنكيل متصاعدة وغير مسبوقة .
هنا تحضرني حكاية تقول إن النبي سليمان تعجب من توقُّفِ مجموعة من البلابل عن التغريد، بعد أن وضع على رأسها طير بوم بناء على نصيحة مستشار سوء . وفي تعليقه على تلك الحكاية أنشأ الشاعر أحمد شوقي بيت شعْر، (حكمة)، يقول: بلابل الله لم تخرس ولا خُلقت/خُرساً لكن بوم الشؤم رباها . وبالمثل فإن مخزون الشعب الفلسطيني النضالي العام لا يزال عامراً، وأن إرادته الجماعية لم تُكسر، وأن استعداده العام للتضحية لا يزال عالياً، وأن وطنيته لا تزال، بفعل الصراع المفروض والممتد، معيناً لا ينضب لتجدد أشكال وأشكال من الكفاح الوطني الجماعي الشامل والممتد، لكن سياسة النخب القيادية ل“أوسلو” والانقسام هي ما ضرب، (ولا يزال)، خيار الوحدة والمقاومة، بوصفه الإطار الناظم للوطنية الفلسطينية والشرط اللازم للتعبير عنها بالمعنى الشامل في كل محطة من محطات الصراع .
خلاصة القول: ليس ظناً، وليس مبالغة، وليس تطيراً، وليس تهويلاً، القول: إن الوطنية الفلسطينية في خطر، أولاً بفعل هجوم صهيوني سياسي وميداني متصاعد، وثانياً بفعل خلل بنيوي أنجبته سياسية “أوسلو” والانقسام، كسياسة عبثية مدمرة، طال أمدها، ولا تلوح في المدى المنظور، على الأقل، بوادر توافر إرادة سياسية جادة لمراجعتها ومغادرتها لمصلحة بناء استراتيجية وطنية جديدة، تمكِّن الشعب الفلسطيني من التصدي للهجوم الصهيوني الذي يستهدف جوهر القضية الفلسطينية الأرض واللاجئين، ويشجعه على التمادي، حالة عربية مثقلة بهموم التجزئة والإرهاب الطائفي والمذهبي، وحالة دولية متواطئة ومشبعة بتدخلات الولايات المتحدة المعادية للحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، بينما تُختزل تطبيقات تفاهمات “المصالحة” في تشكيل “حكومة التوافق الوطني” التي صارت بعد نحو عام على تشكيلها حكومة “خلاف وطني”، بفعل اختزالها في مسألة موظفي “السلطة الفلسطينية” ورواتبهم .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2178314

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي جرادات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178314 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40