السبت 25 نيسان (أبريل) 2015

دقيقة صمت…وحرب على ضحايا القوارب المهاجرة!

السبت 25 نيسان (أبريل) 2015 par عبداللطيف مهنا

لم تك أوروبا في يوم من أيام تاريخها مضيافة للآخر، ولا كانت قابلة له، ولا حتى تمتلك القدرة على عدم معاداته. بل إن جغرافيتها غير المترامية نسبيًّا مقارنة بسواها من قارات المعمورة، قد حفلت على مدار تاريخها بتلاطم ساكنيها وتدافعهم واحتراباتهم المتواصلة، والتي أزال بعضها فيها بعضها من على وجهها، أو ابتلع كبيرها صغيرها، واستورث قويها مستضعفها… ظل هذا ديدنها المرافق لتاريخها إلى أن اختتمته لاحقًا بمقتلتيها العظميين المسميتين ظلمًا بالحربين الكونيتين الأولى والثانية، وفقط في مسافة زمنية لم تزد على النصف الأول من قرننا المنصرم. هاتان المقتلتان الرهيبتان اللتان لتفادي تكرارهما ارغمت القارة العجوز نفسها على توحُّد بات بالنسبة لها ضرورة استقرار… توحُّد تسيِّجه المصالح وتضمنه حاجتها لتفادي ما قررت بوحدتها أن تتفاداه.
هذه مقدمة أرى أنه لا بد منها لكي نفهم مثل هذه المفارقة المتضمنة لكل هذا المدى الذي لا يحد من النفاق الإنسانوي الزائف والمتستر على تليد عدوانية متأصلة تجاه الآخر تجلى في احتشاد وصف بالطارئ لما لا يقل عن 41 وزير خارجية وداخلية لدول الاتحاد الأوروبي في لكسمبورج تمهيدًا لقمة لحقت لزعمائه في بروكسل، ولأمرين نقيضين: الأول، الوقوف دقيقة صمت أسفًا على ضياع أرواح ما قارب التسعمئة ضحية من ما يسمونهم في القارة بالمهاجرين غير الشرعيين، الذين ابتلعتهم مياه البحر الأبيض المتوسط على مقربة من الشواطئ الليبية واليونانية الأسبوع الماضي. والثاني، خروج محتشدي لكسمبورج “المصدومون” لهول هذه الكارثة الإنسانية، وبالإجماع، بخطة من عشرة محاور قُدِّمت لقمة بروكسل فأقرتها وتعني مجتمعةً إعلانهم لحرب ضروس لا هوادة فيها على القوارب المتهالكة الحاملة إليهم هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، مردوفةً بتنظيم عمليات ترحيل جماعية وسريعة لمن وصلوا أحياءً ولا يُقبل لجوؤهم… المهاجرون الشرعيون عندهم فحسب هم المستثمرون ورجال الأعمال والعلماء وما يحتاجونه من أيدٍ ماهرة ومؤهلات يسدِّون به نقصًا لا يتوفر لدى مصانعهم ومؤسساتهم.
هذا الوقوف الأوروبي دقيقة صمت إجلالًا لأرواح ضحايا مقبرة المتوسط فاغرة الفاه، مشفوعًا بإعلان الحرب على قواربهم المتهالكة، ولهدف واحد وجلي هو وقف الهجرة لا وقف الغرق، أو ردع اللاجئين وتجاهل وجوب إنقاذهم، سبقته حملة تمهيدية إعلامية مركَّزة على المهربين حصرًا، أو “تجار الرقيق الجدد”، مع إغفال تام لأسباب هذه الهجرة ومدى إسهام ومسؤولية الغرب إجمالًا في خلقها، ثم جعلها لا شرعية وبالتالي تحويلها إلى مقتلة بإحجامهم عن تنظيمها، وتبرير التشدد حيالها بتزايد المنسوب الضاغط من المزاج الشعبي المعادي للمهاجرين، وتنامي ظاهرة الصعود اليميني في القارة، أو هذه الذرائع التي لا تعدم بعضًا من صحة لكن ما لا تكفي لتبرير تشددهم.
قبل رفع منسوب التشدد حيال المهاجرين، وإعلان الحرب على قواربهم، تحت لافتة الحرب على المهرِّبين و”تجار الرقيق الجدد”، كانت قد انتصرت لدى الأوروبيين فكرة “دعهم يغرقون”، أو عملية “تريتون”، أو حماية الحدود الأوروبية، التي ستقودها وكالة “فرونتكس” المختصة بهذه المراقبة، على سابقتها عملية “ماري نوستروم”، أي “بحرنا”، التي تعني البحث عن قوارب اللاجئين وإنقاذهم، بمعنى اعتمادهم للوصفة الفرنسية بديلًا للإيطالية، التي كان الألمان “يعتبرونها دعوة مفتوحة للمهاجرين”، الأمر الذي يفسر تضاعف عدد ضحايا القوارب الغارقة ثلاثين مرة عنه في العام الماضي، إذ بلغ عدد الغرقى في الأربعة اشهر المنصرمة فحسب 1500 ضحية.
…بقي أن نشير إلى أن 24 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي كانت قد رفضت مراجعة اتفاقية “دبلن2″ التي تفرض على بلد الدخول المسؤولية عن داخليه من المهاجرين وعن إعادة من يرفض طلب لجوئه من حيث أتى، الأمر الذي يثقل كاهل هذه الدول، لا سيما وأنها إما دول الجنوب التي تتخبط في أزماتها الاقتصادية، أو دول البلقان الأكثر فقرًا في القارة، وهو ما يدفعها في الغالب إلى غض الطرف عن عابريها لإدراكها أنها ليست مقصدًا لهؤلاء البائسين وإنما مجرَّد محطات عبور إلى حيث بلدان أغنياء القارة ومتخميها شمالًا.
والآن وبعد أن ذرف أوروبيو لوكسمبورج دمعة نفاق عجولة على ضحايا القوارب الغارقة وأعلنوا الحرب الشاملة على ما لم يغرق منها بعد في بروكسل، داعين للقيام “بجهد منهجي لإمساك وتدمير السفن المستخدمة من قبل المهرِّبين”، عبر ما كان قد دعاها مفوض الهجرة في الاتحاد الأوروبي عمليات “عسكرية مدنية”، يمهِّد لها توسيع مهمة “فرونتكس” لتتعدى المياه الإقليمية الأوروبية إلى الدولية، بمعنى الليبية، فقد تفاوتت الاجتهادات الأوروبية في هذا السياق بين من دعا لعمليات عسكرية محدودة الأهداف ضد المهرِّبين وفق انموذج الحرب على داعش، كالإيطاليين مثلًا، والداعي لملاحقتهم حتى في عمق القارة الإفريقية، كالبريطانيين، وهكذا…
إذا ما شئنا تصنيفًا لمرتادي قوارب الموت في مهلكة المتوسط، أو ضحايا موسم الهجرة إلى الشمال غير المضياف، نجدهم في المجمل إما أفارقة ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة هربًا من جوع، أو عربًا وأفغانًا يفرون من جحيم فتن وحروب أشعلها الغرب ورعاها في ديارهم، بدءًا بغزو أفغانستان، وتدمير العراق، والحرب المستمرة على سوريا، وهدم الدولة في ليبيا، دون أن ننسى جريمتهم المستدامة في فلسطين بافتعالهم للكيان الصهيوني… بمعنى أنهم جميعًا ضحايا هذا الغرب الاستعماري، الذي ولقرون ولا يزال، يمتص دماء مستضعفي شعوب وأمم الأرض، والسبب المباشر لكل راهن الويلات التي تدفع بضحايا “دعهم يغرقون” لإلقاء أنفسهم في يم الوقوف دقيقة صمت!!!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2166047

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبداللطيف مهنا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2166047 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010