الجمعة 24 نيسان (أبريل) 2015

العصبية العائلية بين الشرق والغرب

الجمعة 24 نيسان (أبريل) 2015 par رغيد الصلح

اعتاد بعض الكتاب في الغرب، في معرض استعراضهم لأسباب تقدم بلادهم على بلاد الشرق ومجتعاته، أن يشيروا إلى النزعة العائلية كواحدة من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك الحال . وقد كانت هذه النزعة مستفحلة في الغرب نفسه (بورجيا، مديتشي، سفورزا في الدول - المدن الإيطالية - مثلاً)، ولكن التقدم العلمي والفكري والسياسي الذي حققته المجتمعات الغربية ادى إلى الحد من آثار هذه النزعة . وأسهم انتشار الانتماء الوطني والقومي بصورة خاصة في إطفاء العصبية العائلية أو وتذويبها على الأقل، وحلت المعايير الوطنية والإنسانية محل الاعتبارات العاطفية وغير العقلانية في التأثير في سلوك الناس وطرق تفكيرهم وأمزجتهم .
وكثيراً ما كانت هذه التفسيرات في محلها حينما لعبت الأنانيات العائلية دوراً مهماً في عرقلة تقدم أقطار مهمة في العالم الثالث . لعب هذا العامل دوراً مهماً في إندونيسيا، على سبيل المثال . ففي ظل ديكتاتورية سوهارتو بلغت مجموع ديون إندونيسيا، بسبب استحواذ السوهارتيين على المال العام الخارجية، نحو أربعين مليون دولار، بينما قدرت ثروة عائلة سوهارتو بالمبلغ نفسه تقريباً . هذا لا يعني أن إندونيسيا أخفقت كلياً، بسبب استحواذ السوهارتيين على المال العام، في تحقيق أي تقدم إبان حكم الديكتاتورية العسكرية، ولكنه يعني أنه لو وضعت النخبة الحاكمة الإندونيسية آنذاك مصلحة البلد فوق مصلحة العائلة الحاكمة لأمكن توظيف مليارات الدولارات في تحويل البلد إلى “نمر آسيوي” . هل يعني ذلك أن النزعة العائلية التي يساويها البعض “بالقيم الآسيوية” هي سبب أساسي، أو حتى السبب الأهم في تخلف الشرق عن الغرب؟ أبعد من ذلك . آخذاً في الاعتبار تأصل هذه المعتقدات الدينية، هل يمكن القول إن النزعات المرتبطة بها وفي مقدمتها العصبية العائلية سوف تبقى حاجزاً يحول دون لحاق الشرق بالغرب في سباق التقدم؟
تخضع هذه التقييمات والتفسيرات اليوم إلى مراجعات واسعة . وتتزامن هذه المراجعات مع بروز الظاهرتين التاليتين:
* أولاً، صعود النزعة العائلية في الغرب . وقد تفاقمت هذه الظاهرة مؤخراً إلى درجة أن بعض المحلليين والمؤرخين ذهب إلى القول إن العصبية العائلية لم تبارح المجتمعات الغربية، وإنها كانت تتخفى وراء الستائر الكثيفة . وعلى خلفية هذه القناعات تكاثرت أعمال الحفر والتنقيب في الحياة العامة بغرض “إسقاط الأساطير المضللة” التي تقول إن النزعة العائلية اختفت من الغرب منذ نهوض الطبقة البرجوازية واقتحامها الأرياف بصورة خاصة .
ونشط المنقبون عن آثار النزعة العائلية السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة بصورة خاصة . ففي الحلم الأمريكي، أو الرؤية القومية الأمريكية، أن الولايات المتحدة هي أرض المساواة والفرص المتكافئة المفتوحة لأبناء شتى الطبقات، وكل الأعراق والأنساب والأعمار والنوع الاجتماعي . وفيما يرغب الأمريكيون في تذكّر هذه الصورة وتذكير الآخرين بها مراراً وتكراراً، فإن الذين ينقبون عن أثر العائلة في الحياة العامة يقولون غير ذلك . فعقب الانتخابات الفرعية الأمريكية في أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت، نشرت صحيفة الغارديان الإنجليزية (23-10-2014) تقريراً عرضت فيه بالتفاصيل الدقيقة شبكة العلاقات العائلية الواسعة التي كانت تضم عدداً كبيراً من المرشحين والمرشحات لدخول الكونغرس الأمريكي، واستنتجت من هذه الوقائع على أن الانتخابات دلت على أن عامل النجومية العائلية بات يفوق أهمية، في نظر الناخب الأمريكي، مبادئ المرشحين والإنجازات التي حققوها في الحقل العام وعلى تمتعهم بقوة الشخصية والكفاءة .
وقبل أسابيع قليلة (21-03-2015) نشرت صحيفة “نيويورك تايمز الدولية” هي الأخرى تقريراً أعده الإحصائي الأمريكي سيث ستيفانز-دافيدوفيتش يسلط فيه الأنظار على مدى ترسخ النزعة العائلية في الحياة العامة الأمريكية . وقد جاء في هذا التقرير الإحصائي أنه، بالاستناد إلى الإحصاءات الانتخابية وإلى سابقة انتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة، فإن فرصة نجاح ابن رئيس الجمهورية الأمريكي في الفوز بالرئاسة توازي 4 .1 مليون مرة حظ الأمريكي العادي في دخول البيت الأبيض، وأن فرصة ابن عضو الكونغرس في خلافة أبيه توازي 8500 مرة فرصة ابن الرجل العادي في دخول الكونغرس . ولم يتوقف دافيدوفيتش عند الحياة السياسية وحدها، بل طالت إحصاءاته الحياة العسكرية والرياضية والعلمية، حيث دلت على أن العائلات التي تتمتع بالنفوذ توفر لأبنائها وبناتها فرص التفوق في هذه المجالات أكثر بكثير من العائلات العادية والمهمشة .
* ثانياً، أن العائلات، خلافاً للنظرة الغربية التي تقول إن العصبية العائلية أعاقت تقدم المجتمعات وعصرنتها وانتقالها إلى مرحلة المجتمعات الصناعية، فإنها لم تمنع حصول مثل هذه التطورات في دول جنوب شرق آسيا . بل على العكس من ذلك، فقد توصلت مجلة “الإيكونومست” الإنجليزية (18-04-2015) إلى أن “الشركات العائلية كانت في قلب تطور الرأسمالية الآسيوية” . لقد توافرت لهذه الشركات ميزات ساعدتها على التغلب على المنافسين مثل حسن السمعة، والحرص على الاستقامة والصلات العائلية التي عملت كجسور ومعابر للتعاون مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية . وقد تعززت هذه الصفات بسعي القائمين على هذه الشركات إلى تنمية علاقاتهم مع أقرانهم عبر أنماط متنوعة من طرق التعاون، بما في ذلك عقد الزيجات “الاقتصادية”، إن صح التعبير . فوراء العديد من الشراكات الاقتصادية المربحة، عقود زواج بين أبناء وبنات العائلات الاقتصادية الكبرى .
وفيما كانت العديد من العائلات الاقتصادية تعمل على ترسيخ أقدامها في عالم المال والإنتاج وتصبّ كل جهودها في هذا المضمار، فإن الكثير منها أيضاً أظهر حرصاً على مصالحه الشخصية والعائلية، وتحسساً بالمشاعر العامة وتعاطفاً مع الحركات الوطنية والمناهضة للاحتلال والإمبريالية، مما أضاف إلى السمعة الحسنة التي اكتسبتها الشركات العائلية . وفي معرض الإشارة إلى هذه الظاهرة، يطيب للهنود ان يذكروا الرواية الشهيرة التي تدور حول بناء “فندق تاج” في مومباي . فالذي بنى الفندق هو جامسيتس “تاتا” الذي كان واحداً من عمالقة الاقتصاد الهندي ومؤسس تجمع “تاتا”، وهو أكبر تجمع اقتصادي هندي، وهو بدوره من أكبر التجمعات الاقتصادية في العالم . أما السبب الذي دفع جامسيتس إلى بناء أكبر وأفخم فندق في المدينة، فكان بمثابة رد فعل شخصي ووطني على منعه دخول فندق يرتاده الأجانب .
إن هاتين الظاهرتين تدلان على أن العائلية في حد ذاتها لا تشكّل حاجزاً يحول دون تقدم المجتمعات الشرقية، وأن اختفاءها غير المحقق من المجتمعات الغربية لا يفسر تقدم الغرب وتفوقه على الشرق . إذاً، كيف يفسر المرء انتشار هذه الفكرة ليس في المجتمعات الشرقية قبل الغربية؟ هل كانت هذه النظرية واحدة من الوجبات الفكرية التي قدمت إلى الشرقيين، وإلى مجتمعات العالم الثالث لتفسير التفوق الغربي - الأبدي - على الشرق؟ هل قصد بهذه النظرية أن تكون وسيلة لتخيير الشرقيين بين الولاء للعائلة والتمرد على التبعية للغرب؟ إنها أسئلة كثيرة تحتاج إلى المزيد من التدقيق في موضوع العلاقة بين الشرق والغرب .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2181796

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2181796 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40