الاثنين 30 آذار (مارس) 2015

بين إيران الفارسية .. وإيران الدولة

الاثنين 30 آذار (مارس) 2015 par خالد الحروب

هناك أكثر من إيران وكل منها لها عدة أوجه، وهي “إيرانات” متنوعة ومتعددة قد تتكامل أو تتنافر جزئيا، لكنها ليست متناظرة ومتطابقة تماماً، وهذا يفرض ضرورة الفهم المركب والمعمق لما نراه اليوم من فيضان وتوتر في آن معاً للنفوذ والتمدد الإيراني. هناك بشكل أساسي ثلاث “إيرانات” الأولى هي إيران التوسعية المهجوسة بإحياء الإرث الفارسي الإمبراطوري، والمشحونة بالتاريخ الذي يدفع إيران وقادتها وشعبها دفعا ويورطهم في مشروع إمبريالي إقليمي دائم.
إيران هذه ترى المنطقة كلها تابعة لها، وبكونها تملك مشروعا إمبراطوريا متفوقا على جوارها. تواردت تمثيلات هذه الإيران الإمبراطورية على ألسنة مسؤولين إيرانيين كثر مؤخرا، تفاخر بعضهم بسيطرة إيران على عواصم عربية أربع، وتشاوف الآخر بأن الجيوش الشعبية التابعة لإيران تجوس في طول وعرض المنطقة. لكن التمثيل الأبرز والأكثر فجاجة جاء قبل أسبوعين على لسان علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني روحاني عندما تفاخر بأن إيران عادت إلى وضعها الإمبراطوري الطبيعي وأن العالم برمته أصلا هو جزء من الشخصية الإيرانية، واعتبر أن العراق ليس جزءًا من النفوذ الثقافي لإيران وحسب، بل جزء من “هوية إيران” وهو “عاصمتها” وأن هذا أمر لا يمكن الرجوع عنه، لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء. إيران الإمبراطورية الفارسية إذن تعتبر موقعها الطبيعي هو السيطرة المطلقة على المنطقة وقيادتها، وهي تنظر للعرب ليس وفق نظرة احتقار وازدراء لا يتوارى عن التعبير عنها أدباء وفنانون وسياسيون كبار فيها، بل وفق نظرة عنصرية بالمعنى العلمي للكلمة.
ثمة تواريخ ماضية وقرون وتجارب مريرة أسهمت وتساهم في الإبقاء على إيران الفارسية، ليس ثمة مساحة هنا للانخراط في نقاشها، لكنها تجارب خلقت جرحا نرجسيا دائم النزيف في الشخصية الجمعية الفارسية الإيرانية.
ظل ذلك الجرح النرجسي العميق يظهر بين الحين والآخر وبغض النظر عن “شكل الدولة” القائم في إيران. في العصر الحديث مثل الشاهنشاه، ملك الملوك، أحد أهم التعبيرات عن ذلك الإحساس الإمبراطوري المتوارث، ليس فقط في الحمولات الرمزية الفائضة، بل أيضا، وهو الأهم في السياسات الخارجية المُتبناة، والتي اتسمت بالتوسعية وازدراء الجوار العربي وتسنم موقع “شرطي المنطقة” لعقود طويلة.
في عهد الخميني أخذت تلك النزعة التوسعية الفارسية شكلا دينيا، حيث لبست رداء “تصدير الثورة” واستهدفت الجوار المباشر وهو العراق والخليج العربي. صحيح أن صدام حسين كان المُبادر بالحرب ضد إيران وكانت تلك المبادأة قصر نظر، لكن المناخ التأسيسي الذي نشرته ثورة الخميني بخطابها الاستفزازي ليس فقط للعراق بل ولكل الخليج، كان هو المسؤول المباشر عن تلك الحرب الأليمة التي حصدت ملايين وأسست لما نعيشه الآن.
وفي الأطوار اللاحقة من حياة “الثورة الإيرانية” ومنها اللحظة الراهنة، وجدت “الإمبراطورية الفارسية” الكامنة في مسألة حيازة السلاح النووي البوابة الأهم والأوسع لاستدعاء كل الماضي المجيد وإثبات أحقية إيران بالسيطرة الإقليمية وإعادتها إلى “موقعها الطبيعي” وهي قيادة بلدان الشرق الأوسط وإخضاع شعوبها.
ضمن هذا الشعور المتضخم بالذات الإمبراطورية يتم توظيف كل المسائل والقضايا التي تطرحها الأحداث الصغيرة (بما فيها، وربما على رأسها قضية فلسطين). وقد لعبت فلسطين ومنذ عهد الخميني فصاعدا الرافعة العاطفية والدينية التي مكنت إيران من فك أقفال عديدة في المنطقة العربية. لكن هذا الدعم، والذي كان جديا وحقيقيا لمنظمات المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، لا يمكن فهمه إلا من زاوية التوسع الإقليمي وتعزيز مكانة إيران، وليس حبا في فلسطين والفلسطينيين ولا قضيتهم. واضعاف ذلك الدعم ما تلقاه حزب الله الذي يشكل اليوم الذراع الحقيقية للمشروع الفارسي التوسعي وعلى رافعة “المقاومة والممانعة”.
تتماهى مع “إيران الإمبراطورية الفارسية” إيران أخرى هي “إيران التشيع السياسي” التي أطلقها الخميني وطرحت نفسها حامية للشيعة، ليس فقط في المنطقة، بل وفي العالم بأسره. وهذه الـ“إيران” تتسم بكونها هي أيضاً إيران عابرة للحدود ولا تحترم سيادات الدول. وإذا كانت إيران الفارسية مهجوسة بإحساس الإمبراطورية المهزومة والتي تريد أن تنهض، فإن إيران “التشيع السياسي” مهجوسة بإحساس المذهب الأقلوي المدجج بشعور الاضطهاد والهزيمة، والذي يريد أن ينهض منتقما مما يراه مظلوميات فرضتها عليه الأغلبية العربية السنية.
مقابل هاتين الـ“إيرانيتين” السابقتين هناك “إيران” ثالثة هي إيران الدولة الأمة أي nation state والتي من المفروض أن تكون ملزمة بالقانون الدولي وتحترم سيادات الدول ولا تستبطن أي مشروع أيديولوجي أو إمبراطوري متجاوز للحدود، والقائمة على مبدأ المواطنة وليس المذهب. هذه الإيران الأخيرة هي أضعف الإيرانات مع الأسف، وهي ما يجب أن يتم دعمه وتقويته والتعاون معه.
صحيح أن هناك تيارا عريضا وقويا داخل إيران “الدولة الأمة” يريد لهذه الأخيرة أن يتصلب عودها وحضورها مقابل إيران الإمبراطورية وإيران التشيع السياسي، لكنه لا يمتلك قوة خطابات الآخرين وأيديولوجيتهم.
كما ليست هناك حدود فاصلة وواضحة بين هذه الإيرانات الثلاث، كما ليس ثمة كتل داخل إيران صارمة الملامح يمثل كل منها إيرانه الخاصة به. بل هناك تداخل وغموض التعريفات، حيث تبدو هذه الإيرانات كثلاث دوائر تتداخل في منطقة الوسط، بما يعني اشتراكها في عناصر عديدة، لكن اختلافها في عناصر أخرى.
ما يجب على العرب أن يطالبوا به ويشجعوه ويتعاونوا معه هو إيران الثالثة القائمة على مبدأ الدولة الأمة والتي يكون مواطنوها إيرانيين بالتعريف. وهذه الإيران هي وحدها التي يمكن أن تعيش بسلام مع جوارها العربي وتقيم علاقات ليست فقط قائمة على الاحترام والمصالح المشتركة، بل والتعاون أيضا، والذي يجب أن يصل إلى صوغ نظام أمن إقليمي يحاصر المخاطر والصراعات. إيران التي تنزع عنها هوس التوسع والسيطرة على عواصم العرب، وادعاء تمثيل الشرق الأوسط وشعوبه، وأنهم جميعا جزء من الهوية والتاريخ الإيراني.
ربما كان هذا الكلام الآن شعرا ورومانسية لا تتحقق على أرض الواقع ببشاعته، لكن ليس هناك من سبيل إلا لجم إيران التوسعية وتنمية إيران الدولة. والمثال الأوروبي طازج ومُعلم حول دول ومشاريع توسعية، فاشية ونازية، ذات أيديولوجيات عنصرية ومزاعم مظلوميات تاريخية، تم لجمها وتقليم تطرفاتها، وتحولت إلى دول أمم رصينة ومحترمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2166038

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع خالد الحروب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2166038 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010