الأربعاء 11 آذار (مارس) 2015

حق الشَّقَا

الأربعاء 11 آذار (مارس) 2015 par فهمي هويدي

إذا سقط اسم ابن عرضون الكبير من الذاكرة العربية، فينبغي أن يذكر على الأقل في مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، صحيح أن نحو أربعمائة عام تفصل بين زمن الرجل وبين قرار الأمم المتحدة تحديد يوم للاحتفال بنضال المرأة والدعوة لإنصافها. إلا أن ابن عرضون سبق الجميع بفتواه الشهيرة، التي كانت بمثابة نقطة تحول في ذلك المضمار، وهي الفتوى التي أسست لما عرف بحق «الكد والسعاية» ــ من الآية القرآنية ــ لكل امرئ ما سعى ــ أو «حق الشقا».
خلاصة رأي ابن عرضون أن كفاح المرأة وكدّها أثناء الزواج ينبغي أن يوضع في الحسبان بعد الطلاق أو الوفاة، لذلك فلها أن تحصل على نصف ثروة زوجها التي حققها أثناء ارتباطه بها وبعد ذلك تأخذ نصيبها من الميراث في حالة وفاة الزوج، وهو ما اعتبر ثورة في فقه الأسرة، أيدها البعض وانتقدها آخرون، ولكن يحسب لابن عرضون أنه أطلق شرارتها قبل أربعة قرون.
هو أبو العباس أحمد بن الحسين بن عرضون، تصفه كتب الرجال بأنه الإمام العمدة والفقيه الموثق والقاضي العادل، تولى القضاء في مدينة شفشاون بشمال المغرب في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. وعُد في مقدمة فقهاء المذهب المالكي، الذين أثروا فتاوى النوازل (المستجدات) بثاقب نظره وغزير علمه وجرأته في الحق. ولأن المجتمع الذي نشأ وعاش فيه جزء من البادية، التي كان الرجال فيها أهل حروب وقتال، في حين تحملت النساء أعباء تسيير الحياة، من شؤون البيت إلى أمور الزراعة والرعي، فإنه وجد أن ذلك الجهد لابد أن يقدر. وكان أحد الفقهاء المغاربة ــ اسمه السوسي نسبة إلى بلدة سوسة ــ قد وصف ما تقوم به المرأة في البادية قائلا: إنها تقوم سحرا لتطحن، ثم تسخن ماء الوضوء مع الفجر، ثم تحلب البقرة، ثم تسقي من البئر بالقُلَّة على ظهرها. ثم إن أرادت أن تحطب فإنها تبكر. ولا تطلع الشمس إلا وهي وراء الروابي (في الحقول) ثم لا تكاد تدخل الدار حتى تهيئ الغداء وترضع ولدها. ومن الواضح أن ذلك الجهد الكبير الذي كانت تبذله نساء البوادي ظل محل تقدير في مجتمعات ذلك الزمان، لذلك سميت المرأة في اللهجة الأمازيغية المتداولة بين البربر تامغارت، والكلمة مؤنث أمغار أي الشيخ رئيس القبيلة، وأطلقت الكلمة على المرأة باعتبارها رئيسة الأسرة وسيدة البيت.
حين سئل ابن عرضون عن نصيب المرأة بعد انقضاء الزوجية بالطلاق أو الوفاة، فإنه أصدر فتواه في أرجوزة على طريقة أغلب فقهاء المالكية قال فيها:
وخدمة النساء في البوادي ــ للزوج بالدراس والحصاد
قال ابن عرضون لهن قسمة ــ على التساوي بحسب الخدمة
لكن أهل فاس فيها خالفوا ــ قالوا لهم في ذاك عرف يُعرف
لم تمر فتوى ابن عرضون بسلام، لأن كثيرين عارضوه وآخرين أيدوه. والمؤيدون قالوا إن الفقيه الكبير رأى واقعا كان لابد أن يتفاعل معه، وقدر أن الجهد الزائد الذي تبذله المرأة المكافحة ينبغي أن يرتب لها حقوقا إضافية على ما قرره الشرع لها في الظروف العادية، واعتبر أن ذلك من مقتضى العدل والإنصاف إلى جانب أنه يعبر عن تقدير فيض العطاء الذي تقدمه المرأة.
قال هؤلاء أيضا إن للمسألة أصلا في الخبرة الإسلامية، ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب توفي عمر بن الحارث الذي كان زوجا لامرأة هي حبيبة بنت زرق. وكانت حبيبة نساجة طرازة، وكان زوجها يتاجر فيما تنتجه وتصلحه حتى اكتسبوا من جراء ذلك مالا وفيرا. ولما مات الزوج وترك المال والعقار فإن أولياءه تسلموا مفاتيح الخزائن. إلا أن الزوجة نازعتهم في ذلك. وحين اختصموا إلى عمر بن الخطاب فإنه قضى لها بنصف المال وبالإرث في الباقي. واعتبر مؤيدو ابن عرضون أن ما أقدم عليه خليفة المسلمين يعد سابقة يمكن القياس عليها في استنباط حكم جديد يحقق العدل والإنصاف ضمن أحكام المواريث المقررة في النصوص القرآنية. وهو ما أقرته ونصت عليه مدونة الأسرة في المملكة المغربية لاحقا حين قررت أن للمرأة نصف ممتلكات الزوج عند الطلاق أو الوفاة، وقد طبق نفس المبدأ في قانون الأسرة بماليزيا، ومعروف أن هذا المبدأ معمول به في القوانين المعمول بها في الدول الغربية.
للأسف فإن اسم ابن عرضون لا يعرفه كثيرون في بلادنا. أستثني من ذلك نفرا من الباحثين والأكاديميين المهتمين بفقه النوازل. وأغلب الظن أن ذلك راجع إلى أن فقهاء المالكية لهم شهرتهم الأوسع في بلاد المغرب، لأن المذهب المالكي هو الأول هناك، في حين أن أغلب المشارقة من الأحناف والشافعية.
ليس ذلك هو السبب الوحيد لعدم معرفة كثيرين باسم ابن عرضون وفتواه، لأن أيضا حظ أمثاله من الفقهاء الشجعان الذين ملأوا الفقه الإسلامي باجتهاداتهم المنيرة. فنحن في زمن ما عاد يذكر فيه من التراث الفقهي إلا ما هو مثير للنفور والبغض لأسباب بعضها استجابة للهوى والبعض الآخر ركوبا للموجة وميلا مع الريح السياسية وتسويغا للدعوة إلى الثورة الدينية!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2166056

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2166056 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010