الأربعاء 11 آب (أغسطس) 2010

الانحياز إلى فلسطين معيار الوطنية الحقة

الأربعاء 11 آب (أغسطس) 2010 par فهمي هويدي

الخبر السيئ أن أولوية القضية الفلسطينية تراجعت في «أجندة» أغلب الأنظمة العربية. أما الخبر الأسوأ فهو تغييب القضية عن برنامج أي حركة وطنية للتغيير في العالم العربي، رغم أن حضورها في صلب تلك البرامج الأخيرة يعد أحد معايير الوطنية، ودليلاً حاسماً على صدق الرغبة في إجراء تغيير حقيقي.

(1)

قل لي ما موقفك من القضية الفلسطينية أقل لك ما موقعك من الانتماء الوطني، بل والعربي والإسلامي. قد لا يمثل رأيي أهمية بالنسبة لك، إلا أنني بهذا المعيار ألزم نفسي على الأقل، ذلك أن لدي اقتناعاً راسخاً بأن الموقف النزيه من القضية الفلسطينية له تداعياته الضرورية في اتجاهات عدة. إذ حين نكون بصدد احتلال أرض واقتلاع شعب وتشريده أو حصاره ونهب موارده وثرواته، فإننا نصبح بإزاء جريمة كبرى ضد الإنسانية، لا سبيل للتهاون أو التصالح مع الفاعلين والشركاء في ارتكابها. وذلك يضع في قفص الاتهام، ويستدعي على الفور أمام محكمة الضمير طرفين أساسيين هما «إسرائيل» والولايات المتحدة.

أدري أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها احتلال أرض واقتلاع شعب، وأن ذلك ما حدث بالضبط مع الهنود الحمر في الولايات المتحدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهي الجريمة التي حققت نجاحاً نسبياً، حيث تم سحق وإبادة الهنود أصحاب الأرض الأصليين، واستطاع الأميركيون فرض واقع جديد سلم به الجميع، وخرجت من رحمه دولة عظمى تتحكم الآن في مقدرات العالم. لكن القياس على الحالة الفلسطينية هنا ينبغي أن يضع في الاعتبار ثلاثة فوارق على الأقل هي :

(1) أن ما جرى لا يزال يشكل وصمة عار في جبين الولايات المتحدة لم ينجح الواقع الجديد في محوها. تشهد على ذلك الكتب التي ما زالت تصدر عن تلك التجربة البشعة سواء من مثقفي الهنود الحمر أو غيرهم.

(2) إن ذلك حدث في ظل العالم القديم الذي كان يمكن أن ترتكب فيه أمثال تلك الجرائم دون أن يحرك شيئاً في الساحة الدولية (لا تنس أن تجربة الاستيطان والإحلال فشلت في جنوب أفريقيا).

(3) إن الهنود كانوا 40 شعباً حقاً، إلا أنهم لم يشكلوا أمة لها امتداداتها خارج حدودها. على العكس تماماً من الفلسطينيين الذين قاوموا الإبادة بالتكاثر والتناسل، ولا يزالون يمثلون جزءاً وجرحاً في المحيطين العربي والإسلامي.

استطراداً من النقطة الأخيرة فإن إنجاح محاولة اقتلاع الشعب الفلسطيني لم يعد يكفي فيها تعاظم القدرة العسكرية «الإسرائيلية» والسعي اللجوج لابتلاع الأرض وتغيير جغرافيتها، بل بات ذلك يقتضي أيضاً إخضاع العالم العربي المحيط أو تدجينه.

وذلك يفسر لنا إجماع الخبراء الصهاينة على اعتبار معاهدة الصلح التي عقدها الرئيس السادات في عام 1979 بمثابة «الميلاد الثاني» لـ «إسرائيل»، وقولهم إنها تمثل الحدث الذي يعادل في الأهمية التاريخية تأسيس الدولة العبرية في عام 1948. وخطورة هذه المعاهدة لا تكمن فقط في إخراج مصر القوة العربية الأكبر والأخطر من معادلة الصراع، بل تكمن أيضاً في استثمارها لصالح تعزيز أمن «إسرائيل» والدفاع عن مشروعها.

هذه الخلفية تفسر لنا لماذا اعتبر بنيامين بن اليعيزر وزير التجارة «الإسرائيلي» والجنرال السابق أن القيادة المصرية باتت تمثل «كنزاً استراتيجياً» لـ «إسرائيل»، ولماذا تمنى الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف للرئيس مبارك دوام العافية وطول العمر. ولماذا سعت «إسرائيل» بكل ما تملك من جهد ونفوذ للحفاظ على الوضع القائم في مصر، ولماذا يعلن قادتها بين الحين والآخر أن انسحابها من معاهدة السلام يعد عندهم خطا أحمر ليس مسموحاً بتجاوزه، وأنهم سيقاومون ذلك الانسحاب بكل السبل في إشارة ضمنية غير خافية إلى استعداد «إسرائيل» للدخول في حرب لأجل استمرار العمل بالمعاهدة!

(2)

فور توقيع معاهدة السلام في عام 79 ظل تصغير مصر وإضعافها حتى لا يصبح لها دور أو تقوم لها قيامة هدفاً «إسرائيلياً» استراتيجياً. وقد ألمحت توا إلى أن الدور الذي أرادته لها هو حماية أمن «إسرائيل»، حتى أصبحت كل الترتيبات الحاصلة في سيناء تخدم ذلك الهدف بصورة أو أخرى. فالوجود العسكري المصري هناك تقيده الاتفاقيات المعقودة مع «إسرائيل»، ومشروعات تنمية سيناء تضع في الحسبان التحفظات «الإسرائيلية». وتدمير الأنفاق وإقامة السور الفولاذي العازل مع غزة، وقواعد فتح معبر رفح تراعى فيه الشروط «الإسرائيلية» (بالمناسبة ذلك هو المعبر الوحيد في كل منافذ البلد والذي لا تمارس عليه السيادة المصرية كاملة).

من ناحية أخرى، فإن «إسرائيل» أصبحت حاضرة في المساعدات الأميركية لمصر، وهي حاضرة في مشروعات مياه النيل، ودورها في دعم وإذكاء الحركة الانفصالية في جنوب السودان لم يعد فيه سر، بل صار موثقاً في دراسات «إسرائيلية» عدة. واستراتيجية الاختراق «الإسرائيلي» لدوائر رجال السياسة والأعمال والإعلام في مصر، فضلاً عن التعاون والتفاهم المستمرين بين الأجهزة الأمنية على الجانبين صار مرصوداً من جانب الباحثين في الشأن الاستراتيجي، على المستويين الإقليمي والدولي.

الذي لا يقل أهمية عن كل ذلك تلك الانتكاسة التي أصابت منظومة المشروعات الاستراتيجية والصناعات الحربية في مصر بعد توقيع اتفاقية السلام. ذلك أن تلك المشروعات جرى تفكيكها. والمصانع الحربية تحولت إلى الإنتاج المدني، وصارت تنتج مستحضرات التجميل بدلاً من الذخيرة.

وهناك من يقول إن ذلك كان أمراً متعمداً، في حين أن ثمة رأياً آخر يرى أصحابه أن الانتكاسة كانت نتيجة لانتقال مصر من مرحلة المشروع إلى مرحلة اللامشروع، وتحولها من نصيرة لحركات التحرر الوطني، إلى حليفة للولايات المتحدة و«إسرائيل». وهو ما ثبط همم القائمين على المشروعات الاستراتيجية، وأشاع في أوساطهم درجات متفاوتة من الاسترخاء والتسيب.

مما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أن دور مصر تراجع على مختلف الجبهات في الساحة العربية، وأصبح دورها النشط نسبياً محصوراً في الحالة الفلسطينية. إن شئت فقل إن مصر لم يعد بيدها سوى البطاقة الفلسطينية، التي وظفت لصالح الضغط على الفلسطينيين بالدرجة الأولى. وهذا الضغط مشهود في موقف القاهرة من الانتخابات التشريعية التي أسفرت عن فوز حركة «حماس»، ومن محاصرة قطاع غزة وملاحقة عناصر المقاومة. وفي ورقة المصالحة التي تتمسك مصر بفرضها بما يؤدى إلى إقصاء المقاومة وإخراج «حماس» من الساحة، وزايد الإعلام المصري والموجه على هذه الحالة إلى الحد الذي دفع منابره إلى تكثيف التخويف والتعبئة المضادة للفلسطينيين. حتى أصبحت لغتها لا تختلف في مضمونها كثيراً عن الخطاب الذي تتبناه الصحافة «الإسرائيلية». بل وجدنا أن بعض المنابر الإعلامية ذات الصلة بالسلطة أصبحت تدعي أن خطر الفلسطينيين على مصر أشد من الخطر «الإسرائيلي»، وتصف المقاومة بأنها إرهاب كما تصف عناصرها بأنهم متطرفون ومخربون.

وفي الأسبوع الماضي وحده ادعت واحدة من تلك الصحف أن الذين أطلقوا الصواريخ على إيلات «خونة»، وفي مرة تالية نشرت على الصفحة الأولى مقالاً تحت عنوان يقول : «حماس» (وليس «إسرائيل» طبعاً) خطر استراتيجي على مصر ومصالحها (هكذا مرة واحدة!).

(3)

في أوائل كانون أول/ يناير من العام الماضي 2009، وقعت حادثة مثيرة وعميقة الدلالة إذ حينذاك وقعت وزيرتا الخارجية الأميركية كوندليسا رايس و«الإسرائيلية» تسيبي ليفني، اتفاقية قيل إن الهدف منها وقف تهريب السلاح إلى غزة.

وجه الإثارة في الموضوع أنه تنفيذاً لتلك الاتفاقية تقررت إقامة السور الفولاذي على الحدود بين سيناء وغزة. أما غرابة الدلالة فيها فإنها اتفاقية بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» على تنفيذ أعمال على الأرض المصرية، دون أن يكون للسلطات المصرية علم بها.

أما الأشد غرابة فإن القاهرة غضبت وانفعلت حين علمت بالأمر، ثم هدأت بعد ذلك وتم تنفيذ المشروع. وحاولت الأبواق الإعلامية الرسمية في مصر تسويقه والدفاع عنه بدعوى أنه لوقف تهريب السلاح من غزة إلى مصر، رغم أن الاتفاقية تنص على ان مبرر إقامة السور هو خشية «إسرائيل» من تهريب السلاح من مصر إلى غزة.

الواقعة كاشفة لحقيقة التلازم بين الدور الأميركي و«الإسرائيلي»، كما أنها كاشفة لحجم فاعلية الدور المصري، ويبدو أن توزيع الأدوار بهذا الشكل أصبح سمة للعلاقة بين الحليفين الأميركي و«الإسرائيلي» من ناحية، وبين مصر ودول الاعتدال العربية من ناحية ثانية. فالحليفان يقرران ويتوليان الإنتاج، أما مصر وأقرانها من دول الاعتدال فهم يتولون التنفيذ والإخراج.

ومشهد العودة إلى المفاوضات المباشرة نموذج طازج يؤيد ذلك الادعاء، فبعد أن قررت واشنطن بالاتفاق مع «تل أبيب» إجراء مفاوضات غير مباشرة بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين، وحددت لذلك مهلة أربعة أشهر، ورغم التصريحات الفلسطينية الرسمية التي شككت في جدوى تلك المفاوضات، إلا أن بنيامين نتنياهو ذهب إلى واشنطن، وقرر مع الرئيس الأميركي أن المفاوضات غير المباشرة نجحت، ومن ثم يجب الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، ووجه الرئيس أوباما خطاباً بهذا المعنى إلى «الرئيس الفلسطيني» محمود عبّاس، وتضمن الخطاب 12 إنذارا للفلسطينيين بعزلهم وقطع المساعدات عنهم إذا لم يمتثلوا للقرار.

وقامت مصر والسعودية بتوفير الغطاء للعملية من خلال لجنة المبادرة العربية، التي أعطت الضوء الأخضر لأبو مازن، وتعبيراً عن الكرم العربي فإن اللجنة لم تحدد أجلاً للمفاوضات المباشرة، حتى يستمر «الإسرائيليون» في ملاعبة الفلسطينيين واستدراجهم للثرثرة إلى ما شاء الله!

(4)

كيف يمكن لحركة وطنية أن تدعو إلى التغيير، في حين تتجاهل ذلك كله؟.. وهل يجوز مثلا لأي حركة وطنية في بلد محتل أن تتجاهل واقع الاحتلال، وتكتفي بالدعوة إلى إقامة الديموقراطية وتوفير ضمانات نزاهة الانتخابات مثلاً. إنني لست ضد هذه الطلبات واعتبرها مهمة للغاية. إلا أن الاكتفاء بها في الظروف المشار إليها يعبر عن خلل في الأولويات، كما أنه يفتح الأبواب لظنون يسيء بعضها إلى الحركة الوطنية ذاتها.

إذا قال قائل إن مصر ليست بلداً محتلاً، فإني أؤيده تماماً إذا كان يقصد الاحتلال العسكري، لكنني أحيله إلى المقال المهم الذي نشرته صحيفة «الشروق» للمستشار طارق البشري في 26 شباط/ فبراير الماضي تحت عنوان «محاولة لفهم الواقع والحاضر»، وتحدث فيه عن «احتلال الإرادة المصرية»، الذي هو أشرس من الاحتلال العسكري، إذ الأول خطر كامن يؤثر في مصائر البلد دون أن تراه، في حين أن الثاني خطر ظاهر ومكشوف يمكن التعامل معه وحده بغير عناء.

لقد تلقيت أكثر من رسالة من أناس أقدرهم وأحترمهم في بدايات تجليات الحراك الوطني الذي شهدته مصر هذا العام بوجه أخص، وكان ردي عليها جميعاً أنني أعتبر ان الموقف من قضية فلسطين ينبغي أن يكون أحد المحاور المركزية ببرنامج الحركة الوطنية، لأن التعامل النزيه مع هذه القضية يستدعي على الفور كل مقومات تحرير إرادة الوطن، الذي يفتح الباب واسعاً لتحرير المواطن بعد ذلك. من ثم فإن تجاهل القضية لا يمكن ان يكون مقبولاً بأي معيار وطني.

انني أستحضر في هذا المقام مقولة الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي في كتابه الأخير «ولدت هناك ولدت هنا»، التي ذكر فيها أن ظل فلسطين مضمر في كل مشهد مر بنا سلباً أو ايجاباً. وهو ما يدعوني إلى القول مرة أخرى إن الناشط في زماننا لا يستطيع أن يكون وطنياً حقاً، ولا عروبياً حقاً، ولا إسلامياً حقاً، إذا تخلى عن قضية فلسطين واختار منها الموقف الغلط. بل أزيد على ذلك مدعياً أن أي إنسان يصبح مطعوناً في عدالته ونزاهته، إذا تخلى عن هذه القضية وانحاز إلى الاقتلاع والاحتلال.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2177449

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2177449 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40