الجمعة 6 آذار (مارس) 2015

بين القدس والأندلس.. أكثر من صلة وأعمق من تشابه

الجمعة 6 آذار (مارس) 2015 par صالح عوض

فلتبك كالنساء ملكا لم تحفظه كالرجال.. كلمة مضت في التاريخ ملخصة تماما ما آل إليه حال الأندلس وحكامُها الهاربون الذين ضيعوها في خلافاتهم وتلهّيهم عن واجب الوحدة والنصرة لحضارتهم المستهدفة في الأندلس.. وسقط الاندلس ليكون بدايات سقوطنا الحضاري وتدحرجنا على منحنى الانحدار وصولا إلى سقوط القدس لنصل إلى قاع السقوط..

بين السقوط الأول والسقوط الثاني رحلة طويلة من الانهزامات والمقاومات والكفاح ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه والتشبث بما في اليد، إلا أن قانون الانهيار وضع في الأمة مجراه فلم يكن الصمود الا مرحلة زمنية يتلوها انهيار، وما كانت القوة الجزئية إلا محاولة من الجسد المهدود للإعلان عن أنه لا يزال ينبض بالحياة فيما الانهيار يواصل مسيرته.

منذ سقوط الاندلس، بدأت جحافل الفرنجة تغزو ديارنا مشرقا ومغربا وتجتاز الحدود كلها وتقلب صفحة التاريخ معفرة بالدماء وبالآلام وبصراخات أطفالنا ونسائنا وشيوخنا من هول ما حملته الهمجية الغربية ولاحقهم الفرنجة إلى ضفة المتوسط الجنوبية ينزعون منهم دينهم ويحتلون أرضهم ويقهرونهم في كل شيء..

لقد كان سقوط الأندلس حدثا تاريخيا خطيرا ومؤذنا بأن الأمة كلها تسير على طريق نهاية حضارتها وحضورها العالمي.. وفي سقوط الأندلس يمكن قراءة المشهد من عدة زوايا؛ من زاوية التوصيف وزاوية التحليل وزاوية المقارنة والقياس وزاوية التاريخ وفي كل حالة منهج يجتمع مع المناهج الأخرى في رسم صورة لما حدث من كارثة لاتزال غصتها في حلق كل عربي ومسلم وإنسان حر شريف في العالم..

وفي المحطة الأخيرة من عالميتنا العربية والإسلامية الأولى كان سقوط القدس.. وسقوط المسجد الأقصى بل وحرقه والحفريات تحته واقتحامه وتقسيمه زمانيا بين المسلمين واليهود ومحاولات هدمه لبناء الهيكل وفوق ذلك كله التنكيل بأهل فلسطين وانسحاب العرب من جبهات القتال جيشا بعد جيش ودخول بعضهم في هدنة وتصالح مع العدو بل تحالف يجعل من العدو صديقا ومن الأخ عدوا..

في مرحلة سقوط الأندلس لم يحصل الانهيار الأخلاقي والقيمي والمعرفي في مؤسسات الأمة وروحها كما هو حاصل في مرحلة سقوط القدس، فلقد هبّ العثمانيون يومذاك لنجدة شمال إفريقيا من الاستعمار الافرنجي وقد تمددوا لإقامة إطار سياسي واسع يشمل الأمة، وحاول محمد علي حاكم مصر إقامة دولة قويّة بجيش قوي في محاولة لتكوين إمبراطورية كبيرة.. أما في مرحلة سقوط القدس لم تعش الأمة إلا محاولات فاشلة قام بها الاشتراكيون والقوميون في مشاريع انهارت بمجرد محاولاتها مغادرة منشئها وسقطت دولهم كما سقطت جيوشهم..

في مرحلة سقوط القدس تفسخت الأقاليم وارتكست الاثنيات القومية والمذهبية.. ومع سقوط القدس هاهي عواصم عربية عديدة تسقط في يد المستعمِرين إما بشكل مدوٍ أو بطريقة ناعمة ولا أحد ينجد أحدا.. وهاهم الأعداء يتحركون بجيوشهم في عواصم عربية عديدة، وها هي بعض دول العرب تحارب بعضها الآخر، تقصف وتقتل، بل هاهم أبناء البلد الواحد يتذابحون ويمزقون الاوصال ويقطعون الارحام.. انها مرحلة سقوط القدس..

سقط القدس ولم يحفظه العرب والمسلمون كما يحفظ الرجال اعراضهم ومقدساتهم وكرامتهم.. سقط القدس والمسجد الاقصى بيد العصابات الصهيونية، القوة الاستعمارية الامامية للغزو الغربي، ولم يسقط من شهداء حواليه يوم سقط اكثر من سبعين شهيدا.. في حين سقط اكثر من سبعين الف شهيد يوم اجتاحه الفرنجة..

سقط القدس وبكاه العرب والمسلمون كما تبكي النساء العاجزات ملكا بل مقدسا اساسيا لم يحموه كالرجال.. سقط القدس معلنا نهاية عالميتنا الحضارية ومؤذنا بتشطيب ما تبقى من عناصر مقاومة عفوية ارتجالية ليختم المرحلة كلها بالهزيمة والسقوط.. سقط القدس وهو يسير الى سقوطه نهائيا.. وبين الوقتين حاول الجسد المدمى والمنهك الانتفاضة والمقاومة، ولكنها كانت ارتعاشة اشبه ما تكون بسكرات الموت.. وكلما اهتزّ الجسد جاءت انتكاسة بعده اشد إيلاما، ذلك هو قانون الانهيار المتحكم في جسد الأمة.

سقط القدس وتحولت مدينة السلام وملتقى الشرائع ورمز التعايش الانساني الى مكان تكريس العنصرية والشرور البغيضة ضد كل الاخرين الذين هم ليسوا يهودا.. ولا يمكن القول بسقوط القدس دون التذكير بأن ذلك يعني سقوط رمز حضارتنا العربية الاسلامية المتمثل في التجانس الفذ بين اتباع الشرائع وتعانق الانسان بانسانيته فكان حرق المساجد يتم في الوقت الذي تُحرق فيه الكنائس وتكون المؤامرة على اوقاف المساجد كما على اوقاف الكنائس.. بمعنى واضح ان تلغى احد اهم انجازات الحضارة العربية الاسلامية الشاهدة وهي حضور الرموز الدينية للجميع في ود ومحبة وتماسك اجتماعي متين.

سقط القدس.. وقبله سقط الاندلس.. اجل قاتل الفدائيون والاحرار والشرفاء من بيت الى بيت ومن خندق الى خندق ولكن سقط القدس وسقطت الاندلس.. اجل لقد بكى الشعراء وانتحب الادباء والعلماء بعد سقوط القدس وسقوط الاندلس، فنسي الناس الاندلس او كادوا ولم يبق في وجدانهم الا الحسرة والتألم وزيارة الاطلال هناك في قصر الحمراء ورؤية الابواب العملاقة والطرقات الجميلة والجسور والزخرفات والمباني الشاهقة.. وهل ينسى الناس القدس بعد ان صعب عليهم زيارته وبعد ان قام الصهاينة بتغيير المعالم وهدم المقابر والبيوت وتشييد عمران يغير معالم المكان وتركيب تاريخ على جغرافيا لا تحتمله؟ هل ينسى الناس القدس او ان يبقى في وجدانهم كما بقي الاندلس بعد ان غيّر العدو الاشارات والرموز والمعالم..؟

هذه هي الصلة بين السقوطين وهذه هي أوجه التشابه ولكن لن يكون سقوط الاندلس كسقوط القدس؛ فالاول مرحلة في حركة التاريخ وفي سياق صيرورته ما سيأتي بعدها يكون بالتأكيد أسوأ مما قبلها وهي بهذا لا يمكن أن يبنى عليها نحو وضع أفضل.. اما الثانية فلقد جاءت تتويجا للخيبات والانتكاسات وفشل التجارب والمشاريع والافكار.. الثانية جاءت نتيجة للضعف المستحكم والجهل المسيطر والغياب المذهل.. ان الثانية هي انهاء دورة حضارية لينفتح الباب امام دورة حضارية جديدة فهي حجر ارتكاز لتاريخ قادم..

ان سقوط غرناطة فاصلة بين مرحلتين في تاريخنا.. مرحلة السكون الحضاري ومرحلة الانهيار الحضاري.. اما سقوط القدس فهو بين مرحلتين الاولى معروفة تماما انها مرحلة الانهيار الحضاري والتي كانت خاتمة لدورتنا الحضارية، اما الاخرى فلن تكون سوى النهوض الحضاري بما أحدثته الهزة في خلخلة الابنية الفكرية والمنظومات القيمية والمعرفية، حيث أصبحت جملة الوعي بما يدور حولنا وتجاهنا اقدر ضبطا في حس الامة ونخبها وطلائعها.. وإن جملة الوعي بالذات وادراك عناصر القوة والانتصار تتجلى الآن في حسنا وادراكنا كما لم تتجلّ من قبل.. لقد تحررنا من الاوهام واصبحنا اكثر واقعية.. وان ما خلقته نكبة سقوط القدس ولازالت، يحرك في جماهير الامة وطلائعها روحا عميقة لتوحدها ويتجاوز بها المعارك الوهمية الضالة.. وهي في هذا تدرك ان القدس هو محصّلة وعينا وقوتنا ووحدتنا.

سقوط الاندلس كان بداية انهيارنا الحضاري وقد حصل وصولا الى سقوط القدس.. اما سقوط القدس فهو خاتمة دورتنا الحضارية وهو في اللحظة التاريخية نفسها بداية وعينا الحضاري وتحركنا على كل اصعدة البناء والحشد والتحرك وصولا الى استعادة القدس تاجا لانتصارات جوهرية سنحققها في اكثر من مجال.. لقد كان سقوط الاندلس سقوط شهادتنا الحضارية واما سقوط القدس فلقد كان سقوط دورتنا الحضارية كلها.. ولئن تعايشت الامة مع سقوط الاندلس وهو في الاطراف فلن تستطيع التعايش مع سقوط القدس وهو في القلب منها وعنوان وجودها.. تولانا الله برحمته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2165834

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع صالح عوض   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2165834 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010