الاثنين 2 آذار (مارس) 2015

في أفول الشرعية المعنوية للحزبية العربية

الاثنين 2 آذار (مارس) 2015 par د. عبد الاله بلقزيز

يستعصي على الباحث في الحزبية العربية، وما تعانيه من تراجع وأفول، أن يهتدي إلى تفسير شامل لهذه الظاهرة من دون أن يستدخل في منظومة عوامل التفسير، الموضوعية والذاتية، عاملاً داخلياً وذاتياً لا ينتبه إليه كثيراً، على الأقل لدى النخب - على الرغم من آثاره البالغة في الجمهور هو: الانقلاب الكبير الحاصل في منظومة القيم الحزبية، في العقود الثلاثة الأخيرة، على النحو الذي فال من صورة العمل الحزبي وهيبته، وصدقية القائمين عليه من النخب الجديدة المتعاقبة على مراكزه القيادية . وليس من شك لدينا في أن تغيرات نسق القيم الحزبية كانت في جملة أسباب أخرى تولدت منها ظاهرة العزوف عن السياسة: التي منها نشأت حالة أفول الحزبيات .
من النافل القول إن واحداً من أهمّ عوامل عنفوان الحزبية أخلاقها السياسية، والثقة التي تتولد لدى المحازبين من سيادة تلك الأخلاق، وتجسُّدها في رجال (قادة) يتحولون - بالتدريج - إلى رموز ومراجع يأتمنهم الناس على المشروع السياسي الذي يجمعهم . صحيح أن قوَّة حزبية ما من الحزبيات إنما مأتاها من جملة عوامل موضوعية وذاتية: الفكرة السياسية العليا الجامعة، المشروع السياسي - الاجتماعي المعبَّر عنه تعبيراً برنامجياً متماسكاً، البناء التنظيمي القوي والمحكم، القدرة التعبوية الناجحة، الشعور الجمعي الحزبي بانفتاح المؤسسة على الكفاءات واستيعابها إياها، المشاركة الفعلية في صناعة القرار الحزبي، الديمقراطية التنظيمية . . . إلخ، لكن الذي لا مجال للشك فيه أن موارد القوة هذه لا تكفي، وحدها، إن لم تقترن بوجود قيادة حزبية مُقنعة (لمناضليها)، وتتمتع بالشرعية السياسية والأخلاقية لدى جمهورها المباشر، وبالثقة لحمِل الأمانة الجماعية باسمه .
لا تتكون هذه الشرعية المعنوية والأخلاقية عفواً، أو حتى من لعبة الاقتراع الحزبي في المؤتمرات الداخلية، وإنما هي تتأتى من اجتماع مزايا وسمات ذات مفعولية خاصة في المجتمعات الحزبية وحياتها الداخلية . من هذه المزايا والسمات: الكفاءة القيادية، والشرعية التاريخية، والنزاهة السياسة، ونظافة الكف، والتجرد من المصالح الشخصية وخدمة المصلحة العامة الحزبية، والحكمة الإدارية، والحرص على تحقيق التوازن بين الأهواء والمواقف لصون وحدة المؤسسة . . . إلخ . ما كان مستغرباً، إذاً، أن يكون للشخصية الكاريزمية دور عظيم الشأن في تاريخ الحزبيات، بل في تاريخ الدول أيضاً . وليس من وجه صحَّة للقول إن الكاريزمية سمة تقليدية سابعة للحداثة، وللقيم العقلانية المؤسسية - على نحو ما يتأوّل كثيرون مفهوم ماكس فيبر لها - ذلك أن تجارب السياسة في بلدان الحداثة الغربية (على صعيد الدول أو على صعيد الأحزاب) تُطلعها على أن مفعول الكاريزما مازال مستمراً في تغذية السياسة وصورة رجالاتها وهيبتهم، وأن كثيراً مما يصيبها من وهن إنما مردُّه إلى تراجع الرأسمال الكاريزمي أو غيابه .
ولقد كان لقادة الأحزاب العربية، شأن غيرهم من قادة الأحزاب في العالم، سلطان كاريزمي في وجدان جمهورهم الحزبي و- أحياناً - في وجدان الجمهور الاجتماعي العام . وهو سلطان تولَّد من أدوار وطنية ونضالية نهضوا بها في أحلك الظروف، وبنت لهم سمعة في الناس: قيادة حركات التحرر الوطني أو المشاركة فيها، قيادة المعارك السياسية الداخلية ضد الاستبداد والفساد أو من أجل الحقوق الاجتماعية للكادحين والفقراء، التمسك بالمبادئ في السياسة وعدم المساومة عليها تحت أيّ ظرف، هون استقلال القرار الحزبي عن أي وصاية من قِبل السلطة الحاكمة . . . إلخ، واستمر مفعول هذا السلطان الكاريزمي نافذاً حتى عهد قريب (قبل عقدين تقريباً) . وهو إذا كان أوضح في حالة القيادات التاريخية، فلم يكن لِيقل وضوحاً في حالة الأطر القيادية من الجيل الثاني، ممن دخل معترك العمل الحزبي منذ بدايات الستينات من القرن العشرين، وعاش محنة الحزبية مع الاستبداد والمنع والقمع، قبل أن يزيحه من صدارة المشهد الحزبي تسلُّط “نخب” حزبية على المؤسسات الحزبية والقرار فيها: “نخب” قليلة الخبرة السياسية، وضعيفة الشرعية المعنوية، ومتطلعة إلى اكتساب مواقع في السلطة بأيّ ثمن، وبقدر فاضح من البراغماتية المبتذلة!
تضاءلت الشرعية المعنوية للقيادات الحزبية المعاصرة، من التيارات السياسية كافة، إلى حدود العدم، فإلى أنها لا تتمتع بالكفاءة والاقتدار (وهُما غير الفهلوة والبراغماتية الفجَّة) مقارنة بسابقاتها قبل ربع قرن أو يزيد، وإلى أن مفهومها للسياسية تدهور وانحط من معنى الرسالة المجتمعية النضالية إلى اقتناص فرص الوصول إلى مواقع في السلطة، ومن تنظيم الشعب وتثقيفه سياسياً وتنمية قطاعاته النضالية المختلفة إلى مجرّد “النضال” الانتخابي والتهافت على المقاعد التمثيلية وتقديم أسوأ المرشحين لها من ذوي المال والأعمال، لا من ذوي الكفاءة والنضال، وإلى أنها حوّلت أحزابها من مؤسسات شعبية إلى مقاولات سياسية، واستعاضت عن المناضلين بالأزلام والقواعد التصويتية، في المؤتمرات التي لا تتجاوز مساهمتها بالحياة الحزبية التصويت في المؤتمرات لانتخاب وإعادة انتخاب تلك القيادات، (إلى ذلك كله) تفتقر إلى النزاهة السياسية بسبب ارتباطاتها، عبر خيوط متعددة، بمراكز السلطة وتقديمها السُّخرة السياسية لها من أجل الحفاظ على موقعها “القيادي” . إن هذا الشرخ العميق في الرأسمال الأخلاقي والكاريزمي للعمل السياسي لا يقل تأثيراً، في اضمحلال الحزبية السياسية، عن أي عامل موضوعي نابذ .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165372

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالإله بلقزيز   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165372 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010