الأربعاء 18 شباط (فبراير) 2015

غارتان عسكرية وإعلامية

الأربعاء 18 شباط (فبراير) 2015 par فهمي هويدي

أن ترد مصر بقصف مواقع داعش في ليبيا، فهذا أمر مفهوم ومبرر. ولكن أن يجيء الرد بعد ساعات من إعلان نبأ قتلهم للعمال المصريين فتلك مسألة لها كلام آخر. ورغم أننا فهمنا أن الموضوع كان محل مناقشة اجتماع مجلس الدفاع الوطني، إلا أنني أخشى أن يكون القرار قد اتخذ في ظل الانفعال وتحت تأثير الصدمة التي انتابتنا جميعا، وقبل إنجاز الترتيبات التي تكفل توجيه ضربة قاصمة تضمن قطع دابر التنظيم في ليبيا على الأقل.
ولكي أشرح وجهة نظري في الموضوع فإنني أستدعي إلى الذاكرة قصة عملية ميونيخ التي قام بها الفلسطينيون أثناء أولمبياد عام ١٩٧٢، واستهدفت أخذ الفريق الإسرائيلي رهائن حتى يتم الإفراج عن ٢٣٦ أسيرا فلسطينيا.
وهي العملية التي لم تنجح، لكنها أسفرت عن قتل ١١ رياضيا إسرائيليا برصاص القناصة الألمان.
لن أخوض في ملابسات العملية وخلفياتها، لكن مايهمني في الأمر أنها أحدثت صدمة كبرى داخل إسرائيل، التي لم تنس جرأة الفلسطينيين التي أدت إلى قتل ذلك العدد من رياضييها. ثم إنها قامت بالرد والثأر حين استطاعت أن تحدد أسماء الذين خططوا للعملية ونفذوها، ثم قامت بتصفيتهم تباعا. وكان على حسن سلامة مسؤول المخابرات في فتح أول من استهدفتهم محاولة اغتياله بعد سنتين (عام ١٩٧٤) لكنها أخطأت الهدف. ثم نجحت في ذلك عام ١٩٧٩، بعد سبع سنوات. إذ تصيدته في بيروت وقتذاك. وكانت قد قامت بتصفية أربعة آخرين من قيادات فتح في عام ١٩٧٨، أي بعد ست سنوات من تنفيذ العملية.
لا وجه للمقارنة بين هوية الأطراف، فضلا عن أن في التفاصيل تباينات كثيرة. لكنني أردت أن أنوه إلى أن ثمة ردا يستجيب للرغبة في الثأر والانتقام. وردا آخر يضيف إليها درسا لا ينساه الطرف الآخر من حيث إنه يعجزه عن تكرار فعلته.
ولست أشك في أن الغارات التي استهدفت مواقع داعش في «درنة» في اليوم الأول «وسرت» في اليوم الثاني أوصلت رسالة الثأر والانتقام. لكنني لست واثقا من أن المسارعة إلى الغضب وفرت فرصة تحديد الجهة التي قررت إعدام المصريين أو التي قامت بالتنفيذ الذي أشك في أنه تم دون قرار من رئاستهم الموجودة في «الرقة» بسوريا، كما أنني لست متأكدا من أنه أمكن في ذلك الوقت القصير ترتيب تأمين العدد الكبير من المصريين العاملين في ليبيا (أكثر من مليون) من ردود الأفعال الانتقامية من الطرف الآخر، خصوصا أن تنظيم داعش تمدد خارج درنة وسرت، وجذب إلى صفه أعدادا من شباب القبائل المتدينين.
تلك ملاحظة أولى على الرد العسكري الذي أقدمت عليه مصر خلال اليومين التاليين للإعلان عن جريمة قتل العمال المصريين. أما ملاحظتي الثانية فهي تنصب على الرد الإعلامي الذي اتسم بدرجة أكبر من الانفعال والتحريض، الأمر الذي دفع البعض إلى الاعتداء على إحدى السيارات التي تحمل اللوحات الليبية في حي مدينة نصر بالقاهرة. رغم أن أغلب عناصر داعش هناك من غير الليبيين، وفي غمرة الانفعال فإن الأبواق الإعلامية تحدثت عن مؤامرة أمريكية تركية ممولة من قطر وراء تحريض داعش على ارتكاب جريمتها. آخرون اعتبروا كل المجموعات الإسلامية في ليبيا وكل الثوار الموجودين في الغرب وكأنهم جزء من داعش، لمجرد أنهم يعارضون مجموعة اللواء حفتر المتمركزين في الشرق والمؤيدين من قبل الحكومة المصرية. في الوقت ذاته وجدنا سيلا من الكتابات في الصحف والتحليلات التلفزيونية التي اعتبرت كل فصائل الإسلام السياسي دواعش، وتطوع أحدهم فأفتى بأن داعش صناعة مصرية بالأساس، وأن النشطاء الإسلاميين جميعا في مصر يمثلون تنويعات على فكر داعش ومشروعها.
هكذا، فإنه إذا كان الرد العسكري قد تمت مناقشته في محيط عدد محدود من القادة وكبائر المسؤولين، فإن الرد الإعلامي اتسم بالهرج والانفلات الذي شارك فيه كل من هب ودب، وطرحت خلاله مختلف التحليلات والتعليقات التي اختلط فيها المعقول باللامعقول والأخبار بالتغليط والافتراء. حدث ذلك في غيبة المعلومات وفي ظل العجز عن متابعة خرائط وتضاريس المشهد الليبي الذي تتداخل فيه الصراعات السياسية مع العوامل القبلية والنزعات العرقية.
أسوأ ما قيل كان ذلك الزعم القائل بأن الجميع دواعش، خصوصا أولئك الذين يتمركزون في الوسط والغرب الليبى. أى في المناطق التي لا تسيطر عليها قوات اللواء خليفة حفتر. ذلك أن داعش موجودة في بنغازي التي تحاول قوات حفتر السيطرة عليها. ثم إن معقلهم التقليدي الذي تم قصفه في اليوم الأول هو مدينة درنة الواقعة في الشرق أيضا. ثم إن داعش تكفر تحالف جماعة المؤتمر الوطني المسيطرين على طرابلس في الغرب وتعتبرهم مرتدين لأنهم لم يطبقوا شرع الله كما يقولون.
هذا الهرج لم يتح للمشاركين في التعبئة الإعلامية فرصة الفرز بين التيارات المختلفة في ليبيا، فوضعوا الجميع في سلة واحدة، فاستعدوهم على مصر وعبأوا المصريين ضدهم بغير مبرر. إزاء ذلك فلعلي أزعم بأن الغارة العسكرية إذا كانت بحاجة إلى بعض التأني لإحسان التدبير وإحكامه، فإن الغارة الإعلامية ظلت بحاجة إلى قدر أكبر من الرصانة والمسؤولية، لأن الأمر أكبر من أن يعالج بالخفة التي لمسناها فيما قرأناه وشاهدناه. وأرجو ألا تكون المبالغات والمزايدات الإعلامية مقصودة لإشغال الناس عن مراجعة ما جرى، والتفكير في الثغرات التي تخللته، بحيث أوصلت الأمور إلى النهاية المأساوية التي انتهت إليها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2178490

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2178490 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40