الجمعة 23 كانون الثاني (يناير) 2015

كلنا رهط

الجمعة 23 كانون الثاني (يناير) 2015 par د.احمد جميل عزم

كنت قبل أعوام باحثاً زائراً في جامعة تبعد ساعةً بالقطار عن لندن. وسمعتُ عن أستاذ من أبناء النقب في جامعة تبعد ساعات عني، وكنت سعيداً أن أذهب لأسمع منه مباشرةً عن وضع النقب. وسبق أن التقيت باحثة من هناك، وسمعتُ منها عن هدم قرية العراقيب البدوية، ومعاودة أهلها بناءها (أعتقد أنها كانت حينها المرة الأربعين للهدم، وتجاوزت الآن المرات الثمانين).
شاءت الصدف آنذاك أن يكون الباحث الزميل في زيارة إلى لندن، فاختصرت العناء والتقيته هناك. ربما بدا غريباً أن أطلب لقاءه لمجرد أن أفهم ماذا يحصل في النقب. والآن، على وقع ما يحدث في “رهط”، وجدت نفسي أعود للدفتر الذي سجلت فيه الملاحظات.
كانّ اللقاء مطولاً، والقصص كثيرة.
في العام 1948، بقي نحو 12 ألفا من أصل 90 ألف عربي كانوا في النقب. وفي العام 1952 وقعت عمليات تهجير أخرى قسرية؛ كإخلاء قبائل الصانع إلى الرهوة (جنوب الخليل)، لكنهم بقوا رافضين للتوطين الجديد. وبعد تدخل الأمم المتحدة، أعيدوا وسكنوا مرغمين “مؤقتاً” في مناطق هي تاريخياً لقبائل الجهالين. وفي العام 1959، تم تهجير جماعي لقبائل العزازمة، وكانوا قد هُجّروا سابقا، فحدث “تهجير مكرر”. وكما باقي فلسطين المحتلة العام 1948، كان أهالي النقب تحت الحكم العسكري حتى العام 1966، ممنوعين من الدخول حتى لأماكن السكن من دون تصريح. وجاء تأسيس مدينة رهط لتجميع البدو من أبناء النقب في أماكن موحدة، بهدف سلب أرضهم.
“سمّونا ما شئتم؛ نحن أهل الأرض الأصليون. ذهبنا وتحدثنا مع حكومات العالم والأمم المتحدة؛ مع الجماعات المعنية بالحفاظ على حقوق الأقليات وبالحفاظ على الإرث الإنساني. والعراقيب ليست سوى واحدة من 45 قرية مُحيت من الوجود. هي قرى موجودة وغير معترف بوجودها؛ فهي من دون خدمات، حتى كتلك المقدمة لمخيمات اللاجئين، ودوام المدارس لساعة أو ساعتين، والكهرباء مولدات طاقة، بُنى عشوائية.. هناك خطة تهجير قسري في النقب”.
كنت أشعر أثناء اللقاء، وبوضوح، بعدم توقع الكثير من المساعدة العربية رغم الحاجة إليها، وشعور بالخوف من تدخل خارجي يستغل قضاياهم بدلا من معالجتها. وهو خوفٌ أثار حيرتي حينها، وأفهمه الآن وأنا أتأمل كيف يشعر شخص يعيش كل هذه العزلة من دون أن يأتيه أحد للمساعدة، بل توجه إليه التهم أحياناً بأنّه أقل مقاومة.
في “رهط” ذاتها، قُتل الأسبوع الماضي، الشاب سامي الجعار. وقد أعلن الاحتلال أنّ ذلك تم أثناء “نشاط ضد تعاطي المخدرات”، فيما يؤكد الأهل أنّ القتل تم ضد شاب أعزل، لم يشكل أي تهديد على حياة الشرطة. رواية تذكّر جداً بقصّة الشاب خير حمدان من قرية كفر كنا في شمال فلسطين العام الماضي، الذي لولا أنه وجد فيديو يوثق حادثة القتل، لما أمكن تكذيب رواية الشرطة الإسرائيلية رسمياً بأنّه كان يشكل خطرا على حياة أفرادها. وفي الجنازة حضر الآلاف، فأطلقت الشرطة الإسرائيلية الغاز بكثافة هائلة، فاستشهد سامي زيادنة في الأربعينيات من عمره، ووالد سبعة أطفال.
الآن من أقصى شمال إلى أقصى جنوب أراضي الاحتلال الأول (1948)، مظاهرات واحتجاجات، حتى وإن بأعداد ليست غفيرة، ولكن بشعارات لافتة. الطلبة العرب في الجامعات والمعاهد يتحركون، يحملون العلم الفلسطيني، ويغنون للثورة وأطفال الحجارة بكل وضوح، ويعدون “يا شهيد يا ابن عمي...” بأن يسمع العالم “أن الدّم العربي مش رخيص”. أمّا في “رهط”، فعدا عن أسلوب التشبيك عبر “فيسبوك” باستخدام عبارات مثل “كلنا جعارات وكلنا زيادنة”، مع فرق أنّ الشبكة مع أبناء النقب والفلسطينيين وعرب هي في كل العالم.
في النقب، عدا مشاهد الانتفاضة، صارت هناك فرقة غنائية اسمها “الفجر”، تغني “قتلوا الحلم اللي بعينينا.. وبرصاصة غدر وغدّار استشهد سامي الجعار.. قامت ثورة في رهط الحرة وانتفض الشعب الجبّار.. دفنا سامي وودّعنا.. الله يرحم شهدانا ابن الزيادنة والجعّار.. دمك غالي والله يا شهيد يا ابن الكرام”.
إذن، صار هناك حراكات، وشبكة تواصل اجتماعي، وأعلام ترفع، وأغانٍ وطنية؛ شيء يتكامل، ونتيجة عكسية لمخطط تفريغ الأرض وتجميع البدو معاً الذي ينفذه الإسرائيليون.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 58 / 2165868

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165868 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010