الأحد 8 آب (أغسطس) 2010

أبو فرج

الأحد 8 آب (أغسطس) 2010 par عبداللطيف مهنا

قديماً، عرف العالم، بكل أممه ومجتمعاته، أنواعاً مختلفة من الرق وأصنافاً شتى من العبودية، ولعل هذا منذ أن كان. ومع تطور الأزمنة واختلاف الأمكنة وتعدد الثقافات والحضارات، اختلفت المقاربات لأساليبه وأشكاله. وفي مرحلة متأخرة هي أقرب عصورنا إلينا بدا وكأنما عالمنا قد تخلى أو كاد عن ممارساته للأشكال التقليدية المعروفة للرق أو أجمع على تحريمها. بمعنى أنه جنح إلى الكف عن ممارسة الاستعباد المباشر للبشر القائم على التمييز المستند إلى اختلاف العرق واللون، ومن أشهره استعباد البيض للسود، والاتجار بهم في سوق النخاسة. حيث كانت للقارة الإفريقية، أو الأفارقة السود تحديداً النصيب الأكبر والأكثر بشاعة من هذا الاسترقاق.

بيد أن أشكالاً جديدة قد نابت عن تلك القديمة وحلت محلها أو أعقبت هذا التخلي الشكلي، يستعبد فيها الأقوياء المستضعفين، ومن بينها كانت الممارسات الاستعبادية الاستعمارية الأوروبية، التي توسعت أساليب استعبادها لأمم وشعوب بأكملها تعددت ألوانها وأمكنتها، حيث أعطى المستعمرون لأنفسهم، ليس استغلال من يستعمرونهم فحسب، بل حتى حق إبادتهم ومحوهم من الوجود، وهذا ما فعلوه للسكان الأصليين، وعللوا مثل هذا الحق في مختلف القارات التي اكتشفوها والبلاد التي استعمروها بالنظريات العنصرية المعروفة، التي تستند على زعم التفوق العرقي أو الحضاري ومبررات فشل عملية تحضير هؤلاء المتوحشين.

هناك الكثير من الأمثلة ومما يمكن قوله في هذا أكثر، وبعض الإحصائيات تقول بموت أكثر من عشرين مليوناً من الأفارقة المستعبدين وهم ينقلون بالسفن عبر الأطلسي لبيعهم كرقيق عامل في مزارع السادة الأوروبيين فيما عُرف بالعالم الجديد، لكنما لابد من الإشارة إلى أنه يعد من أشد أنواع الاسترقاق والاستعباد التقليدية القديمة قسوةً ووحشية ما عرف عن الرومان، الذين كانوا يتسلون بمشاهد الوحوش وهي تنهش أجساد العبيد في حلقات المصارعة بين المنكودين، الإنسان المستعبد والحيوان المأسور للترفيه عن السادة المالكين لهما.

وربما مثله ما عرفه الأفارقة السود أنفسهم وهم يتعاملون مع عبيدهم أو المهزومين من القبائل المعادية، حيث لا يكتفي المنصورون باستعبادهم ومصادرة أطفالهم بل والتلذذ بأكلهم، وربما عادة خطف المتمردين الأفارقة في زمننا هذا للأطفال وتحويلهم إلى مقاتلين مرغمين يعملون لصالحهم في مناطق التوتر الإفريقية هو امتداد لتلك العادات القديمة.

العرب كسواهم من أمم الأرض عرفوا قديماً مثل هذه العادة اللا إنسانية، لكنما ربما كانوا هم من الأرحم في ممارستها، وهم الذين عرفوا بأنهم كانوا الفاتحين الأرحم في التاريخ البشري، وكان الإسلام أول من دفع باتجاه منع الاستعباد والحض على تحرير الرق، ومسألة «فك رقبة» الواردة في النص القرآني معروفة، ومن بين من حُرروا من الاسترقاق كان نفر من كبار الصحابة المعروفين والذين منهم من قاد الجيوش الفاتحة، ومنهم من تركوا من بعدهم مآثرهم الباقية في الأجيال اللاحقة حتى قيام الساعة.

وحتى عقود متأخرة، كان بقايا مظاهر الرق القديم توجد ذيولها، بشكل أو بآخر، في بعض مناطق العالم العربي، ومؤخراً سمعنا بمزاعم عن بعضها حتى في هذه الأيام. في جنوب فلسطين لاسيما منطقة النقب عرفت القبائل ذات الأصول البدوية الكبرى الخمس اقتناء الرقيق الأسود، الذي كان يعمل في الرعي والمساهمة في الحروب القبلية التي كانت تندلع بين هذه القبائل أو ما يجاورها، كان هذا حتى أواخر العهد العثماني.

ومع الزمن انتهى الرق وبقي أحفاد العبيد باعتبارهم جزءاً من العشيرة، لكن مع الحفاظ على الفارق المعنوي والاجتماعي بين من كان السيد ومن كان العبد.

كان أبو فرج هو آخر عبيد العائلة الباقي على قيد الحياة، والذي قيد لي رؤيته في طفولتي. كان عجوزاً عملاقاً بلغ من العمر عتياً، يحظى بمعاملة خاصة لسنه، وربما باعتباره تحفة حية في نظر العائلة ترمز إلى تلك الأيام الخوالي، كان يعيش بعيداً مع أسرة شقيقة لأمه الذي كان من موالي عشيرة أخرى، لكنه يقوم بإطلالات منتظمة يزور فيها مضافات العائلة، يعود بعدها وقد حظي بالعطايا التي أصبحت تقليداً أو حقاً دارجاً له على من كانوا أسياده، وأذكر أنه عندما وافته المنية أوصى بأن يدفن في مقبرة العائلة وكان له ما راد.

كان الذي يحيرني وأنا في بدايات عقدي الثاني من العمر أن أبا فرج عندما يأتي ويتصادف أن التقيه وأسلم عليه يصرّ على تقبيل يدي، وكان هذا من غير المفهوم ولا المقبول بالنسبة لي آنذاك، لأنهم علمونا في ذلك الحين أن الصغير هو من عليه أن يقبّل يد الكبار من ذويه من والدين وأعمام وأخوال احتراماً. ذات مرة شكوت الأمر إلى والدي، الذي ابتسم، وقال لي عبارة لازلت أذكرها: يا بني «لا تتعب نفسك، هذا لحق عصر الطاعة»، بمعنى أنه في عمره الذي بلغه لن يكف عن عادة قديمة أصبحت في دمه بعد أن كان قد نشأ عليها.

كان هذا في أوساط الستينيات، إبان المرحلة الناصرية التي تضج بروح التحرر ومواجهة الاستعمار، وكنا في المدارس نتلقى دروساً تنسجم مع روح تلك المرحلة الضاجة بالآمال والأحلام التحررية النبيلة. وذات يوم كانوا يشرحون لنا كيف يواجه المناضلون الأفارقة في الكونغو مستعمريهم البلجيك بقيادة زعيمهم لومومبا. وكنا ونحن نستمع لمعلمينا من الحماسة بحيث بدأنا نحلم بأننا نقفز مع القرود في أدغال القارة السوداء، نلاحق المستعمرين ونطردهم من ربوعها المستعمرة.

وعدت من المدرسة لا تفارقني حماستي تلك، وتصادف أن مررت بالمضافة حيث كان أبو فرج في إحدى زياراته يقعي إلى جانب دلال القهوة، التي كانت من طقوس تلك الأيام، حاول العجوز النهوض لتحيتي فعاجلته مسلماً، وجلست إلى جانبه وأنا أعيش حلمي الافريقي. بادرني كالعادة، «إيش الأخبار يا حبّاب؟»، و«حبّاب» هذه كانت بمعنى يا سيدي في موروث أبو فرج. شعرت بأن اللحظة المناسبة لإبهاج أبو الفرج قد حانت وأسعدني أن انتهزها، وبذات الحماسة التي عدت بها من المدرسة، لخصّت له الأخبار التي سمعتها، مبشّراً إياه بأن الأفارقة السود المستعبدين قد ثاروا على المستعمرين البيض وطردوهم من الكنغو وتحرروا من مستعمريهم، وحين فرغت صمتُ منتظراً ردة فعله على ما نقلت، متوقعاً بالطبع بأنه، وهو الأسود، سوف يكون الأكثر سعادة من سواه بما بشرته به للتو...

فاجأني تعقيب أبو فرج، الذي لازلت أذكره نصاً وباللهجة المحلية، وكان كالتالي: «لعن الله أبوهم... بيثوروا على أسيادهم؟!»...

العصور الحديثة، اتسعت وتطورت وتموّهت مظاهر الرق وتلاوين العبودية، بل تعولمت، وحتى اتسمت فلسفاتها بالحداثة أيضاً. ولعل أخطرها كان الاستلاب الثقافي والحضاري والإحساس بالدونية لدى شعوب وأمم ابتليت بالاستعمار وخضعت للهيمنة. ومنها من افتقدت هويتها وثقافتها وحتى لغتها، و منها انخرطت في محاولاتها التماهي مع المستعمر كلياً، كما هو الحال في العالم الجديد وافريقيا، وبعض المحيط الهادي، ومنها أخرى حاولت التكيّف مع السيد الأوروبي والإفادة من التبعية له اقتصادياً كما هو الحال في بعض أطراف آسيا وسواها. وبعضها وجدت النجاة في تقليد المهيمن ومحاولة استرضائه واتقاء شروره.

وفي هذه الأيام، وأنا أتأمل في أحوال أمتنا العربية التي لا تسر وهي تواجه جبهة أعداء خارجية وداخلية ولا أوسع، وغزواً ثقافياً واقتصادياً يستهدف ثرواتها وهويتها وإرادتها... فأنا لا أخشى مصيراً لها مشابهاً لمصائر تلك الشعوب، فلنا تاريخ وقيم ومواريث حضارية وثقافية ومعنوية وكفاحية من شأنها أن تحول بيننا وتلك المصائر التي سيق لها سوانا مكرهاً أو راغباً ... لكنما، لا يسعني وأنا أتابع مآثر استلاب ما يطلق عليهم الليبراليون الجدد من مثقفي الأمة تحديداً إلا أن أتذكر المرحوم أبو فرج الذي مات ولم يبرح «عصر الطاعة»!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2165364

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165364 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010