الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015

الهوامش الشخصية في مصير الدول

الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015 par نسيم الخوري

بدو معظم الكتاب والمعلّقين العرب في ميادين السياسة العربية رسميين جديين في حبرهم ونصوصهم المشدودة، متجهمين في صورهم، تعتريهم الكآبة والهموم ويسكنهم الضيق، بينما نرى زملاءهم الغربيين أكثر ارتياحاً ومتصالحين مع أجسادهم ونصوصهم المرتاحة المباشرة وكأنها تلبس “الجينز” . تلك ظاهرة طبيعية يمكن أن نعزوها لفروقات بين الغرب والشرق ما زالت ماثلة في السلوك البشري وتطبع الشخصيات كما الحبر والتعبير، لكنها فروقات بدت لي أكثر بروزاً في السنوات الأربع لبؤس الثورات العربية، نتركها صالحة لعنوان أطروحة جامعية . ما يلفتني كثيراً في تلك المفارقات ما يمكن تسميته ب"الهوامش الشخصية في القرارات السياسية والقومية لدى الزعماء والقادة ورؤساء الأحزاب العرب . تأخذ هذه الهوامش الطريفة جوانب واهتماماً واسعاً من الكتّاب السياسين الغربيين سواء في نصوصهم أو في كتبهم التي غالباً ما تحفل بالأسرار والمعلومات والخصوصيات وبسلاسة في إدراج من دون تردد، بما يجعل النصوص ضاحكة أدبية أقرب إلى الأذهان والقرّاء، بينما تكاد تختنق النصوص العربية بالقضايا والمصطلحات القومية والنهضوية والوحدوية وما شابه من مناخ لا يعكس الواقع .
ماذا نعني بالهوامش الشخصية؟ إنّ أفضل جواب هم مقاربة مثالين متشابهين تقاتلاً وتخاصماً وهما يخطوان نحو الحوار في لبنان، وتوسّع هامش كلّ منهما الى درجةٍ تكاد تهدّد بعبدا بالفراغ الطويل .
مثال أوّل: بلغ العماد ميشال عون الذروة في ممارساته وقوته السياسية وربّما العسكرية والوطنية عندما حوّل قصر بعبدا الرئاسي إلى “قصر الشعب” وتحوّل الجنرال إلى دولة الرئيس . وعلى الرغم من طموحه للرئاسة ونفيه 15 سنة إلى فرنسا واعتباره معادلاً لشرف فرنسا على ما قال الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران يومذاك، ثمّ عودته من منفاه، وتمكّنه من أن يصبح رئيس أكبر كتلة برلمانية مسيحية تخوله أن يكون رئيساً للجمهورية، فإنّ في الأمر هامشاً مهماً جداً، يقول إنّ الرجل صاحب حق الأولوية الذي يجعله في الواقع أكبر بكثيرٍ من موقع رئيس الجمهورية، لكنّك لو كنت مكانه لأمكنك ربّما أن تفهم معنى أن يظهر مسكوناً لا بعقدة كرسي بعبدا التي تخبو وتستغرق في الفراغ والانتظار والحواجز الهائلة التي تنتظره في ممارسة السلطة بعجزه عن نسيان كيف خرق الطيران السوري الحربي الأجواء اللبنانية، وكسّر لا كرسي بعبدا من تحته وحسب، بل كسّر قصر بعبدا من فوق رأس لبنان واللبنانيين إلى أمور لا نفع من استعادتها . يمكن التذكير أن صورةً للرئيس حافظ الأسد وجدت فوق مكتبه آنذاك، ويمكن التذكير أن كلمةً قاسية أو ناقصة أو زلّة لسان من العماد عون في الرئيس الأسد، كانت السبب أو “القشّة التي قصمت ظهر البعير” كما يقول المثل العربي . ليست هي السبب الوحيد، بل السبب الوجيه الذي يجعله ولو ملك الدنيا صاحب حق في استعادة كرامته وعودته إلى القصر الذي منه خرج مقهوراً خائباً لم ينم منذ ذلك ال13 تشرين .
مثال ثان: زجّ الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية في سجنٍ خاص في وزارة الدفاع لفترةٍ طويلة دامت 11 عاماً في زنزانة صغيرة . وبعد خروجه استعاد قوته واستعاد الكثير من مؤسسات القوات ووسائلها الإعلامية وركّز علاقاته المحلية والإقليمية وكان من الطبيعي أن يتطلّع في استعادة كرامته إلى المنصب الأول في الجمهورية، إلى الحد الذي دفعه أن يهمس في أذن أحد حراسه بأنّه سيصبح يوماً رئيساً لجمهورية لبنان . وعندما أعلن ترشحه رسمياً لرئاسة الجمهورية، كان قد أنجز وبإشرافه الدقيق ببناء سجن مماثل أو نسخة طبق الأصل عن السجن الذي كان فيه وذلك قرب مقرّه في معراب ثمّ أزاح الستار عنه وعن بعض ما عاناه فيه ليعلن للعالم في ما بعد أنّه المرشح الجدي لرئاسة الجمهورية .
وفي الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية بعد خروج الرئيس ميشال سليمان بانتهاء ولايته، وكانت تبثّ مباشرة من على الشاشات ويتابعها قائد القوات والعالم، كان يمكن لأي كان أن يلاحظ الإبتسامة الرضية الواسعة على صفحة سمير جعجع ويسجّلها ما إن لفظ اسمه للمرّة الأولى عند تعداد خيارات النواب المقترعين . إنّك لو كنت مكانه وحاملاً لتجربته فإنك لربما تتصرّف مثله .
مثال ثالث: الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أصابه الأرق عشر سنوات ولم يخلد إلى النوم إلا بعد أن أزالت قواته الرقمية الرسم الفسيفسائي الذي كان يمثّل صورة والده الرئيس الأسبق جورج بوش، والذي أمر صدّام حسين آنذاك بإقامته أمام مدخل فندق الرشيد أشهر فنادق العاصمة بغداد بعد حرب “عاصفة الصحراء” “1991” كان النزلاء يدوسون فوق الرسم وكان الرئيس الأمريكي وكأنّه يسمع صوت المرارة الشخصية والعائلية لا وقع الأقدام فوقها وحسب، حتى إن مفتشي أسلحة الدمار الشامل في العراق كانوا يرفضون السير فوق رسم الرئيس الأمريكي إلاّ بعد السجاد وكانت الأوامر تنزلهم في الفندق عينه . كلّف الرئيس الأمريكي نائب رئيس مجلس للوزراء اللبناني بالذهاب إلى الرئيس صدام حسين والطلب إليه بإزالة اللوحة لكن دون نتيجة . سقطت بغداد بالنسبة للعالم كلّه مع إسقاط تمثال صدام حسين الساعة 17 من 9 إبريل/نيسان ،2003 لكنها لم تسقط بالنسبة للرئيس إلا بعدما اتصل به ضابط مكلّف شخصياً تنفيذ مهمّة إزالة لوحة الفسيفساء، فأمره بنشرها بواسطة الأقمار الاصطناعية على العالم وفيها تظهر صورة لجنود أمريكيين أمام فندق الرشيد وقد أزيلت معالم لوحة الرئيس الأب كلياً وبقي عنقه وكتفاه وانتظر الرئيس الأمريكي حتى 11 إبريل/نيسان لإعلان السقوط الرسمي لبغداد في مؤتمره الصحفي . وتعرض فندق الرشيد بعدها للنهب . وبصرف النظر، أخيراً، عن الأسباب المحلية والإقليمية والدولية والمخططات التي كانت دمّرت سوريا، فإنّ في زلّة اللسان السوري أو الكلمة الجارحة التي أطلقت بعد قمّة عربية، يقوم هامش أو سبب شخصي حوّل بلده ساحات تجارب للسلاح والحروب والإرهاب والمذابح والخرائب العربية والإسلامية المنتشرة، ووضع العالم والمسألة السورية في محورية جامدة ومعقّدة هي إسقاط الرئيس السوري .
قد لا تنتهي الأمثلة والتجارب المريرة التي كابدتها وتكابدها الشعوب تبعاً للهوامش الشخصية في الصراع، وقد تتباين الأمثلة في ردود أفعال أصحابها بين من يذهب الى السكينة والنسيان واحتقار السلطة أو بين من يكابر ويجتهد لإعادة اعتباره وتحصيل كرامته، تحرّكه الكثير من الظروف والمعطيات، لكنّ الشخصي يبقى حيّاً في الأحلام وأحلام اليقظة والتحدي لتتحقق الذات في ذوي الوهج إذ ما يتحقّق .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2180780

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع نسيم الخوري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2180780 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40