الأحد 18 كانون الثاني (يناير) 2015

عولمة الإرهاب ومحاربته كصيرورة

الأحد 18 كانون الثاني (يناير) 2015 par علي جرادات

“عولمة” الإرهاب التكفيري ليست جديدة، ولا بدأت بالهجوم الذي وقع مؤخراً في باريس وأزهق حياة 17 مواطناً فرنسياً، بل أسس لها في ثمانينات القرن الماضي إقدام الولايات المتحدة وبعضٌ من حلفائها الدوليين والإقليميين على دعم تنظيم “القاعدة” في أفغانستان في مواجهة الاتحاد السوفييتي آنذاك . وبالمثل ليست جديدة الدعوة إلى تكاتف دول العالم لمواجهة الإرهاب، ولا بدأت بالإدانة العالمية الواسعة للهجوم على فرنسا والتظاهرة التي شهدتها باريس وشارك فيها ملايين المواطنين الفرنسيين وعشرات من قادة دول العالم، بل بتشكيل الولايات المتحدة “التحالف الدولي” ل“محاربة الإرهاب” بعد الهجوم عليها في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 . ما يعني أن ما يقال عن جديد الهجوم على فرنسا ليس جديداً طالما أنه يتمثل في عودة الإرهاب التكفيري للضرب خارج دوائر تركيزه الأساسية، (الإقليمية والعربية، وسوريا والعراق بالذات)، ما يعني أن هذا الهجوم كان يمكن أن يقع في دولة أخرى، بل ويمكن أن يقع مثله مستقبلاً في أي دولة من دول العالم، “الغربية” منها بالذات، وبصورة يصعب التنبؤ بوحشيتها وعدد ضحاياها . وهو ما يفسر ما أثاره هذا الهجوم من إدانة عالمية واسعة، إنما مع استمرار اغراض أطرافها على حالها من التباين لدرجة التناقض بين دول وشعوب، أكثرها عربية، تعاني ويلات هذا النمط من الإرهاب .
وأثبت الهجوم على باريس مرة أخرى صوابية دعواتها إلى بناء استراتيجية عالمية جادة وشاملة لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه، ودول تقودها الولايات المتحدة، ما زالت حكوماتها، وليست شعوبها، تميز بين إرهاب وإرهاب، وبين ضحايا وضحايا، ودول، في مقدمتها تركيا بقيادة أردوغان، تدعم وتسهل حركة تنظيمات الإرهاب سراً في سوريا والعراق وليبيا، وتدينها علناً، بعقلية المذنب المنافق المرتجف، خاصة عندما تضرب داخل بلدان حلفائها “الغربيين”، وصولاً إلى “إسرائيل”، (“دولة” آخر احتلال وأبشعه في العالم)، التي ركبت بقيادة نتنياهو موجة الهجوم على باريس، واستخدمت اشتمال ضحاياه على أربع مواطنين فرنسيين يهود، لابتزاز فرنسا وبقية دول أوروبا والعالم عبر إحياء أسطوانة “الضحية الدائمة”، ولتبرير ما ترتكبه منذ إنشائها من أشكال إرهاب الدولة المنظم عبر مساواة الهجوم البربري على باريس بالنضال الوطني التحرري الدفاعي المشروع للشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، بل ولإخافة مواطني فرنسا وأوروبا من اليهود، بغرض جلب المزيد منهم إلى “إسرائيل” لبناء “دولة اليهود الخالصة”، كأن ذلك ممكن واقعياً وليس مجرد وهم أيديولوجي، بما يقتضيه من إطالة للصراع وتحويله إلى صراع ديني هيهات أن ينتهي أو أن يُسوى على أساس قرارات الشرعية الدولية، أو كأنه، ليس على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والتاريخية المكفول أدناها في هذه القرارات، أو كأنه، وهنا الأهم، يختلف، من حيث المبدأ والنوع، عن هدف تنظيمات الإرهاب التكفيري في بناء “إمارات” “خالصة الطائفة والمذهب”، ما يعني أننا في الحالتيْن أمام محاولات يائسة لإعادة البشرية إلى مربع ما قبل نشوء المواطنة المتساوية في الدولة الديمقراطية العلمانية الحديثة ذات السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتنوعة .
على أية حال، استغلال واستخدام دماء ضحايا الهجوم الإرهابي على فرنسا، ليس جديداً، ولا مستغرباً، فقد سبق للعالم أن شهد مثله بعد الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 على يد تنظيم “القاعدة” الإرهابي ذاته الذي نفذ الهجوم على باريس، وأسهمت الولايات المتحدة في مده بالمال والسلاح بمساعدة حلفاء دوليين وإقليميين في ثمانينيات القرن الماضي، لتعود وتستخدم انقلابه عليها ذريعة لغزو أفغانستان وتدميرها واحتلال العراق وتدميره دولة وجيشاً ومقدرات ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً، ولتثبيت وتعزيز سيطرتها المنفردة بالمعنى الشامل للكلمة على العالم، وزيادة حصتها، (وهي الأكبر على أية حال)، من عائدات الاقتصاد العالمي، فضلاً عن الحفاظ على وتعزيز تفوق حليفها “إسرائيل” في المنطقة . وهو ما أورث بعض دول المنطقة، والعربية منها بالذات، الدمار بأنواعه، وإشاعة الفتن بأشكالها داخل نسيجها الوطني والمجتمعي، وإزهاق حياة مئات الآلاف، إن لم يكن أكثر، من مواطنيها الأبرياء، فضلاً عن تقوية تنظيم القاعدة الإرهابي وانتشاره وتفريخ عدد كبير آخر من التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي، على اختلاف مسمياتها، تتبنى رؤية تنظيم القاعدة وأهدافه ووسائله ذاتها، وصولاً إلى ولادة تنظيم “داعش” في العراق وامتداده إلى دول عربية وغير عربية، حتى صار صاحب ما يسمى زوراً ب“الدولة الإسلامية” في شمال العراق وشرق سوريا، التي باتت تملك من الإمكانات أكثر مما يملكه بعض دول المنطقة والعالم، بينما أصبح القضاء عليها، وفق “الخطة الأمريكية”، بحاجة إلى تحالف دولي واسع يحتاج إلى سنوات لإنجاز هدفه، بل إلى عقود حسب تصريحات كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين الأمريكيين .
لكن في الحالات كافة، وتأسيساً على، وليس في مواجهة، الإدانة الرسمية العالمية الواسعة والشعبية الجارفة للهجوم على باريس، يجدر التشديد على أن هذه الإدانة، على أهميتها، لن تلد استراتيجية عالمية موحدة شاملة وجادة تحارب الإرهاب، بالفعل قبل القول، وأياً كانت جنسية مرتكبي الهجوم وضحاياه، بوصفه عملاً وحشياً بربرياً موصوفاً، إلا بالتخلص من اختلال السياسة العنصرية التي لا تميز بين إرهاب وإرهاب، بل وبين “هويات” ضحاياه حتى صار قتل عدد من الأشخاص جريمة لا تُغتفر، بينما قتل مئات الآلاف، بل الملايين، من البشر مسألة فيها نظر . وهذا اختلال لا يمكن تفسير أسبابه تفسيراً شاملاً وشافياً إلا بالعودة لبدايات ولادته المتمثلة في أنه لئن كانت فضيلة صراع “القطبين” الأمريكي والسوفييتي في حقبة “الحرب الباردة” أنه ظل صراعاً بين مضامين فكرية سياسية اجتماعية، فإن من أشد شرور فوز الولايات المتحدة بهذه الحرب هو أن الإدارات الأمريكية والحكومات الأوروبية عوض أن تستفيد من هزيمة منافسها الفكري السياسي الاجتماعي، وتُبرز ب“القوة الناعمة” ما تعتقد أنه الأفضل للبشرية، (نموذجها الرأسمالي)، خلقت عدواً وهمياً تحت مسمى “صدام الحضارات”، ما أفضى إلى تقسيم العالم على أساس “هوياتي” بين “إسلامي” مقابل “مسيحي”، أو “شرقي” مقابل “غربي”، بل واستخدمت ما توالد بفضل سياستها وسياسات اجتماعية داخلية في أحشاء هذا العدو المفتعل، من تنظيمات تكفيرية إرهابية، تدعمها حين تخدم مصالحها، وتدعو إلى تشكيل تحالفات لمحاربتها حين تضرب الأبرياء من مواطنيها . تلك هي الصيرورة الواقعية ل“عولمة” الإرهاب التكفيري ومحاربته .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165325

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي جرادات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165325 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010