الجمعة 16 كانون الثاني (يناير) 2015

سـبل المواجهـة القانونيـة والثـورية للتنسـيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني

الجمعة 16 كانون الثاني (يناير) 2015 par د. ربحي حلوم

تتأسس الدولة- أية دولة - على دعائم ثلاث ، هي : الأرض و الشعب و السلطة . فلا ســلطة بلا شعب ، ولا شــعب بلا أرض ، ولا أرض بلا جغرافيــا وتاريـــخ.ولكل دولة في العالم قوانينها الناظمة لحياة مجتمعاتها وشعوبها ودستورها الذي يحدد طبيعة نظامها ويعكس حضارتها المجتمعية وخارطتها الوطنية ولونها السياسي ويجسد هوية شعبها ويصون استقلالها وكرامتها وسيادتها ، ويؤطر علاقتها ببقية الدول في العالم وفقاً لمعايير السيادة وعدم الاعتداء والاحترام المتبادل، ويميز في تلك العلاقة بين قواعد الصداقة والعداء بما يتواءم وتاريخها ومصالح شعبها واحترام حقوقها وسيادتها ووحدتها الجغرافية والديمغرافية على أرضها.وتحتفظ كل دولة في العالم بحقها في تحديد علاقتها مع الدول الأخرى بما يجسد هذه القواعد ويصونها ،
وتتفاوت العلاقات بين مختلف الدول وفقاً لاحترام هذه المعايير .
والأرض –أيّة أرض في المعمورة - تتوزعها نُظمٌ تحكمها علاقـات مبنيٌّ بعضها على هذه المعايير التي يفرضها توازن القوى أو تأرجحها، ويتفاوت بعضها الآخر بين المصالح المشتركة أو الانصياع للتبعية التي تفرضها حالة اختلال القوى ، أو العداء الدائم والصراع القائم على العدوان والاغتصاب والاحتلال والإلغاء بالقهر والغطرسة وحروب الإبادة والقوة العسكرية وحال انعدام الحيلة.
وفي حالتنا الفلسطينة ، التي تخرج فيها الوقائع المريرة على الأرض عن كل القواعد والمعايير المألوفة ، فلا الاحتلال الصهيوني القائم على العدوان والاغتصاب والاحتلال والإلغاء بالقهر والغطرسة وحروب الإبادة والقوة العسكرية- يشكل دولةً ذات جذور وجغرافيا وتاريخ على الرغم من الاعتراف الدولي به؛ ولا السلطة الفلسطينية المشكلة بموجب مرسوم صادر عن قوة الاحتلال تلك ، تشكل دولة ذات سيادة أو سلطة ذات صفة تمثيلية حقيقية لشعبنا الواقع تحت الاحتلال حتى تندرج العلاقات بينهما في إطار تحكمه المعايير الموضوعية التي تبيح فيه لشيء اسمه “التنسيق الأمني” مع احتلال همجي يقف أمامه العالم مذهولاً متفرجاً على غطرسته ووحشيته وتغوُّله كآخر احتلال استعماري استيطاني همجي في التاريخ المعاصر، وهو يرى نفراً من المرتدين المنتفعين المنسلخين عن شعبهم ينخرطون معه في تنسيق أمني مهينٍ ، خروجاً على كل المعايير الوطنية والأخلاقية والدينية، وهو أمر لم يكن له سابقة في تاريخ الثورات المعاصرة التي لم تشهد قط مثل هذه الظاهرة القهرية المريبـــة.
بل على العكس من ذلك ، فإن الكثير من حالات الصراع بين الدول المتكافئة لم تشهد مثل هذا الخروج على المألوف ، وهناك أمثلة حية ماثلة في تاريخنا المعاصر خلت من مثل هكذا لطخة عار،يجسدها الحال بين الأرجنتين (الدولة المالكة لجزر الفوكلاند) وبريطانيا( المحتلة لها) ؛ وكذلك بين الجزائر الدولة المستقلة ذات السيادة (التي كانت محتلة ومستعمرة) وبين فرنسا الدولة التي كانت تحتلها وتعتبرها أرضاً فرنسية قبل الاستقلال ، وكذلك إندونيسيا الدولة المستقلة ذات السيادة (التي كانت محتلة ومستعمرة)وبين البرتغال الدولة المحتلة لها والتي كانت تحتلها وتعتبرها أرضاً برتغالية قبل الاستقلال.
ورغم ذلك لم يسبق لأي من الجزائر أو الأرجنتين أو إندونيسيا ولا حتى الفيتنام بعد هذه وتلك، أن مارست حداً أدنى من أي شكل من أشكال التنسيق الأمني مع كل تلك الاحتلالات، ولا حتى في مراحل المفاوضات التي كانت لا تخرج قيد أنملة عن الطابع السياسي ذي السمة النضالية التحررية والاستقلالية المطلقة . إضافة إلى أنه لا الجزائر اقتطعت شبراً من أرضها لفرنسا الغاصبة، ولا الأرجنتين تنازلت حتى الساعة عن شبر من الفولكلاند لبريطانيا المستعمِرة، ولا اندونيسيا تخلت عن إي من الثلاثة آلاف جزيرة تابعة لها في للبرتغال ، ولا الفيتنام تخلت عن شبر من أرضها للرامبو الأمريكي تحت أقسى الظروف.
وعوْداً إلى الجانبين الذين يمارسان هذه الظاهرة في حالتنا الراهنة ، لا يحتاج الأمر إلى كثير من العناء حتى يتبين لنا كما أسلفنا “أنه لا الاحتلال الصهيوني يشكل دولة حضارية ذات جذور وجغرافيا وتاريخ -على الرغم من الاعتراف الدولي به-؛ ولا السلطة الفلسطينية القائمة تملك هي الأخرى شرعية الحكم التي تمكنه من تشكيل دولتها ذات السيادة أو سلطتها ذات الصفة التمثيلية الحقيقية لشعبنا الواقع تحت الاحتلال حتى تندرج العلاقات بينهما في إطار تحكمه المعايير الموضوعية أو تبيح فيه لشيء اسمه”التنسيق الأمني" الموضوعي أو المتوازن.
وبالتالي فإن كلا الجانبين الذين التقيا حول هذه الظاهرة الخطيرة يفتقدان للأهلية التي تمكنهما من مثل هذا الإجراء غير المألوف، ومن هنا يفتقد هذا التنسيق أية قاعدة يتأسس عليها انطلاقاً من القاعدة الفقهية التي تقول: “كل ما بني على باطل فهو باطل”...وكل باطل إلى زوال.
ومن ناحية أخرى فإن ظاهرة التنسيق الأمني بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني تعتبر واحدةً من أخطر الوسائل التي ألحقت وما زالت تلحق أكبر الأضرار بالشعب الفلسطيني وبقضيته النضالية وتشغل بال الفلسطينيين،وتستهدف أولاً وأخيراً خدمة أمن الاحتلال واستقراره وديمومته وتوفر له الظروف الأمنية التي تتيح له تنفيذ مخططاته التوسعية والاستيطانية ، وتثير الكثير من التساؤلات، والكثير من الضغائن والأحقاد بين الفلسطينيين أنفسهم. وهي مسألة يعتبرها غالبية شعبنا جريمة كبيرة بحق الشعب وانكفاءً خطيراً عن أهدافه وطموحاته وآماله وحقوقه، وخيانة عظمى للوطن ، تحاول السلطة الفلسطينية أن تقلل من شأنها، وتعمل جاهدة لترسيخها وإضفاء صفة القدسية عليها).
التنسيق الأمني - جذوره المريبة ومحطات عبوره:
حتى نتبين السبل القانونية والثورية والشعبية الناجعة لمواجهة التنسيق الأمني ودرء مخاطره الكارثية عن شعبنا وقضيتنا ووطننا، ينبغي علينا الإلمام بالخلفيات المتعلقة بنشأته ومحطات عبوره وتسلله إلى أوساط نفر مرتد من ضعفاء شعبنا وإلى نفوس قاصرة الرؤى من الممسكين بناصية صنع القرار لمستقبله ولغد أجيالنا ولوطننا المأسور تحت قيادتها ونير الاحتلال.
كان من أهم مسؤوليات “الإدارة المدنية” التي أنشأتها وتحديدا وحدة التنسيق في وزارة الحرب بجيش الاحتلال الإسرائيلي في آذار مارس عام 1981م،في مدن وقرى وأرياف المناطق المحتلة ، هو إدارة العمليات اإدارية والأمنية –غير العسكرية- في تلك المناطق وكان أول رئيس لتلك الإدارة المدنية البروفيسور مناحيم مسلون المستشرق والخبير في الشؤون الفلسطينية. وكان على رأس أولويات تلك الإدارة المدنية وفق ما نشرته صحيفة هاآرتس العبرية في عددها الصادر بتاريخ 23/5/1994م (*-1)، التركيز على تجنيد أكبر عدد من العملاء المتفرغين مدفوعي الأجر ، وبشكل خاص من خلال الوظائف المدنية الإدارية التي يتولونها كغطاء ومظلة لمهامهم الأمنية غير المعلنة والتي تتعلق برفع تقارير أمنية يومية كلٌّ في منطقة عمله ، حيث يربط ضباط الإدارة المدنية بين الخدمات المقدمة للجمهور الفلسطيني وبين العمل لصالح جهاز المخابرات. إلى جانب فتح قنوات اتصال مباشر مع الجماهير الفلسطينية عبر جلسات الحوار واللقاءات المكثفة مع رموز المجتمع الفلسطيني عن طريق مناقشة المشاكل اليومية الحياتية للشارع الفلسطيني. والتي على ضوئها تم تقنينها وتأطيرها في أطار رسمي استبدل باسم : التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية كما سيرد تالياً.
وقـبل التوقيع على تراجيدية أوسلو الكارثية وبالتزامن مع مؤتمر مدريد المنعقد في العاصمة الإسبانية في الثلاثين من تشرين الأول /أكتوبر 1991م ،كثفت الإدارة المدنية للاحتلال من عمليات تجنيد العملاء التي بدأها الاحتلال منذ العام 1967م بصورة ممنهجة وبكثافة نوعية في تشكيل مؤسسي واسع ضمن أجهزتها وبتقنينه عالية في إطار مؤسسي تحت إشراف الجهاز الأمني المسمى ب“شبكة أمان” ليتم دمجهم مستقبلاً في أطر أجهزة السلطة الفلسطينية المستقبلية في إطار اتفاق سري مبرم بين الطرفين يقضي بالتنسيق الأمني غير المعلن عنه وغيرالقابل للفسخ من جانب واحد.
وفي أعقاب التوقيع على تراجيدية أوسلو الكارثية في الثالث عشر من سبتمبر أيلول 1993م والعـودة المشروطة لقرابة أربعين ألف من منتسبي معظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى غزة وأريحا في الأول من تموز 1994م، سرت في فرائص مئات العملاء الذين كانت أجهزة الاحتلال الغاصب قد تمكنت من تجنيدهم تحت ضغوطها النفسية والجسدية والقسرية خلال احتلالها ما قبل وبعد حزيران 1967م لخدمة أجهزتها الأمنية في مختلف الأرياف والقرى والأحياء والمدن والمخيمات والتجمعات السكانية، هواجس الخوف من احتمال تعرضهم للمساءلة والعقاب (كما هو مفترض) من قبل هؤلاء العائدين الفصائليين فور انتشارهم في الأراضي المحتلة عقب تسلمهم إدارتها الذاتية ، الأمر الذي تحوّطت له “فرع أمان” التابع لجهاز الشاباك الذي سارع بدوره إلى تجميعهم في معسكرات جيشها لتحصينهم من المساءلة المحتملة وإبقائهم في الظل إلى حين إعادة هيكلتهم بشكل أو بآخر ، وتوفير الفرص السانحة الكفيلة بإعادة بعث الحياة في مهامهم أو مأسستهم ضمن أطرها الأمنية .
وقد اتضح من خلال ذلك أن عدد هؤلاء تجاوز السبعمائة وستين(760) مخــبر ميـــداني منوط بهم توفير المعلومات والتقارير الأمنية المتعلقة بكل ما يمكن رصده لإجهاض أي فعلٍ مقاومٍ يستهدفها (*-2-)
وقد شاع أمر هؤلاء في مناطق سكنهم الأصلية وراحت أخبارهم تنتشر كالنار في الهشيم ، وتداول أهالي القرى والمدن والمخيمات في الضفة والقطاع المحتلين آنذاك أخبار هربهم واختفاء أثرهم وإعادة مأسستهم ، الأمر الذي تأكد معه حرص الاحتلال على عدم التفريط بهؤلاء ، والبحث عن الوسيلة الأنجع لمواصلة الاستفادة منهم والإبقاء عليهم وضمان حمايتهم أو تأمين حصانة لهم أو مأسسة مستقبلهم في إطار يحميهم ويبقي على خدماتهم دون أن يتعرض لهم أي أحد أو أية جهة فلسطينية ، إلى أن أخذت الأنباء تتواتر حول أن موضوعهم بات يتصدر جدول أعمال اللجان الثنائية الأمنية والعسكرية المشتركة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في المفاوضات التي شرع الطرفان في إجرائها في كل من تل أبيب والقدس وأريحا وطابا وشرم الشيخ وميناهاوس وبعدها في فينا وبروكسل وأخيراً في روما التي تم التوصل فيها عام 1994م إلى اتفاق تم التوصل إليه بين محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة وجبريل الرجوب رئيس الجهاز في الضفة الغربية من جهة، وكل من يعقوب بيري رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي(شين بيت) آنذاك وأمنون شاحاك نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، تعطي (إسرائيل)فيه حرية الحركة والعمل في مختلف المناطق الفلسطينية لجهاز الأمن الوقائي مقابل أن يقوم الجهاز المذكور بحملة واسعة ضد المعارضة الفلسطينية آنذاك وخاصة حركة حماس ويزودها بتقارير أمنية مفصلة حول ذلك، ثم أعقب ذلك عدة اتصالات مماثلة كان يشارك فيها عن الجانب الإسرائيلي “يعقوب بيري”، الرئيس الأسبق لجهاز “الشاباك وخلفه”عامي يعلون“وعن الجانب الفلسطيني”محمود عباس" أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية و معه محمد دحـلان،والرجوب والتي توجت بالتوقيع على اتفاقية الانسحاب الجزئي لبعض قطعات جيش الاحتلال من بعض المناطق المحتلة والتي عُرفت ب(اتفاقية اعادة الانتشار-أوسلو-2- ) (*-3-)، وهي التي تم تقسيم الأراضي المحتلة فيها كالتالي:
 المنطقة A التي ستخضع للسلطة الفلسطينية إدارياً وأمنياً.
 المنطقة B التي ستخضع للإدارة الإسرائيلية الفلسطينية المشتركة إدارياً وأمنياً.
 المنطقة C التي ستخضع للسلطة الفلسطينية إدارياً ولإسرائيل أمنياً.
وذلك وفق ما نص عليه اتفاق إعادة الانتشار الموقع بين الطرفين في سبتمبر 1995م والملحق السري المرفق به. (*-4-)
وكان من أهم بنود الملحـق الأمني السري المذكور نصٌّ يلتزم فيه الجانب الفلسطيني المفاوض الذي كان يرأسه السيد محمود عباس وبمشاركة دحلان والرجوب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنئذٍ ليس بمجرد عدم المساس بأي من السبعمائة وستين عميلاً من هؤلاء المخبرين لدى أجهزة الاحتلال فحسب، بل ويتعهد بسلامتهم وبتوفير الحماية لهم في أماكن سكنهم ، وبإدماجهم كي ينخرطوا في عداد الأجهزة الشرطية والأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية كحصانة تضمن سلامتهم وعدم المساس بهم في المناطق الواقعة تحت سلطته الإدارية والأمنية، ويذهب النص إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى اعتبار هؤلاء “نواة للتعاون والتنسيق الأمني” المنصوص عليه في الملحق السري لاتفاق إعادة الانتشار الموقع في منتجع طابا يوم 28سبتمبر 1995م والملحق السري المرفق به (*- 5-)
وقد جَهِد الراحل عرفات في محاولة الحد من حركة هؤلاء وفي عرقلة إدماجهم في عدد من الأجهزة الأمنية التابعة له ، الأمر الذي فجّر خلافاً أخذ يتصاعد يوماً بعد يوم بينه وبين السيد محمود عباس عقب إصرار الأخير على انتزاع صلاحيات الإشراف على الأجهزة الأمنية منه بحيث يتولاها هو كرئيس للوزراء كي يتمكن من فرض ظاهرة التنسيق الأمني بما يلبي توفير الخدمات الأمنية المجانية للكيان الصهيوني بحجة أنه يشكل عامل “زرع ثقـة” لدى الإسرائيليين يعزز من جهوده ويستجيب لنواياه الهادفة إلى التخلي عن السلاح وإسقاط نظرية عسكرة الانتفاضة والتصدي للمقاومة وللعمليات الاستشهادية وكسر قاعدة الكفاح المسلح ، وأخذ هذا الخلاف يتصاعد بوتيرة متسارعة بين الرجلين يوماً بعد يوم وأخذ يطفو على السطح إلى أن بلغ ذروته خلال الأسابيع الأولى من تولي الأخير موقع رئيس للوزراء في 19 مارس 2003م الذي استحدث في السلطة للمرة الأولى نتيجة ضغوط شرسة مارستها الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني اللذين وجدا فيه الرجل المناسب الجدير بدعمهما ومساندتهما للمجيء به كبديل براغماتي لعرفات .
ونتيجة لذلك اتسعت شقة الخلاف بين الرجلين حتى بلغت ذروتها مما دفع بعباس إلى اتخاذ خطوة تكتيكية قدّم فيها استقالته من موقعه كرئيس لوزراء السلطة في سبتمبر من ذات العام 2003م بعد أقل من أربعة أشهر على توليه إياها ومن موقعه كأمين لسر اللجنة التنفيذية واعتزاله (المزعوم) للعمل السياسي ، وذلك في محاولة منه لتكثيف الضغوط الخارجية والداخلية على الراحل عرفات وتضييق الخناق عليه كي ينصاع لكافة الإملاءات الأمريكية والصهيونية ، وقد ألقت الولايات المتحدة وبريطانيا و(إسرائيل) باللائمة على عرفات لتخطيه(!) رئيس وزرائه، وقد تزامن ذلك مع سريان اتفاق معلن بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال الصهيوني التي كان يرأسها (أرييل شارون) يقضي بعدم مواصلة المفاوضات مع عرفات وبعزله وحصاره في غمرة تهديدات ميدانية واشارات ضمنية تتحدث إيحاءً عن خطط لتغييبه عن مسرح الأحداث (....) .
وما لبث أن توفي الراحل عرفات يوم 11/11/2004م في ظروف مشبوهة واضحة المعالم والصور والأصابع المخططة والمنَفِذة، وسط علامات استفام كبيرة ترسم في ظلالها سِماتٍ لتلك الصورٍ والأسماء والانتماءاتٍ الواضحة للقتلة الذين يتسيدون المشهد الآن، حتى قفز عباس الآتي من اللاغيب إلى واجهة الأحداث ليتولى موقعه الحالي خلفاّ للرجل المغَيَّب.
وما لبث عباس أن تربع على عرش موقعه في التاسع من يناير 2005م حتى استهل مهامه بإعادة الاعتبار لأولئك المخبرين المجندين السبعمائة والستين وتقنين قيودهم على قوائم الأجهزة الأمنية التي أبقى عليها (في عصمته) وتحت إشرافه رافضاً بدوره أي ينيط مسؤولية الإشراف عليها لرئيس وزرائه المنتخب لاحقاً خشية اكتشافهم وتبيُّن أمرهم ومساءلتهم، واعتبرهم نواة محصنة للتنسيق الأمني الذي أعلنه (شأناً مقدساً) - متعارضاً بذلك مع موقفه هو ذاته الذي بسببه تفجر خلافه مع سلفه الراحل - وأدرج موضوع التنسيق على رأس قائمة أولوياته ولعبت صلاته الحميمة مع آفي دختر ويوفال ديسكين رئيسي الشاباك السابقين دوراً كبيراً في استجابته لمقترح أن يشكل هؤلاء النواة المحورية لأذرع التنسيق الأمني ومنحهم الصلاحيات المطلقة في حرية الحركة والاتصال وأوعز لكل الأطقم الأمنية المعنية بإيلاء هذا الشأن الاهتمام ، ولعب الجنرال دايتون والمبعوث الأمريكي دينيز روس دوراً محورياً في توثيق هذا الشأن لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيليين ، كما أصدر عباس قرارات إجرائية بتسمية رموز متصلة بهؤلاء (كالضميري وفرج )في مواقع تنفيذية للعديد من الأجهزة الشرطية والأمنية، وهكذا انطلقت عربة “التنسيق الأمني” بظاهريتيها المتلازمتين اللتين يوليهما صدارة اهتماماته ورعايته.
محمود عباس والظاهرتان المتلازمتان:
وعلى ضوء كل ما سبق فقد بات واضحاً عند الحديث عن التنسيق الأمني أن السيد محمود عباس هو الحاضنة الأم لهذه الظاهرة منذ البدايات أي قبل أن تخرج للعلن وحتى يومنا هذا ، وهنا تقفز أمامنا ظاهرتان متلازمتان وعنوانان توأمان:
• الظاهرتان المتلازمتــــان هما: المــال و الســـلطة
• وأما العنوانان التوأمــان فهما: التنسيق الأمني و لجم إرادة المقاومة

وهما الظاهرتان والعنوانان اللذان يشكلان القوائم الأربعة التي يقف عليها نهج الرجل منذ أن شرع في حياته السياسية الهادئة عند توليه عضوية اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتـح” في أواخر الستينات.
فمنذ أن شغل الرجل موقعه هذا في حركة فتح ، حرص على أن يمسك بزمام الشأن المالي للحركة الذي كانت روافده تتدفق بسخاء وتتدفق بالعطاء من كل فلسطينيي الشتات ومن دول الخليج لهذه الحركة الوليدة خاصة في أعقاب معركة الكرامة عام 1968م التي كان لهذه الحركة الوليدة بصمتها الأبرز فيها ؛ فكان له ما أراد حيث تولى منذ البدايات موقع المفوض المالي للحركة منذ ذلك الحين وما زال حتى اليوم ، إيمانا منه بأن من يمسك بمقاليد المال يمكنه الإمساك والتحكم بمفتاح البوصلة التي تحدد اتجاه البندقية النضالية بمجملها.
وفي موازاة ذلك ، لم يخفِ الرجل توجهاته السياسية منذ السبعينات حين أخذ يدعو جهاراً في مؤتمرات الحركة إلى فتح قنوات اتصال مع من أسماهم حينذاك بدعاة السلام في الأوساط اليهودية -صهانية كانوا أو حتى مسؤولين إسرائيليين- ، وواقعة اصطدامه الشهيرة مع عدد من أعضاء المؤتمر العام الثالث للحركة وآخرين من أمناء سر الأقاليم الذين اعترضوا على طروحاته في المؤتمر العام الثالث الذي انعقد في مدرسة سوق الغرب بلبنان عام 1971م معروفة وماثلة للعيان ولجميع أقحاح الحركة منذ ذلك الحين .وقد دفعته تلك الواقعة إلى الانزواء قليلاً نحو الظل والعمل بهدوء من خلال احتفاظه بموقعه كمفوض مالي ليظل على مقربة من امتلاك مقاليد السلطة ،
• فكان له المـال كمفوض مالي للحركة .
• ثم آلت إليه السلطة من خلال غياب أو تغييب الراحل عرفات.
• واتخذ قراره بلجم البندقية المقاومة وإجهاض الانتفاضة كأبرز روافع نهجه السياسي.
• ورسّخ ظاهرة التنسيق الأمني كأبرز الخطوط العريضة لمسيرته وأهم العناوين التي تتصدر أدبياته واهتماماته.
وهكذا كشفت مسيرة نصف القرن الأخير حقيقة نهج الرجل الذي كان التنسيق الأمني واحداً من أهم أدبياته وبصماته بدءاً من:
1. طروحاته المبكرة في المؤتمر العام الثالث لحركة فتح عام 1971م
2. ومروراً بدوره المعروف في انشقاق السيد ياسر عبد ربه- المعروف بولائه الأعمى لذات النهج- عن أحضان الجبهة الديمقراطية التي انشق عنها، وحضانته المعروفة لاتفاق جنيف المشؤوم الذي حاول فيه دفن حق العودة،
3. ومروراً كذلك بنفس الدور في حالة السيد بسام أبو شريف – المعروف هو الآخر بولائه لذات الاتجاه- وانشقاقه عن الجبهة الشعبية في انعطافة حادة معاكسة،
4. ومروراً بمنصوصات اتفاقه المعروف مع يوسي بيلين عام 1995م(*-6-)
5. وانتهاءً بتصريحاته شبه اليومية التي تنازل في أبرزها للصهاينة حتى عن مدينة “طفــد” مسقط رأسه، والأمثلة تطول...
وقد وضع الرجل نصب عينيه منذ أن أمسك بالشأن المالي أن يعمل جاهداً للوصول إلى الإمساك بمقاليد السلطة باعتبارها مفتاح البوصلة التي تحدد اتجاه البندقية أو لجمها، وتلازمت هاتان الغايتان عند الرجل منذ البداية فظل ممسكاً بالشأن المالي ، وعرج للدعوة إلى فتح قنوات اتصال مع الإسرائيليين –يهودا وصهاينة-منذ بواكير البدايات وصولاً إلى مصطلح التنسيق الأمني الذي قاده إلى دهاليز أوسلو المعتمة التي استطاع من خلالها أن يقفز من العدم إلى قمة الهرم فكانت له السلطة بعد المال ، ومضى يعمل بروية في الظل حتى يستطيع القفز على العقبات القائمة في طريقه نحو الهدف الأعمّ عبر تحييد البندقية المقاومة التي أثبتت فعلها المقاوم وشدت من عود القوة النضالية عسكرياً وميدانياً سواءً عن طريق العمليات الفدائية الخارجية ضد العدو في بواكير الستينات والسبعينات ،أو المقاومة على الأرض والتي كان القادة خليل الوزير وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وصلاح خلف أبرز دعائمها ورموزها قبل انطلاقة حركتي "المقاومة الإسلامية-حماس والجهاد الإسلامي لاحقا في ثمانينات القرن الماضي ثم كتائب عز الدين القسام والقدس والأقصى ورديفاتهما لاحقاً.
وما لبث أن غاب أو غُيّب عن الصورة كل هؤلاء القادة الشهداء: (كمال عدوان والنجار في مجزرة الفردان الشهيرة عام 1973م ، وخليل الوزير في عملية الغدر الصهيونية التي قادها السفاح باراك في تونس عام 1988م، وصلاح خلف في عملية الغدر التي تولاها أشباح العملاء في تونس عام 1991م)، حتى تهيأت الساحة وخلت للسيد محمود عباس في مواجهة الراحل عرفات، إلى أن خلا الميدان برحيل عرفات ، ليسارع هو إلى الانطلاق معززاً بقوة دفع هائلة محددة المعالم ومعروفة الروافع والمحفزات بعد أن سطع نجمه كعراب لمحادثات أوسلو الكارثة في بواكير التسعينات ، والتي قادت إلى توقيع الاتفاق المشؤوم في العام 1993م وسط زخم كبير من التحركات والروافع العربية والغربية والمحفزات الإسرائيلية والأمريكية المعروفة.
وهكذا برزت ظاهرتا “التنسيق الأمني” المتزامنة مع الحروب الصهيونية الهمجية الخائبة على القطاع الصامد في محاولات إجهاض إرادة المقاومة وكبح جماح بندقيتها كعنوانين متلازمين يشكلان أبرز هدفين كانا وما زالا يحتلان أهم أولويات السيد محمود عباس طيلة مسيرته في حركة فتح ويلونان أبرز سمات نهجه السياسي منذ ذلك الحين وما زالا حتى اللحظه .
جــذور ومنعطفــات التنســيق الأمنــي :
وحتى نتبين السبل القانونية والثورية لمواجهة ظاهرة التنسيق الأمني ، ينبغي المرور على الأخطار الجسيمةوالكوارث المدمرة التي ألحقتها هذه الظاهرة بشعبنا وبقضيتنا ،ومعرفة المحطات التي اجتازتها منذ ولادتها التالية
 نصت (الفقرة الخامسة) من رسالة عرفات إلى رابين، رئيس وزراء إسرائيل عام 1993 والتي صدرت قبل توقيع اتفاق أوسلو على تعهد منظمة التحرير الفلسطينية بملاحقة )الإرهاب والإرهابيين( وكل أعمال العنف ضد )إسرائيل( ، ولا يخفى على أحد هنا أن يستشرف معنى هاذين التعبيرين.
 وجاء اتفاق أوسلو بعد ذلك لينص في المادة العاشرة منه على إقامة تنسيق أمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين ((Required security Co-ordination دون الدخــول في التفاصيــل باستثناء التأكيــد على أن (إسرائيل) هي المسؤولة عن الأمن الإجمالي في الأرض المحتلةعام 1967م وحق العمل الأمني فيها في أي وقت تشاء،
 ومع قيام السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا عام 1994،ربطت (إسرائيل) توسيع رقعة السلطة الجغرافية مشروطاً بمقدار أدائها الأمني لصالح إسرائيل ، ومدى قدرتها على ما أسمته ب(ملاحقة الإرهاب والإرهابيين)، أي منع أعمال المقاومة ضد إسرائيل.
 وتكرر الشأن ذاته في اتفاقية (غزة-أريحا) الموقع في القاهرة يوم 4 أيار 1994 م الموقع من قبل “رئيس الوزراء الإسرائيلي” اسحق رابين و“رئيس إدارة الحكم المدني الذاتي” آنذاك ياسر عرفات.
 وفي اتفاقية طابا لعام 1995 تطورت الصيغة بشكل أكثر وضوحاً حي نص اتفاق إعادة الانتشار الموقع في 28سبتمبر 1995م لتضع تفسيرا للتنسيق الأمني بحيث نصت على أن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن منع ومحاربة كافة أعمال العنف في مناطق سلطتها، والتزامها بعدم ملاحقة من عملوا مع (إسرائيل) على مدى السنوات الماضية، وعلى عدم المساس بهم أو الإضرار بمصالحهم الشخصية أو طردهم من الوظائف الشرطية أو المدنية التي أُلحِقوا بها
 وازدادت الأمور وضوحاً في االبروتوكولات الموقعة بتاريخ 15/1/1997م والملحقة باتفاق إعادة الانتشار بوضع تعريف ل (الإرهاب والإرهابيين) بأنه " كل من يمارس أو يروّج أو يقتني أو يُصنّع أو يستورد أو يُشهر أو يستعمل اي نوع من السلاح ضد إسرائيل والإسرائيليين مدنيين أو غير مدنيين كما ألزمت الاتفاقية السلطة الفلسطينية بملاحقة كافة الأعمال غير المشروعة التي تمس الأمن الإسرائيلي.
 وفي الفقرة ج من البند الأول لاتفاق واي بلانتيشن (واي ريفر) الموقعة في 23/10/1998م تكرر التأكيد بشكل أكثر وضوحاً وتفصيلاً حول “التنسيق والتعاون الأمني الثنائي التام بين الطرفين ومحاربة الإرهاب والمنظمات الإرهابية بشكل متواصل ومكثف وفعال ووشامل”.وتجريم أي استيراد أو تصنيع أو بيع أو حيازة أو امتلاك للأسلحة النارية غير الشرطية ، ويُطلع الطرف الفلسطيني الجانب الإسرائيلي في لجنة التنسيق الأمني بشكل كامل على كافة نتائج التحقيقات التي يجريها مع المشتبه بهم من (الإرهابيين) الذين يقوم باعتقالهم وتتبادل لجان التنسيق الأمني الفلسطينية الإسرائيلية المشتركة بينهما كافة المعلومات اللازمة بما فيها اعتقال من يشتبه برغبتهم ونواياهم في مقاومة الاحتلال ،
 اتفقت إسرائيل وأمريكا على توظيف منسق أمني أمريكي(دايتون) للتأكد من حسن أداء السلطة الفلسطينية لمهامها الأمنية، ولتوجيه السلطة الفلسطينية بالطريقة المناسبة التي تحقق أقصى أمن ممكن للإسرائيليين بمن فيهم المستوطنين.
 وازدادت الأنشطة المحمومة المتصلة بظاهرة التنسيق الأمني شراسة بعد انتفاضة حركة المقاومة الإسلامية –حماس- التي آلت إلى سيطرتها على قطاع غزة عبر انتفاضة الغضب التي انفجرت هناك عام 2006م في وجه ممارسات السلطة وفسادها وتنسيقها الأمني مع العدو وإمعان رئيسها محمود عباس وغلوائه هو وأجهزته الأمنية في تنفيذ الإملاءات الإسرائيلية ضد مصالح شعبه ونهجه الممعن في الردة إلى درجة أنتقلت فيها ظاهرة التنسيق الأمني مع إسرائيل من ظاهرة خفية وحيية وخجولة إلى ظاهرة صريحة أخذت تكشر عن أنيابها مع الزمن في وضح النهار جهارا ، وراحت تستفحل بشراستها التي تجاوزت اعتقال المقاومين وتعذيبهم لتوغل في عمليات تصفيتهم وقتلهم وتتناوب مع أجهزة الاحتلال في اعتقالهم وتسلمهم وتسليمهم وتصفيتهم عبر الباب الدوار . وقد جسد دايتون هذه المأساة في تصريحه أمام الكونغريس الأمريكي حينما قال ما حرفيته: “إن مجموعة من رجال أمن السلطة الفلسطينية التابعة لمحود عباس قد تولت بقيادة ضابط إسرائيلي عملية قتل قائد كتائب القسام في الخليل”. (*-7-) ، وفي تقرير آخر تداولته الفضائيات، كشف الباحث السياسي المعروف مصطفى الصواف أن المعتقلين الذين تم التحقيق معهم في معتقلات السلطة الفلسطينية -ثم اعتقلوا بعد ذلك من قبل إسرائيل- وجدوا محاضر التحقيقات التي أجرتها معهم السلطة تنتظرهم على الطاولات أمامهم لدى سلطات الاحتلال، الأمر الذي يؤكد وجود التعاون الأمني الكامل بين الجانبين(*-8-).
 وقد زاد من مخاطر هذا الانفلات في التعامل مع أجهزة الآحتلال تحت مظلة التنسيق الأمني ، ظهور أجهزة أمنية فلسطينية غير جهاز الشرطة وخارج الأنظمة المعلنة كالأمن الرئاسي، والأمن الوطني، والأمن الوقائي، والمخابرات، والاستخبارات وأمن المؤسسات، والبحرية... وغيرها ، يصب جل عملها في ملاحقة (المقاومة والمقاومين وأنصارهم) وملاحقة التنظيمات التي تتبنى فكرة المقاومة والعمل على تفكيكها أوهدمها أوالقضاء عليها أو المشاركة في حصارها وتدميرها وهدم بناها التحتية كما يحصل الآن ضد حماس والجهاد الإسلامي وشهداء الأقصى (في الضفة الغربية) وربط هذه الأجهزة أو بعضها بطريقة أو بأخرى بأكثر من قناة تمويل خارجية وحتى (إسرائيلية) وربطها في أكثر من حالة بإشراف أمريكي (كما في حالة دايتون) للتيقن من التزامها بالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية .
وقد تواصلت عمليات التنسيق الأمني بصورة تصاعدية بلغت أوجها عند وقوع العملية البطولية التي أقدم فيها مقاومان بطلان من مقاومينا المبدعين على خطف ثلاثة جنود من قطعان المستوطنين الصهاينة من مستوطنة كفار عتصيون وما أعقبها من غطرسة صهيونية بلغت مداها في الحرب الهمجية الأخيرة على القطاع الصامد والقت خلالها آلاف الأطنان من أعتى أسلحتها على رؤوس أهلنا بموازاة أشرس الأدوار التي مارسنها أجهزة التنسيق الأمني في السلطة بالتزامن مع تصريحات السيد محمود عباس المتغنية بالتنسيق الأمني (المقدّس!!) دون أن تحقق تلك الحرب الهمجية أياً من أهدافها وارتدت على أعقابها بفعل المقاومة البطولية الخارقة عبر الأنفاق وفوقها وحولها في حرب العصف المأكول،
كما أن كل مشاعر السخط والغليان في أوساط كل أطياف شعبنا لم تفلح في ثنْي السيد محمود عباس عن مواصلة تشبثه بالتنسيق الأمني رغم اللطمة التي وجهها له شركاؤه الصهاينة بقتلهم واحداً من أبرز وزرائه الشهيد زياد أبي عين وبمواصلة قطعان صهاينتهم في انتهاكاتها اليومية الصارخة للحرم القدسي الشريف وقتل وحرق أطفالنا حتى الأيام الأخيرة.
سبل المواجهة القانونية والثورية للظاهرة الكارثية:
على ضوء المخاطر الكارثية المترتبة على مواصلة الانخراط والسير في هذا السبيل الخارج على كل الثوابت الوطنية والمبادئ الأساسية والضوابط لأخلاقية التي ينبغي أن تحكم مسيرة الحركة النضالية الفلسطينية على مختلف الصعد وتؤطر المساحات المحددة للعمل النضالي، فإنه لا بد من العودة إلى ضرورة تفعيل كافة الضوابط القانونية والثورية والوطنية والأخلاقية والسياسية والدينية للحد من هذه الظواهر الكارثية ووضع نهاية لها لوقف الأخطار المترتبة على استمرارها، وهي ضوابط تتطلب اجتثاثاً تاماً للنهج الحاضن لهذه الظاهرة برمته أكثر من مجرد اجتثاث الظاهرة فقط بل للنهج الحاضن لها وللأدوات المحركة لكليهما ، الأمر الذي أصبح يدفع باتجاه تعاظم وترجيح الدعوة الشعبية والجماهيرية العارمة لدى كل أوساط شعبنا في كافة أماكن تواجده والمنادية بإسقاط السلطة ورموزها من خلال بعث انتفاضة ثالثة أصبحت ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى والعودة إلى تشكيل “لجان المقاومة الشعبية” في الظل وتحت الأرض من جديد داخل التجمعات الشعبية في المدن والقرى والأرياف والأحياء والمخيمات كما كانت عليه الحال في المراحل المتقدمة من الانتفاضة الأولى والتي أثبتت نجاعتها القصوى ميدانياً ، ونجحت بدورها في تسيير العلاقات المجتمعية بشكل أربك الاحتلال وشل قدرته على لجم الانتفاضة أو وقفها .
ومثل هذا الحراك المطلوب يستوجب تكثيف الجهود على كافة الأصعدة التعبوية والجماهيرية وعلى كافة المستويات المؤسسية والفصائلية والبنيوية والمجتمعية وعلى امتداد المساحات الجغرافية في الضفة الفلسطينية المحتلة مشلولة الإرادة القابعة تحت عصا السلطة وأدواتها الأمنية وفي القطاع المحرر المحاصر طليق الإرادة إلا من الحصار الذي يزداد تضييقا وخناقا، وكذلك في المناطق المحتلة عام 48 حيث يتواجد الفلسطينيون المحدودو الحركة المنزرعون في أرضهم هناك، ثم في الشتات حيث يتوزع في أنحائه ما يزيد على ستين بالمائة من الفلسطينيين الموزعين في ظل أنظمة تابعة أو منخرطة في التآمر او متفرجة عليه. وهؤلاء وأولئك يمكنهم أن يتناغموا في حراكات مكثفة في الميادين التالية:
 تحرك تعبوي على كافة الجبهات وبلدان الشتات باتجاه تعزيز ثقافة المقاومة بكل السبل والوسائل المتاحة، في اتجاه البوصلة التي لا ينحرف مؤشرها عن فلسطين ، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إســقاط السـلطة القائمة ونهجهـا التصفوي برمته، وإعادة القضية إلى جذورها وثـوابتها الأساسية، ووضعها في أيدي جماهير شـعبنا المتحفــزة لتسلم دورها المقاوم في مواجهة الاحتلال على كافة الأصعدة ، بحيث يكون“دحر الاحتلال وأدواته” شعاراً جامعاً لهذا التحرك.
 والآخر ثوري ميداني يركز على بعث انتفاضة عاتية لا تذوى حتى تؤتي أُكُلَها وتُـفرز حكماءها وقادتها الميدانيين المقاومين وتشكل الانتفاضة المقدسية الحالية نواتها الصلبة القابلة للامتداد والاشتعال مسنودة بعمليات مقاومة نوعية على كل المساحات المتفرقة من الوطن المحتل - وفق الممكن أو حتى المستحيل- وقد أثبت شعبنا خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة قدرته الخارقة على صنع المستحيل وإبداعه في استنباط الكثير من وسائل وأدوات المقاومة من دعس ودهس وطعن وخنق وحرق بالأسيد أو حتى بالزيت المغلي إذا عدم الحيلة .
 والثالث تنظيمي وجماهيري لا تتنازعه الفئوية أو الفصائلية ، تقوده لجنة حكماء من شعبنا الذين لا أولويةٌ عندهم لغير فلسطين ( وشعبنا يزخر بالوفرة الكثيرة المبدعة من مثل هؤلاء) تنخرط فيه كل الأطياف المشهود لها بالنزاهة وبنظافة اليد وبتاريخها النضالي ، تتولى التحضير لمؤتمر وطني فلسطيني شامل ترعاه وتستضيفه وربما تغطي احتياجاته إحدى الدول الصديقة (ومثل تلك الدول كثيرة حتى ولو تم ذلك في فنزويلا أو ماليزيا أو كوبا أو جنوب إفريقيا إن لم تتيسر استانبول أو غيرها من الشقيقات العربيات) وتتمثل فيه كل أطياف شعبنا في الوطن المحتل بساحاته الأربع (الضفة والقطاع وال48 والشتات) تمثيلاً نسبياً وثورياً يؤول إلى إقرار صيغة مُلْزِمة لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية على قواعد نضالية لا مكان فيها لمرتد أو مفرط أو مساوم أو غير مقاوِم ، لتتولى تلك الصيغة بشخوصها المنتخبين قيادة الركب حتى التحرير .
 والرابع قانوني ، يتم من خلاله تفعـيل قانون العقوبات الفلسطيي جماهيرياً بحـق كل أولئك الذين دفعـوا بشعبنا وبقضيته إلى هذا المآل الخطير وقــوّضوا كل ثوابته الوطنية وقيمه النضالية، بحيث تتولى فيه كل التجمعات الفلسطينية في الوطن المحتل وفي الشتات عقد محاكمات شعبية صورية في كافة المدن والعواصم ، بحيث تتشكل هيئاتها من محامين مقتدرين ذوي حضور شعبي وجماهيري واقتدار قانوني (وهم كُثر) ، مستعينة بقانون العقوبات الفلسطيني ذاته الصادر في القدس عام 1964 م والمعدل عام 1979م والذي تطال معظم مواده كل رؤؤس السلطة القائمة بشكل لا لبس فيه بشأن التنسيق الأمني وغير التنسيق الأمني. إضافة إلى استعانتها بكافة اللوائح الداخلية لمختلف الفصائل الفلسطينية والتي تُجمِع كلها على حقيقتين ثابتتين غير قابلتين للاجتزاء أو الانكفاء وتشكلان أبرز ثوابت الشعب الفلسطيني الوطنية ، والممكن الاسترشاد بهما واستخدامهما كمرجعين قانونيين مساندين في المرافعات القانونية الشعبية المقترحة أعلاه وهما:
 الأولى:فلسطين التاريخية هي وحدة تاريخية لا تتجزأ، وهي الوطن التاريخي للشعب العربي الفلسطيني وأي تفريط بها أو بجزء منها أو بذرة من ترابها يشكل خيانة وطنية، وتحريرها مسؤولية وطنية وقومية ودينية متوجبة على كل عربي ومسلم...(*-9-)
 والثانية: الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً(*10)
( مرفق بطيه نصوص عدد من مواد العقوبات المذكورة التي تعتبر سارية المفعول لعدم بطلانها أو إلغائها أو إسقاطها من قبل أية جهة فلسطينية تشريعية رسمية مخولة حتى يومنا هذا،الأمر الذي يعطيها قوة القانون ساري المفعول ). (*-11-)
خاتمـــــة :
إن اجتثاثاً تاماً للنهــج الحاضن لظاهرة التنسيق الأمني برمته وللأدوات الراعية لكليهما ، أصبح ضرورة لازمة وملحة أكثر من أي وقت مضى وأكثر إلحاحاً من مجرد اجتثاث للظاهرة بعينها.
وعلى ضوء هذا الواقع الراهن الذي يعاني منه شعبنا وقضيتنا ، و الذي ينهمك فيه الغارقون في غيهم من عرابي أوسـلو وغربان التنسـيق الأمني، في الحفاظ على مصالحهم الذاتية ومكتسباتهم الرخيصة وامتيازاتهم الشخصية الممنوحة لهم من الاحتلال، وإيغالهم في المراوغات وفي التنازلات وفي التفريط والعبث بالمقدرات - الأمر الذي ينخرط فيه المتربعون على رأس السلطة الضالة في ظل الصمت المريب لبعض الفصائل المشاركة في عدد من مفاصلها أو لامبالاة البعض الآخر أو انخراط آخرين في هذا المستنقع الأسن ؛ فإن العبء الأكبر في أداء مهمة التصدي لهذا الأداء المريب ودرء خطره المدمر وردع أدواته العابثة يظل منوطاً بأولئك العاضين على الجرح القابضين على جمرالمقاومة الأمناء على العهد الحَفَظَة للثوابت من أبناء وبنات شعبنا الذين كان لأدائهم البطولي في الصمود معركة العصف المأكول التي سجل التاريخ لكتائبها البطلة من القسام والأقصى والجهاد وشقيقاتها ملاحم البطولة والعز، ولشبابنا المنتفضين حول ساحات الأقصى وفي خليل الرحمن وجينين ونابلس والجليل والأمعري وباب العامود ، المُجَلّين في الإبداع الخارق لأدوات المقاومة المتواصلة حيثما عز السلاح ، وكذلك بأحرار فتح وشرفائها الذين يتصدون بصبر ورجولة وشجاعة لخاطفي هذه الحركة الرائدة من تاريخها المشرف، ويتحينون الفرص لتطهير ها من الأدران والرموز والأدوات التي أمعنت وتمعن في تشويه وجهها النضالي الذي رسمته دماء الأفذاذ من جندها وقادتها .
وإلى جانب ذلك فإن جزءاً كبيراً من واجب التحرك في هذا الاتجاه يقع على السبعة ملايين مهجر ومغترب في منافي الشتات يقتضي أن يرقى أداؤهم إلى ما هو أبعد من مجر د القول أو الندب أو الصمت أو المشاعر الحبيسة .
ويظل كل الأوفياء الأمناء على العهد من شعبنا في الساحات الأربع التي ينبغي أن تحمل أمانة هذا الدور وتتوزع مهمة هذه المقتضيات الملحة - بدرجات متفاوته بل ومجتمعة، هم الأمل وهم صناع الخلاص وصناع التحرير .

المراجــــع والملاحق:
* (1) صحيفة هاآرتس العبرية 23 مايو 1994م
* (2) (نفس المصدر السابق)
* (3) كتــاب“القادم لقتلك” لمؤلفه يعكوف بيري رئيس جهاز الشاباك الأسبق.
*(4) Palestine Through Documents-2nd Volume-Page 146
*(5) نفس المصدر السابق : - 145- Item 5 of Article X page
*(6) نفس المصدر السابق: page-203-
*(7) صحيفة الديلي اكسبريس: 13/12/2007م.
*(8) شبكة الجزيرة نت 19/12/2014م مصطفى الصواف، إعلامي فلسطيني عريق ومراسل سابق لشبكة الBBCولصحيفة النهار
*(9) دائرة شؤون المفاوضات –م.ت.ف. (الاحتلال الإسرائيلي العدد 159 صفحة 1750)
*(10) وثائق المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة في 17 تموز عام 1968م
*(11) (ملحــق)مقتطفات من قانون العقوبات الفلسطيني المقر لعام 1964 والمعدل لعام 1979م: أنظر تالياً:ملحـــق: مقتطفات من مواد قانون العقوبات الفلسطيني المقرّ عام 1964م في القدس والمصادق عليه في القاهرة عام 1979م*(11)
فيما يلي مقتطفات من مواد قانــون العقوبــات الفلســطيني المقـــرّ عام 1964م في القدس، والمصادق عليــه في العام 1979م:وهي مواد قانونية ســارية المفعـول، ومعمــول بها لدى وزارة العدل الفلسطينية، وكذلك في لوائح منظمة التحــرير الفلسطينية المختطفة ذاتها التي يتربع عباس على صدرها،والذي تطاله نفسه ثلاث عشرة مادة منها بتهمة الخيانة العظمى كما وردت نصوصها في الفصل الثاني تحت عنـــوان “الجرائم التي تقع على أمن الثورة الخارجي” في المواد 130 ، 131 ،132، 133، 134 ، 136 وكذلك في المواد والنصوص التالية التي تقول:
مادة 137: يعاقب بالإعدام كل آمر أو قائد سلم إلى العدو الموقع الموكول إليه دون أن يستنفذ جميع وسـائل الدفاع لديه
وبدون أن يعمل بكل ما يأمر به الواجب والشرف.
مادة 138: يعاقب بالإعدام كل قائد وحدة مسلحة يستسلم في ساحة القتال إذا أدى ذلك إلى وقف القتال أو إذا لم يعمل
قبل مخابرة العدو بكل ما يأمر به الواجب والشرف.
مادة 139: يعاقب بالإعدام كل آمر استعمل أية وسيلة إرغام أي قائد أو شخص آخر على أن يهجر أو يسلم بصورة شائنة
أي بقعة أو مكان أو نقطة أو مخفر مما هو مترتب على ذلك القائد أو الشخص الآخر الدفاع عنه.
مادة 140: يعاقب بالإعدام كل فرد:
أ‌- ألقى سلاحه أو ذخيرته أو عدته أمام العدو.
ب‌-تخابر مع العدو أو أعطاه أخبارا بصورة تنطوي على الخيانة أو أرسل إلى العدو راية المهادنة
ت‌-أمد العدو بالأسلحة أو الذخيرة أو المؤن أو آوى أو أجار أو جالس عدوا ليس بأسير وهو يعلم أمره.
ث‌-قام عن علم منه أثناء وجوده بالخدمة بأي عمل من شأنه أن يعرض للخطر نجاح أية عمليات تقوم بها قوات الثورة أو أية قوات من القوات الحليفة.


titre documents joints

16 كانون الثاني (يناير) 2015
info document : PDF
211.9 كيلوبايت


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165937

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع ربحي حلوم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165937 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010