الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015

في حياد الدولة وتعاليها

الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015 par د. عبد الاله بلقزيز

إذا كانت الدولة هي عينها الأمة مجسدة في كيان سياسي جامع، أي النظام الخاص للجماعة السياسية، يترتب على ذلك أنها نصاب سياسي مجرد ومتعال عن تناقضات الاجتماع السياسي، أو قل إنه ينبغي للدولة أن تكون كذلك حتى تطابق مفهومها، وحتى تطابق الأمة، وإلا كانت مجرد سلطة مشدودة إلى مصالح فئات بعينها من دون أخرى في المجتمع . من المعلوم أن هذا المفهوم للدولة مفهوم حديث، نشأ في رحم نظام الدولة الوطنية الحديثة، في المجتمعات الغربية، مثلما تبلورت مبادئه النظرية في الفلسفة السياسية الحديثة . ومع ذلك، فقد ظلت الدولة، في الأزمنة قبل الحديثة، تتميز عن السلطة وأنظمة الحكم في سلوكها الواقعي، وفي وعي رعاياها وأهل الفكر، حتى وإن كانت أشكال من التداخل بينها وبين الجماعات الحاكمة فيها تفرض نفسها . ولا يتعلق ذلك (التداخل) بالدولة التقليدية السلطانية، في العالم الإسلامي، أو الدولة الإمبراطورية في آسيا وأوروبا، فحسب، وإنما بالدول قبل الحديثة التي قامت في العالم الأوروبي الكاثوليكي (الإمارات الإيطالية والدويلات الألمانية) التي كانت تتغير حدودها بتغير ملوكها وأمرائها، أو بمصاهرات بعضهم البعض الآخر .
القرائن كثيرة في التاريخ على أن أشكالاً من الانفصال أو التمايز، بين الدولة ونظام الحكم، حصلت واستقرت ملامحها مع الزمن: لم تكن الدول تسقط دائماً وتزول بسقوط وزوال حكامها . كان ذلك ملحوظاً في أزمنة وأمكنة محددة، لكنه لم يكن قانوناً عاماً شاملاً الدول جميعها، إذ تطلعنا وقائع التاريخ على أن دولاً عدة صمدت كياناتها فيما كانت تهزها عواصف التغيير من الداخل، فكانت السلالات الحاكمة تتعاقب على حكمها وتغرب من دون أن تنحل الدولة أو تتفكك . ولقد ظل الناس عبر مراحل عدة من التاريخ يضحون ويقاتلون في الجند دفاعاً عن الدولة لا عن حاكمها . وليس لهذه الحقيقة أن تعني غير أن قدراً من الوعي بالفارق بين الدولة ونظام الحكم كان حاصلاً في الأزمنة غير الحديثة . يكفي المرء أن يعود إلى كتاب “السياسة” لأرسطو ليقف على أن مثل ذلك الوعي (بالفارق هذا) كان قديماً . إن ما فعلته الأزمنة الحديثة ليس تأسيس حالة التمايز والانفصال بين الدولة ونظام الحكم، وإنما تعميقه وترسيخه من طريق ترسيم الحدود بينهما على نحو واضح: ليس في الدساتير فحسب، وإنما أيضاً في الثقافة السياسية الجماعية .
تعالي الدولة عن صراعات المجتمع على السلطة أو على الثروة أو عليهما معاً شرط رئيس لوظيفتها التمثيلية الجامعة كدولة . إذا لم تلزم الدولة موقع الحياد في المنازعات الاجتماعية، عرضت نفسها للتصدع والانقسام في المطاف الأخير . تدخلها الوحيد المشروع، والضروري لها وللمجتمع، هو التدخل الذي تفرض فيه القانون على الجميع بما هو تعبير عن إرادة الجميع . وهي حين تفعل ذلك، تمارس وظيفتها الطبيعية في تنظيم المجتمع، بما في ذلك تنظيم منازعاته وإخضاعها لقواعد تحافظ لها على سلميتها، أي على المنافسة المشروعة، وفي حماية الأمن الاجتماعي والاستقرار المدني . ليست الدولة طرفاً في الصراعات السياسية، وإلا تخلت عن أن تكون دولة الجميع وتحولت إلى حزب أو كيان فئوي . وهذا، بالذات، ما يحملنا على تعريف نصاب الدولة بأنه نصاب مجرد ومتعال، أي محايد تجاه منازعات المجتمع وهي منازعات طبيعية لاختلاف الأفكار والمصالح وتضاربها التي ينبغي (المنازعات) ضبطها، وتقييدها بالقانون، لئلا تصطدم بالجامع المشترك المؤسس للاجتماع السياسي: المصلحة العامة . وهذا ما على الدولة أن تقوم به، حماية لها وللمجتمع على السواء .
يحدث أن تخرج الدولة عن نطاق وظيفتها هذه حين تبرح الموقع الذي هي فيه، موقع التعالي عن المنازعات السياسية، فتنزلق إلى التصرف كمجرد سلطة مملوكة من فئة أو جماعة سياسية . حينها تفقد هويتها، وتفقد معها وظائفها في التنظيم الاجتماعي وحماية السيادة، فلا تعود هي نفسها موطن إجماع، مثلما كانت، بل محط منازعة . والغالب عليها، في مثل هذه الحال، أن تتحول إلى هدف للنقمة من قسم كبير من المواطنين يحمّلها مسؤولية تهميشه، أو التحيف في حقوقه، أو التقاعس في حفظ أمنه . . الخ، وما أكثر الحالات التي انحط فيها نصاب الدولة إلى هذا الدرك .
ما أغنانا عن الحاجة إلى القول إن الوصول بالدولة إلى مثل هذا المآل هو مما يتضافر على صنعه كل من الفئة الحاكمة (النظام السياسي الحاكم) وقوى المجتمع المعارضة لها في بعض صور معارضتها . قد تكون الفئة الحاكمة مسؤولة عن دهورة صورة الدولة، في أعين مواطنيها، حين تسخرها لا لخدمة الأهداف العامة العليا والمصلحة المشتركة، بل لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة، كتسخير الجيش والقضاء للدفاع عنها، أو العبث بالدستور لتسويغ بقائها في السلطة، أو تحويل المال العام إلى مغنم خاص . . إلخ . وكما يفقد مثل هذه الممارسات هيبة الدولة، ويضعف من ولاء المواطنين لها، يجرئ كثيرين على التمرد خاصة المسلح عليها بدعوى أنها ليست دولتهم بل دولة الفئة الحاكمة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165248

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالإله بلقزيز   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165248 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010