الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015

“تبوح الحجارة” في بلاد ما بين المائين

الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015 par خالد الحروب

عند جذور جدران الحجارة في طول وعرض قرى وحواضر بلاد قداسة ما بين المائين هناك شهادة الكون الفائضة: تَخوْضُرُ الحجرِ واستنبات الزهر بين الشقوق يقول إن الناس هنا كانوا هنا قبل ضربة شق النهر وقبل صرخة وليد المهد. تغيّرُ لون الحجر وانحلاله مع بُنيّ الأرض وتماهيه فيه يقول إن نبع الماء سقى الشجر والحجر هنا، وظل يفور بالليمون، فيطلع فوق الأسطح وعلى الجباه. كلما اخضرت الحجارة وتلاحمت أساساتها مع البني كلما هزِئت أسقفها وأقواسها بالغزاة... وتعالت واستطالت على قرميدهم الغريب النازل على الأرض باستعلاء وفوقية. لطالما تحسر الغزاة على مشهد قرى فلسطينية بسيطة وفقيرة تطرز أفق البلاد، لكن غفوتها على ساعد سلاسل الحجر البني، تزدري مستوطنات متوحشة البناء، فولاذية الجدران وصلبة الأسطح، متوترة لا روح فيها، روح السارق في أسقف قرميد الغزاة جففت أرواح ساكنيها.
تحوم عدسة هذا الفلسطيني المبدع، أسامة السلوادي، رهيفة بلا كلل تلتقط الجمال المنثور في أرض طرية زاد جمالها كلما اصلب حجرها في وجه المحتلين.
تدور، وتدور، تقترب، وتقترب، ثم تحضن العين ما تختار بكل الدقة... والعناق.. تتجول في سماء الأرض وفوقها كأنها كيوبيد الأليف والمحبب يحمل سهامه ويقنص بها القلوب. هذه المرة ترضى عنه فينوس، إلهة الجمال، وتربت على شعره كلما قنص صورة بديعة وأودعها دفتي واحد من كتبه: “ملكات الحرير”، “كتاب القدس”، “كتاب الحصار”، “فلسطين... كيف الحال”، و... “ها نحن”.. يصيبنا السلوادي بسهام عدسته فلما نتصفح ما تلتقطه وقد مستنا أقدار الصبابة والأصالة والغموض، لا ندري عندها إن صرنا نتنقل بين صفحات صور أم نشاركه هذا العناق الطويل الممتد بطول الأرض مما احتضنته الكاميرا اللعوب. تتحول عملية التصوير إلى عناق متواصل، إلى رحلة وئيدة الخطى في عوالم كنا نظن أننا نعرفها ونراها في عادي أيامنا. تجبرنا براعة عدسته على التأمل في ما كنا نراه دوما ونعبر عليه بلا انتباه. تضطرنا إلى التخلي عن السرعة التافهة التي تمتطينا عندما نمرُّ محاذين الجمال وغير آبهين به. أرتنا عدسته “ملكات الحرير”... حقولا وبساتين وصبايا وتطريزات أثواب لم نكن نراها حقا رغم أنها كلها كانت أمام عيوننا دوما. عندما تصفحنا “الملكات” اخترقتنا حاسة البصر واخترقنا بها عوالم جديدة... صرنا زرقاء يمامة في اكتشاف أقرب الأشياء إلينا.
اليوم تخترقنا حاسة السمع ونخترق بها عوالم جديدة. يجبرنا السلوادي، هذا الكيوبيد الموهوب، أن نُصخي السمع بهدوء شديد إلى “بوح الحجارة”، وعنوان كتابه الجديد عن حجر فلسطين وعمارتها، ندني برؤوسنا وآذاننا إليها لتهمس لنا بكل الأسرار: بتواريخ الميلاد، وأسماء المواليد الأُول. بلون جدران الغرف، ونوافذ شموس الآلهة التي كانت تطمئن منها عليهم. تهمس في آذاننا بهتاف “في البدء كان الحجر”... و“في الختام كان بقاء بناته وساكنيه”. إن كنا تجولنا في صور “ملكات الحرير” رائين ومعانقين، ففي “بوح الحجارة” نواصل التجوال والعناق... منصتين وسامعين. تتوالى السردية الطويلة لهذه البلاد وأهلها بصرا وسمعا تجبلها الكاميرا والالتقاط المتمهل. بين دفتي هذا الكتاب المصور ثمة أكثر من مائتي لوحة بديعة تحوم حول حجارة فلسطين وعمارتها وسلاسلها القديمة وأسواقها العتيقة وجدران قراها المتكئة على كتف ماض عريق. تطوف الصور حول “الحجارة” كأنما كانت الشاهد اليقظ على بدء حراث أناس البلاد وزيتونهم. تحلق حولها وفوقها وتحتها فتستنطقها لتحكي وتستكمل الحكاية. إذن يمكن للحجارة أن تنطق في صور وأن تبوح لنا بروايتها هي لملحمة الوجود الفلسطيني واستعصائه على الإذابة والإبادة.
في البدء هناك بانوراما الصورة العريضة والكلية، الـ“زووم آوت”، تقول إن لهذا الحجر الذي شكّل وجه الأرض الطيبة وآوى ناسها مذاقا سحريا غريبا. وهو إذ يطلع من الأسفل صاعدا في جدار، أو منحيا في قوس، أو متعرجا في زقاق، أو مصلبا في شباك أو مصطبة، أو منتشرا بلا انتظام في كل مكان، فإنما ليكون امتدادا آخر للناس والأرض والتراب. يُصبحون جميعا خلطة غامضة ومعروفة معا كزعتر البراري. يصّاعد الحجر طبقة إثر أخرى في اجواز شجر التين والسنديان، منداحا على امتداد سماوات ثمان.
في اللقطات القريبة والحميمة، الـ“زووم إن”، نظل أيضاً أسرى طائعين للكيوبيد وعدسته. يقودنا أولا إلى “شبابيك”، الجزء الأول من سفره الحجري. وفيه تنفتح طاقات عتيقة في طول وعرض جدران الحجارة الطيبة. تنفتح للخارج، بثقة واطمئنان مُلّاك الزمن وأصحاب البيوت والكروم. ترحب بالمارين والغرباء: واسعة، عريضة، ولونها أخضر. تطل على بستان، أو حارة، أو فضاء منسدح، أو تلة تتمايل فيها شجرة كلمنتينا تثغو تحتها ماعز. في إحدى الصور المبدعة هناك حمامة بيضاء تطير فاردة جناحيها محاذية لشباك قديم.
وهذا زخرف عثماني ممهور باسم الدولة العلية وسلطانها. وهذه زخارف يتوسطها صليب يعانق السماء كأنما العدسة تجثو في مذبح الأرض وتلتقط ما اعتلى. نقلبُ صفحة فيحضننا باب مترع بالعتق بجانبه مفتاحان كبيران يسيل منهما عرق حماة المحاريث.
هنا “أبواب” محطة أخرى يتوقف عندها كيوبيد. أبواب تلاحق أبوابا في تصاوير وألوان كأنما لم تكن. أكل هذه الأبواب تتوسط جدران حجارتنا ونمر عليها ولا نراها؟
نترك الـ“أبواب” خلفنا لندخل إلى الـ“أقواس” فنرى كيوبيد وقد تعربش في أقصى نقاط تحدبها تاركاً سهام عدسته تلتقط زوايا التقاء الأقواس مع زرقة السماء وبياض غيومها. في عمقها البعيد نرى تلاحق بيوتات الحجر. هنا تتحول الأقواس كلها إلى أمهات من روح وحجارة لينة تحضن كل ما تحتها.
من جوانب طيات ثوبها نرى أفقا ثريا لا نهاية له.. نرى بيوتا ونوافذ وأبوابا وبرتقالا وأشواكا وخيولا وعصافير تتدفق من أسفل الأقواس.. أطياف لأمواج من الناس عطروها بالحكايا ورائحة التبغ، ودفعوها إلى أعلى بأكتافهم يوم عبروا من تحتها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2178710

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع خالد الحروب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2178710 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40