السبت 10 كانون الثاني (يناير) 2015

حراس الثوابت

السبت 10 كانون الثاني (يناير) 2015 par معن بشور

سئل مرة الرسام الايطالي الشهير ليوناردو دافنشي عن سر الطفولة في وجه لوحته الذائعة الصيت «الموناليزا ، أو «لاجوكاندا»كما يحب أن يسميها الإنكليز، أجاب الفنان الكبير»لأن البراءة لا تشيخ .

وفي حضرة الراحلين الثلاثة الكبار ابو ماهر اليماني والدكتور انيس صايغ ورفعت صدقي النمر رحمهم الله الذين بقوا حتى اللحظات الاخيرة من حياتهم رموزاً للحيوية والعطاء والبذل النضالي والعلمي والانساني نقول: «الوطنية لا تشيخ…»بل نضيف، كما تعلمنا من اساتذتنا وشيوخنا الراحلين، ان الوطنية لا تشيخ خصوصاً حين تقترن بالبراءة لأنها ترفض التعب، فحين تتعب القيادات أو الحركات فسرعان ما يتسلل الانحراف إلى النفوس والعقول، وحين يرتبط الانحراف بالمكابرة يسقط في مهاوي التفريط ايضاً ايضاً.

لذلك حين اطلقنا على الراحلين الأحياء لقب «حراس الثوابت الوطنية والقومية»فذلك لأنهم لم يفرطوا يوماً بفلسطين وتحريرها من النهر إلى البحر، وبالأمة العربية ووحدتها من المحيط إلى الخليج، فالوطنية لم تكن عندهم وجهة نظر، ولم تكن العروبة عندهم شعاراً نتغنى به في الخطب ثم نرميه في سلة مهملات مصالحنا وعصبياتنا وأحقادنا.

في سيرة كل واحد من الكبار الثلاثة الذين نحيي ذكرى رحيلهم اليوم، وقد رحلوا في مواعيد متقاربة على رغم تباعد السنوات، ما يستحق ندوات بل مؤتمرات كاملة، ولكنني سأركز في هذه الكلمة على سمات مشتركة في شخصيات جمعتها العقود كما العهود، جمعها العطاء كما الإباء، جمعها الصدق كما الالتزام، جمعها الحب لفلسطين كما التفاني في سبيلها، جمعها الإيمان بالعروبة هوية جامعة، كما التمسك بفلسطين قضية جامعة.

أجمل ما في سيرة الراحلين الثلاثة هو هذا التكامل الجميل بين شخصياتهم. وطبيعة عطائهم، بل تلك الإضافة النوعية التي أضافها كل منهم إلى طبيعة العطاء الذي أمتلأت حياته به.

فأبو ماهر اليماني، المناضل النقابي في فتوته، ثم الرمز المؤسس في أكثر من حركة أو جبهة ورفيق المؤسسيين، فَهِم النضال عطاء خالصاً من دون منة، والمواقع القيادية تكليفاً من دون امتيازات، والصلابة في الموقف نهجاً من دون مساومات، والدماثة في الخلق سلوكاً من دون شوائب، وتهذيب اللسان تعبيراً من دون اساءات، ونظافة الكف والقلب ترفعاً يحمي من السقوط في المغريات والاحقاد.

اما الدكتور أنيس صايغ، فقد كان من اوائل العلماء والبحاثة العرب الذين استهدفتهم جرائم العدو وطروده الملغومة مفتتحاً عصراً من هذا الاستهداف للعلماء العرب نراه منذ عقود في العراق وسورية ومصر وغيرها بهذه الذريعة أو تلك. لا بل ان الدكتور انيس صايغ رحمه الله قد ربط ببراعة عالية، وكفاءة مميّزة، بين الالتزام والعلم، فلم يستخدم الالتزام مبرراً للتساهل في صرامة المنهجية العلمية، ولم يستخدم العلم للتنصل من التزاماته الوطنية والقومية، فكان في العلم موسوعياً، وفي النضال مدرسة، وفي الالتزام قدوة لكثيرين.

رفعت صدقي النمر، ابن جبل النار في نابلس، وربيب ثورات فلسطين منذ فتوته، ورفيق القادة الفلسطينيين والعرب طيلة حياته، قدّم نموذجاً لرجل الأعمال الذي يعطي بصمت، ويقدم من دون استعراض، ويدرك عمق المحنة التي يمّر فيها شعبه في فلسطين والشتات، فتراه منخرطاً في أي عمل اجتماعي أو تربوي أو انساني يساهم في تضميد الجراح، وإغاثة المحتاج، ونصرة المظلوم، فكان قدوة لرجال اعمال فلسطينيين وعرب لو تحمّل أغلبهم مسؤولياته تجاه شعبه وأمته، كما فعل ابو رامي وقلة غيره، لما واجهنا ما نواجهه اليوم مآسٍ ممتدة من فلسطين إلى كل انحاء الوطن العربي. لقد كان ابو رامي يقارن بحسرة بين اثرياء الصهاينة الذين ينفقون المليارات لتهويد القدس ولبناء المغتصبات وللدعاية للباطل الصهيوني، وبين ثروات العرب التي تهدر على مظاهر البذخ والترف واللهو لا بل تتحول إلى خزائن من يحولها سلاحاً بيد الاعداء، وحرائق لفتن بين الاشقاء.

لقد شكل «الثلاثي الذهبي ، كما كنا نسميهم درعاً نضالياً وثقافياً واجتماعياً لقضيتهم الفلسطينية، كما لأهلهم من فلسطينيي اللجوء إلى لبنان، فكانوا في قلب كل مبادرة فلسطينة أو لبنانية أو عربية تشدد على معاني الأخوة بين الفلسطينيين واشقائهم العرب، كما كانوا بين طليعة الرافضين لأي تجاوز أو سلبيات يقوم بها محسوبون على الثورة فيسيئون لصورة فلسطين في لبنان وغير لبنان كما اساء عروبيون للعروبة، واسلاميون للاسلام، ويساريون لليسار.

كما شكل هذا الثلاثي، ومعهم كثيرون من زملائهم واشقائهم، سداً منيعاً بوجه أي تفريط يمكن ان يلحق بالحقوق الثابتة لشعب فلسطين، أو يمس الحقوق القومية للامة العربية، بل كانوا حاضرين في أي مبادرة أو مؤتمر أو حراك فلسطيني أو عربي لإيقاف مسلسل المساومات والتراجعات.

ولقد شكل هذا الثلاثي أيضاً وأيضاً، نموذجاً حيّاً لتلك العلاقة المصيرية بين فلسطين والعروبة مدركين ان المستعمرين الصهاينة ما اختاروا فلسطين ارضاً لمشروعهم إلا لطمس هوية الأمة وضرب حضارتها ومنع وحدتها، ومدركين أيضاً ان هذه الحرب المستمرة، بكل الوسائل والادوات، على هذه الأمة، ما كانت لتختار العروبة الجامعة وحاملي لوائها هدفاً مباشراً لها إلا لإدامة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين ولتفتيت الوطن العربي كله إلى عصبيات وكيانات عرقية وطائفية ومذهبية وعنصرية فيصبح الكيان الغاصب نموذجاً لها موجهاً لمصيرها ومثيراً لكل انواع الفتن فيها.

من هنا، حين قررنا في الحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمة والمنتدى القومي العربي ان ندعو لهذه الامسية، لم يكن ذلك مجرد فعل وفاء لمن يستحق الوفاء، ولا تأكيداً على أهمية التكامل بين الاجيال، والتواصل بين المراحل، والتراكم في التجارب فقط، بل لأن في كل واحد من ثلاثتنا الكبار قيمة نعتز بها ومنارة نهتدي بإشعاعها.

كلمة أخيرة نسوقها للراحلين الكبار، بالأمس قال القائد الثوري الكبير، وملهمنا جميعاً، الدكتور الراحل جورج حبش: «الثوريون لا يموتون أبداً ، ونحن نقول اليوم لأبي ماهر، والدكتور انيس، ولأبي رامي، الوطنيون لا يموتون ابداً، لأن الاوطان تحيا بأمثالهم ويحيون بها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2165923

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165923 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010