الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) 2015

هجرة المسيحيين العرب وتهجيرهم كارثة

الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) 2015 par عوني فرسخ

المسيحيون في المشرق العربي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي الوطني في كل أقطاره، ولهم مشاركتهم الفاعلة والمؤثرة في الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية العربية، والتصدي للاستعمار والإمبريالية وأداتهما الصهيونية . وحيث تشهد أقطار المشرق العربي جميعها تزايداً طردياً في هجرة مسيحية طوعية، وعدواناً تكفيرياً على وجود المسيحيين ومقدساتهم، بحيث لا يقتصر ضرر العدوان الآثم على الضحايا، وتدني نسبة المسيحيين في أرض العرب، وإنما أيضاً على ما عرفت به الحضارة العربية الإسلامية من انفتاح ومرونة في التفاعل مع الآخر وانعدام المشاعر العنصرية . وفي البرهنة على صحة ما ندعيه نذكر بالحقائق التاريخية التالية:
1- كان لعرب شبه الجزيرة تفاعل تاريخي مع شعوب متعددة الأصول واللغات والثقافات بحكم موقعهم الجغرافي وأهمية التجارة في حياتهم، ما جعل ثقافتهم تتسم بقدر من الانفتاح على الآخر وتميزها بانعدام المشاعر العنصرية ضده . بدليل ضرب مثال الشجاعة بعنترة العبسي أسود البشرة، والكرم بحاتم الطائي المسيحي النسطوري، والوفاء بالسموأل اليهودي . وقد جاء الإسلام يثري الثقافة العربية بتأسيسه العروبة على الانتماء الحضاري وليس الانتساب السلالي، بقوله عليه السلام : “ليست العربية بأحدكم بأب أو أم وإنما العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي” .
2- تميز الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي بعدم ممارسة التطهير العرقي، كما باعتماده حرية الاعتقاد في نشر الدين الحنيف . خلافاً لما فعله الفاتحون الأوروبيون مطلع القرن السادس عشر بإبادتهم أغلبية شعوب أمريكا الشمالية وأستراليا، وما اقترفته محاكم التفتيش الإسبانية حينها بحق المواطنين المسلمين واليهود الذين خيرتهم بين التنصر والرحيل القسري . والثابت أن الفاتحين العرب المسلمين لم يخيروا الشعوب التي دانت لسلطانهم بين الإسلام والسيف كما يزعم الجاهلون بالتاريخ العربي الإسلامي . وفي تأريخه لانتشار الإسلام كتب المستشرق البريطاني سير توماس آرنولد، في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” يقول: “لم نسمع عن أي محاولة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد به استئصال الدين المسيحي . . ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى آلان ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسات الحكومات الإسلامية من تسامح نحوهم” .
3- اجتهد الفقهاء في صدر العصر العباسي الأول، وأبرزهم أبو حنيفة، “نظام أهل الذمة” متضمناً الأمور الدينية والدنيوية لغير المسلمين . ويقول د . جورج قرم، في كتابه “تعدد الأديان وأنظمة الحكم”: “الذمي يتمتع بحقوق المؤمن وواجباته نفسها، في مجال القانون المدني، وقانون الملكية، والقانون التجاري” . وفي تقويم “نظام أهل الذمة” يقول د . أدمون رباط في كتاب “المسيحيون العرب”: “كان فتحاً في عالم الفكر وابتكاراً عبقرياً، لأنه لأول مرة في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبادئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة، من عسكرية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأنه من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها” . وقد تعدد الفقهاء الذين تصدوا للسلاطين والولاة دفاعاً عن حقوق “أهل الذمة” . ما فيه الإقرار بخصوصية غير المسلمين في المجتمع وبحقوقهم الدينية والمدنية . وتواصل العمل بنظام “أهل الذمة” حتى صدور “الخط الهمايوني” العثماني سنة 1856 .
4- أحدث المعتصم العباسي ردة في التاريخ العربي الإسلامي حين أقصى العرب من ديوان الجند واستعان بمرتزقة الجند الترك والديلم . وحول ردته كتب الإمام محمد عبده، في كتابه “الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية” يقول: “خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه”، وقد وصف الجند المرتزقة الذين استبدوا بالسلطان دون الخلفاء، بأنهم لبسوا الإسلام على أبدانهم ولم ينفذ منه شيء لوجدانهم، إذ لم يكن لهم العقل الذي راضه الإسلام، بحيث أساءوا للدين الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، وأرسوا قواعد الجمود الفكري وسوء الظن بالله، والتوهم بأن أبواب فضل الله أغلقت في وجوه المتأخرين ليرفع بذلك منازل المتقدين، وعدم الاعتبار بما ورد في الحديث من أن “هذه الأمة كالمطر لا يدري أخير أوله أم آخره” . وما قاله الإمام عن ترك الأمس لا يختلف كثيراً عن ممارسة أردوغان وأحمد داود أوغلو ودعمهم للجماعات إسلاموية الشعارات في الوطن العربي:
5- منح السلطان العثماني سليمان القانوني سنة 1535 فرانسوا الأول الملك الفرنسي امتياز “حماية” المسيحيين في الولايات العثمانية . وكانت “الامتيازات” حتى القرن الثامن عشر تمنح من قبل سلاطين أقوياء، في ضوء ما يرونه مصلحة سياسية أو اقتصادية . غير أنها غدت تعطى من السلاطين الضعفاء ترضية للدول الأوروبية الحليفة، أو لاكتساب مودة غير الحلفاء، ولم ينتصف القرن التاسع عشر إلا وصار المسيحيون واليهود في الولايات العثمانية مشمولين بالرعاية الأجنبية، وغدا لكل طائفة أكثر من دولة تدّعي حمايتها والنطق بلسانها، ما يسّر اختراق الاستعمار وإرساليات التبشير للمشرق العربي، وأذكى النزاعات الكنسية، وأصّل الطائفية، والولاء للخارج . غير أن ما كان قد تأصل في الثقافة العربية الإسلامية حال دون تفاقم حدة صراعات الطوائف، وحفظ التعايش المشترك، والحد من تأثير المخططات الاستعمارية لتعميق التشرذم في المجتمعات العربية .
6- يوضح فكتور سحاب، في كتيّبه : “من يحمي المسيحيين العرب؟”، أنه منذ الحروب الصليبية لم يكن الغرب الاستعماري هو الحامي للمسيحيين العرب كما يتوهم البعض، وإنما كان مجتمعهم العربي الإسلامي في أغلبيته العظمى هو الحامي . وفي تجارب الألف سنة الماضية ما يؤكد صحة قوله . ما فيه الدلالة الواضحة على زيف الدعاوى التي صدرت في واشنطن والعواصم الأوروبية لحماية ضحايا جرائم التطهير العرقي والتهجير القسري التي اقترفها “داعش” وغيره من الجماعات التكفيرية في كل من العراق وسوريا وغيرهما من الأقطار العربية . ذلك لأنه من غير الواقعي الركون إلى داعمي الحركات إسلاموية الشعارات والجماعات التكفيرية في حماية ضحاياها . ويظل تعميق الشعور الوطني والانتماء القومي هو وحده الدرع الواقية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165758

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عوني فرسخ   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165758 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010