الأحد 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014

دروس الأمس وحوارات اليوم

الأحد 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par معن بشور

هل يخطر ببال لبناني واحد اليوم أن يرى فرقة كوماندوس «إسرائيلية» واحدة تنزل في مطار عاصمته لأربعين دقيقة وتحطم 13 طائرة من طائرات أسطوله التجاري طيران الشرق الأوسط بالكامل ثم تغادر من دون أية مواجهة ولا بد من التنويه هنا إلى ذلك الرقيب الشجاع في الجيش اللبناني الذي أطلق رصاصات من بندقيته في تلك الليلة فتمت محاكمته وفصل من الجيش .

بل هل يمكن «إسرائيلياً» واحداً أن يتخيل اليوم أن بإمكان جيشه «الذي لا يقهر» أن ينفذ عملية ناجحة في مطار رفيق الحريري الدولي كما فعل ذات ليل في 28 كانون الأول عام 1968.

وهل يستطيع لبناني أو «إسرائيلي» أن يجد جواباً واحداً على سبب استحالة تكرار عملية نفذها الكوماندوس «الإسرائيلي» قبل 46 عاما ًإلا بوجود مقاومة لم تنجح في ردع تل أبيب من الاستخفاف بلبنان فقط، بل أحدثت تغييرا ًجوهرياً في معادلة الصراع مع العدو ما زالت تداعياته تتصاعد داخل كيانه نفسه.

أسئلة يطرحها اللبنانيون جميعاً، ومعهم الأشقاء العرب وأحرار العالم، وهم يتذكرون حدثا ًجللاً في إطار مواجهاتهم مع العدو، بل يخرجونه من غياهب النسيان، كأحد عناوين مرحلة كان العدو فيها لا يرى أن احتلال لبنان يحتاج

إلى أكثر من كتيبة مجندات على دراجات هوائية، كما قال موشيه دايان وهو المزهو «بانتصاراته» في سيناء والجولان والضفة الغربية قبل عام ونصف على عمليته «الباهرة» في مطار بيروت.

بل إنها أسئلة يطرحها اللبنانيون، فيما أبواب الحوار بين ساستهم المتنازعين تنفتح من جديد، وتعيد النقاش الموضوعي الحقيقي إلى مربعه الأول.

هل يمكن لبنان أن يتفادى عملية صهيونية كعملية مطار بيروت من دون مقاومة، وهل يمكن له من دون معادلة شعب وجيش ومقاومة أن يحول دون غزو كحرب آذار 1978 ثم كالحرب التي وصفت بأنها الحرب العربية «الإسرائيلية» الرابعة في حزيران 1982 وأدت إلى احتلال ثلث مساحة لبنان، بل هل يمكن لبنان أن يوفر لجنوبه المتاخم لشمال فلسطين آمناً وسلاماً وهناء وعمراناً كالذي يشهده منذ التحرير عام 2000 لولا إدراك العدو انه سيواجه قوة رادعة وفاعلة تتجسد بالمقاومة المتكاملة مع الجيش، والمستندة إلى بيئة شعبية حاضنة، وإلى عمق استراتيجي ممتد، سعى الأعداء ويسعون منذ سنوات إلى تمزيقه.

لكن ما حصل في مطار بيروت الدولي كان أكثر من عملية صهيونية مدبرة، وأكثر من اختراق أمني وعسكري وسياسي لسيادة دولة مستقلة لم تكن تملك حتى قرار الدفاع عن نفسها، لقد كان منعطفاً تاريخياً كبيراً في حياة لبنان، وإلى حد ما في حياة المنطقة بأسرها.

فلقد جاء ذلك العدوان ليكشف بكل وضوح أن تل أبيب ليست بحاجة إلى ذرائع كي تفرغ أحقادها على لبنان، إذ لم تكن هناك قواعد فدائية فلسطينية على أرضه يومذاك، ولا بالطبع مقاومة لبنانية مسلحة تناوب وتناوش على الحدود، بل إن هدفها الدائم هو الحرب على لبنان النقيض في نسيجه المتنوع للنموذج الصهيوني العنصري، وعلى لبنان المليء باحتمالات المواجهة الثقافية والفكرية والإعلامية للعدو الصهيوني، بل إن هدفها أيضاً الحرب على لبنان المنارة السياحية في شرق المتوسط والذي لم يتمكن العدو من منافسته على مدى عشرين عاماً 1948-1968 على رغم كل ما أحيط به من دعم واهتمام ودعاية.

ولعل في اختيار يوم سياحي يقع في قلب فترة الأعياد لشن ذلك الهجوم على مرفق سياحي هام كالمطار هو أكبر دليل على خشية هذا العدو من السياحة اللبنانية، وهو ما لاحظه كثير من اللبنانيين في مواعيد تفجيرات عدة شهدها بلدهم، أو تهديدات، عشية كل عيد من الأعياد التي يحتفلون بها.

كما أن ذلك العدوان، الذي وقع خلال العطلة الدراسية، لم يمر من دون وقفة طلابية كانت الأبرز والأطول والأضخم في حياة الحركة الطلابية اللبنانية.

فمع عودة الدروس إلى جامعات لبنان ومدارسه بادرت القيادات الطلابية في 3/1/1969 بالدعوة إلى إضراب مفتوح استمر لأكثر من ستة أسابيع، وشمل كل لبنان، وتعاون فيه طلاب اللبنانية مع الأميركية، وطلاب الجامعتين مع طلاب العربية واليسوعية، وتلاقت جميع الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكانت غضبة لبنانية عارمة لم يشهد لبنان مثيلاً لها إلا في الأيام التي سبقت الإعلان عن استقلاله عام 1943، بل غضبة وصفها يومها المشاركون فيها أنها «أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة».

من دون شك كان شباب لبنان متأثرا بما جرى قبل أشهر في جامعات فرنسا تحديداً، والغرب عموماً، من حركات طلابية واسعة، لكن ما حرك الانتفاضة اللبنانية الطلابية أيضاً كان الجرح الوطني الذي اخترق القلوب والعقول، كما المشاعر والوجدان والإحساس بالكرامة الوطنية.

لم يكن أمام الطبقة السياسية يومها إلا الانصياع، فاستقالت الحكومة «الرباعية» في 15/1/1969، ولكن حركة الشباب اتخذت منحى آخر، فقد ترجم بعضهم شعار «تسليح القرى الحدودية» بتشكيل فرق الدفاع الذاتي في الجنوب، واستقبال قواعد العمل الفدائي الفلسطيني التي لم تكن موجودة قبل العدوان ليقدم في صفوفها شهداء كـ أمين سعد الأخضر العربي – شبعا وحسين علي قاسم صالح في مزرعته حلتا في كفر شوبا، ثم واصف شرارة في بنت جبيل، وعبد الأمير حلاوي أبو علي في كفر كلا، وعائلة شرف الدين التي استشهد منها الأب علي ولداه عبد الله وفلاح ومعهم المدرس محمود قعيق في الطيبة في 11/1/1975 وقبلهم شباب من طرابلس محمد ديب الترك، أحمد هوشر، ومحمد حمود استشهدوا في 12 أيار 1970 على أرض كفر حمام والهبارية العرقوب وهم يقاومون العدوان «الإسرائيلي» يومها، وطبعاً التحق أيضاً شباب لبناني من الجامعات وغيرها بمنظمات العمل الفدائي في أغوار الأردن، ومعسكرات التدريب في سورية والعراق.

إن هؤلاء الشباب شكلوا بحق طلائع المقاومة اللبنانية التي تطورت واتسعت وتبلورت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في تحرير الأرض 2000 وردع العدوان 2006 .

وكما أطلقت تلك العملية بذور المقاومة المستمرة، أطلقت في الوقت ذاته نواة وحدة وطنية حقيقية، عمادها شباب الوطن، وأساسها الدفاع عن الوطن.

لم ينحصر الشعور الوطني بجامعات لبنان ومدارسه وحدها، بل امتد إلى كل بقاع الأرض اللبنانية وجهاتها، إلى المدن والأرياف، إلى الجبال والسهول، إلى المعامل والمصانع، وبدا الشارع اللبناني شبه موحد على نحو أنعش الأمل بلبنان وطني ديمقراطي عربي متجاوز للعصبيات الطائفية والمذهبية.

وجاء الحريق في ربيع 1975، وتضافرت عوامل داخلية وخارجية على إشعاله، لكن أحداً ممن عاشوا تلك المرحلة لا يستطيع أن ينكر أن أحد أهم أسباب اشتعال الحريق هو خشية الطبقة السياسية الحاكمة أن يفلت الشارع من سيطرتها، وأن يخبو نجم أركانها، وأن ترى لبنان جديداً يبنى بسواعد أبنائه وعقولهم.

وعلى رغم ما كان يبدو من خلافات على السطح بين رموز تلك الطبقة، لكن بقي هناك رابط خفي يحرك سياساتهم إذ تعاونوا معاً على محاصرة الروح الجديدة، وتولى كل واحد منهم أمرها في منطقته، فيما لم تكن قيادات المرحلة الجديدة على قدر من الخبرة والتجربة والاستقلال عن المؤثرات الخارجية ما يمكنها من إفشال مخططات المتربصين بوحدة لبنان وديمقراطيته وعروبته وتطلعات شبابه.

يبقى يوم 28 كانون الأول، على رغم كل محاولات طمسه بكل دلالاته السيادية والوطنية وبكل تداعياته المتمثلة بإطلاق روح الوحدة الوطنية والمقاومة معاً، يوماً فاصلاً في حياة لبنان.

وإذا كانت الآمال التي انعقدت على تداعيات ذلك اليوم والتفاعلات التي أطلقها قد أحبطت، وعلى رغم أنه يبدو بعيداً ذلك اليوم الذي نرى فيه شباب لبنان قد اتحدوا من جديد، محطمين قيود التعصب والتمذهب والتحزب، فان تسليم اللبنانيين بحماية المقاومة، والتوحد حولها، متجاوزين ما بينهم من ملاحظات أو تحفظات متصلة بالأداء السياسي لفريقها، يبدو اليوم الخطوة الأولى في استيلاد لبنان الجديد بكل أبنائه ولكل أبنائه.

فلبنان العربي الديمقراطي الموحد ليس مكسباً لبنانياً فقط، بل هو مكسب لكل العرب، وقد انتقلت لديارهم أمراض سبق أن فتكت بلبنان. كما أن لبنان القوي ليس قوياً لنفسه فحسب بل هو قوة لكل العرب.

فهل تستفيد حوارات العام 2015 من دروس بدأت مع نهايات العام 1968؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010