الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014

في تبلور الهُويّة الوطنية الفلسطينية

الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par خالد الحروب

خضعت تمظهرات الهُويّات الفلسطينيّة لتحوّلات عميقة وجذريّة في التاريخ المعاصر في سياق حقبة ما بعد الاستعمار الغربيّ للمنطقة، واستمرار السياق الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين. في السياق الإقليميّ، تنافست هُويّات قوميّة وحديثة تحيط بفلسطين على استبدال وَ/أو إعادة إنتاج مزيج الهُويّات المتبقّية من الماضي البعيد والماضي القريب، نحو الهُويّات (وتفرّعات الهُويّات) الدينيّة والإسلاميّة والعروبيّة والقَبَليّة والإقليميّة.
استنزفت النخب الحاكمة في الدول القوميّة الوليدة في الشرق الأوسط طاقاتها في سعيها لتأسيس (أو-بالأصحّ- تخليق) هُويّات وطنيّة متميّزة حول ما يُفترض أن تدور حولها “القوميات” الوليدة و“مواطَنتها”. وبعد عقود على نشوء الدول الوطنية (القطرية) العربية لم تتم بعد تسويةُ التوتّرات بين المركّبات المختلفة (والمتضاربة أحيانًا) لهذه الهُويّة الموحّدة المنشودة، والتي تدور في المقام الأوّل حول صدارة مكوّناتها الدينيّة أو القوميّة.
بعض تلك التوترات يجد صداه في عمليّات تشكيل وإعادة تشكيل الهُويّة الفلسطينيّة. بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر حتّى يومنا هذا، يمكن النظر إلى الجدال والتنافس والتصالح وَ/أو الصراع بين “القوميّ” و“الدينيّ” كمسار تكامليّ في عمليّة صياغة الهُويّة الفلسطينيّة، وكجزء من عمليّة تدوين تاريخ هذه الهُويّة.
رغم ذلك، تبقى فكرتا “القوميّ” و“الدينيّ” عاجزتين عن توفير فهم شامل لنشوء وتشكيل الهُويّة الفلسطينيّة بالمنظور التاريخيّ. رغم الطبيعة النافذة لهذين الآليتين في تأسيس الهُويّات، فقد جرى تطويعهما -كما ستدّعي هذه المقالة- لسياق وسيرورة أقوى، ألا وهي المقاومة.
وعلى خلاف الحالات العربيّة/ الشرق أوسطية الأخرى، تجاوز السياق الاستعماريّ المتواصل في فلسطين الإطار الزمنيّ للتجارب الاستعماريّة الأخرى، بحضوره الشامل وبالجهاز التمييزيّ الوحشيّ المفروض على الفلسطينيّين، هذا السياق مازال يقوم بدور المصمّم المطلق للهُويّة الفلسطينيّة وللواقع الفلسطينيّ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.
الردّ الفلسطينيّ الذي لا ريب فيه لهذا السياق على امتداد القرن الأخير كان المقاومة. فكرة المقاومة أدّت دورًا عظيمًا في التأثير على مفهوم الفلسطينيّين لذاتهم الجماعيّة، وفي خلق “فلسطينيّتهم”. وبوعي أو دون وعي، تحوّل فعل المقاومة إلى “مانح” الشرعّية المركزيّ، وأُجبِرَ حتّى “القوميّ” و“الدينيّ” على تقديم (وإعادة تقديم) أنفسهما للجماهير من منظور المقاومة. الملاحظات سوف تركز على مرحلة ما بعد الحرب. اقترابا من سؤال: وماذا بعد؟
الهوية الوطنية national identity مفهوم جديد في التاريخ السياسي للجماعات البشرية ومرتبط عضويا بمفهوم “الدولة الأمة” nation state. وربما يمكن اعتبارها الشقيقة التوأم للدولة الحديثة. في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية لم يكن ثمة حاجة لهذا المفهوم الذي صار له أن يتطور خلال القرنين الماضيين. متوازياً. مع تكرس فكرة السيادة القومية. ليحتل مكانة قريبة من المقدس. كانت المجموعات البشرية والأقوام وفي سياق الأنظمة الإمبراطورية العابرة للحدود الجغرافية والديموغرافية معرفة بقواسم ومميزات لكل منها يتمثل في الاشتراك في الجغرافيا. وكثافة العلاقات التبادلية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية والمكونات المشتركة. مقارنة ببعضها البعض. وما ينتج عن ذلك من وعي رخو بذات جمعية متعينة.
العوامل المشتركة التاريخية والثقافية والاجتماعية تلك. وإلى جانب طبيعة العلاقة مع “الآخر” والرغبة في التمايز عنه. وقفت وراء تبلور الهويات الوطنية كنتاج سيرورات مركبة وظروف مختلفة. طبيعة العلاقة مع الآخر في فضاءات عريضة من العالم حددتها تجربة الكولونيالية الغربية التي أسهمت في بروز واستقواء هويات وطنية في البلدان المُستعمرة. لكن هذه الهويات لم تكن نتاجا حصريا لهذه الكولونيالية. بل هي إعادة استحضار لمكونات تاريخية وجغرافية وثقافية وتشغيلها في إنتاج “هوية وطنية” مقاومة للاستعمار. وهكذا فإن “المقاومة” اشتغلت عمليا على إعادة صوغ تصور الجماعة الوطنية عن نفسها وأصبحت الآلية الأهم في تشكل الهوية الجمعية. وفي الوقت نفسه لا يمكن القول إن المقاومة هي الآلية والمكون الحصري للهوية الوطنية حتى لو كانت تلك الهوية قيد الاستعمار.
ويمكن تصور عبور الهوية الوطنية في العصر الحديث وفي السياق الكولونيالي وما بعد الكولونيالي في مرحلتين: الأولى هي انتزاع “الوطنية” والتحرر من المستعمر. ثم انتزاع “المواطنة” من النظام السياسي في مرحلة الاستقلال. معنى ذلك أن التحرر من الاستعمار لا يجلب معه التحقق الكامل للهوية الوطنية. بل تخلصها من السيطرة الخارجية فقط. بينما لا تُنجز تماما إلا من خلال تحقيق “المواطنة” في المرحلة الاستقلالية التالية.
ومن المهم مفهوميا كسر حصرية المقاومة بالكفاح المسلح. فإضافة إلى هذا الأخير فهي تتضمن الأفكار والآليات والممارسات والجهود التي تتوجه أساسا نحو رفض النظام الفوقي للاستعمار أو القوة الأجنبية المسيطرة والتمرد عليه والتخلص منه. وهذه كلها تشكل مع الزمن وتكرس الفعل المقاوم الوعي بالذات الجمعية. ويصبح الالتزام بها. سواء عبر الممارسة المباشرة أو الإقرار بشرعيتها. هو المُعرف الأساسي لمعنى الانتماء لقوم ما. على ذلك قد تكون المقاومة. في السياق الفلسطيني مثلاً. الكفاح المسلح. أو المقاومة السلمية. أو النضال ضد السياسات العنصرية (كما في حالة فلسطيني الداخل).
وخلال مرحلة التحرر من الاستعمار فإن المقاومة (على المستوى الفلسطيني وغيره) وتبعا لتعقلها بكونها مؤسسا تكوينيا مرتبطا بالهوية تشتغل على عدة مستويات مهمة. أولها. أنها تعمل على منح الشرعية وحجبها للأفكار والممارسات التي تنشأ تحت الحكم الكولونيالي. فمن (وما) يلتزم بالمقاومة وأهدافها وينخرط فيها ينتمي لـ“الجماعة الوطنية” ويتصف بـ“هويتها”. وثانيها. كونها تصبح أحد أهم معايير التأثيم الفردي والجماعي بدءاً من الحد الأدنى وهو الشعور بالتقصير لعدم الانخراط فيها وممارستها. ووصولا إلى الحد الأعلى وهو الطرد من الهوية الوطنية في الحالات القصوى كالخيانة والتخابر مع العدو. وثالثها. أنها تعمل على شرعنة الفعل النظري والعملي. السياسي. والديني. والاقتصادي. والفني. والثقافي. وتعطيه رخصة مزاولة الحياة الاجتماعية: وينشأ تبعا لذلك “الاقتصاد المقاوم” و“الفن المقاوم” و“الدين المقاوم”. وكأن أيا من هذه الأنشطة لن يتمتع بممارسة الشرعية الكاملة ما لم يرتبط بالمشروع الأعلى “المقاوم”.
تطورت مركزية المقاومة في سيرورة تشكل الهوية الفلسطينية ومرت في حقب متلاحقة. خاصة في أعقاب بروز حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي. وشبه التماهي بين المقاومة والهوية. وظلت كذلك إلى توقيع اتفاق أوسلو. عندها توقفت المقاومة (كإطار جامع للهوية والفاعلية الفلسطينية) وانتقل الوضع الفلسطيني إلى الغموض الخطر. ومكمن الخطر في هذه الحقبة يتمثل في الوقوف في منتصف الطريق حيث أخرجت المقاومة ذاتها من المعركة ضد المستعمر قبل إنهاء مهمتها الطبيعية وهي التحرر والاستقلال. وقبل الانتقال إلى الدولة الحاضنة الحديثة للهوية الوطنية. أدى ذلك إلى بروز مشروعين متناقضين “المقاومة عند حماس” و“الحل السلمي” عند الفصائل الوطنية. وبذلك لم تعد المقاومة هي المشروع الناظم والجامع للفاعلية والهوية الفلسطينية. خلال الحقب الزمنية راكمت منظمة التحرير وحركة حماس “رأسمال مقاومي”. تم استنزافه في مشروعين غير متجانسين: المفاوضات. والأسلمة. رصيد فصائل منظمة التحرير من سنوات الستينيات وحتى أوسلو. تم استنزافه في مشروع المفاوضات وبناء السلطة الفلسطينية. ورصيد حماس المقاومي تم استنزافه في مشروع الأسلمة المجتمعية. ومع نفاد الرصيد المقاومي بأكمله عند الطرفين تنكشف المشروعات الخلافية وتصطدم ببعضها البعض وتتحرك من دون إقناع وفي غياب غطاء المقاومة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165856

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع خالد الحروب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165856 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010