الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014

الشرعية الأخلاقية

الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par فهمي هويدي

أصبح مصطلح السلطة الأخلاقية أحد أشهر عناوين المرحلة. إذ منذ أحيط العالم علما بمضمون تقرير التعذيب الذي أصدره مجلس الشيوخ الأمريكي، فإنه ما إن أفاق كثيرون من الصدمة حتى بدأت أصداؤها تتردد في أروقة السياسة ووسائل الإعلام وأصبح الجميع بغير استثناء يتحدثون عن انهيار السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة. وهو ما عبر عنه بيان البيت الأبيض الذي صدر باسم الرئيس الأمريكي وأدان فيه مسلك المخابرات المركزية، قائلا إنه يقوض السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة. وقد تجدد الحديث عن انهيار تلك السلطة في أعقاب المظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة احتجاجا على عنصرية الشرطة والنظام القضائي وانحيازهم للبيض ضد السود. الأمر الذي دعا الرئيس الأمريكي إلى توجيه بيان أعلن فيه أن العنصرية البغيضة لا تزال متأصلة في المجتمع الأمريكي.
إزاء تواتر الحديث عن السلطة الأخلاقية فإن ملف العلاقة بين الأخلاق والسياسة انفتح من جديد. وجرى استدعاء مقولات الأقدمين من سقراط وأرسطو وشيشرون إلى نيتشه وشوبنهاور، مرورا بمكيافيللي الذي نحّى الأخلاق دائما في حديثه عن حضور السياسة ومسارها.
ومن الباحثين من قال إنه كلما تعاظمت القوة تراجع الالتزام الأخلاقي، وإنه عبر التاريخ فإن السياسة لم يسبق لها أن ابتعدت عن الأخلاق بالدرجة التي هي عليها الآن. في تأكيد على أن الارتقاء في مدارج القوة استصحب انحطاطا في أخلاقيات أهل السياسة. ذلك أن التقدم العلمي الكبير الذي حدث في العالم المعاصر مكن الأقوياء من ارتكاب ما لا حصر له من الشرور بأساليب ذكية ومبتكرة يصعب اكتشافها، إلا إذا بُذل جهد خاص لأجل ذلك.
في كل الأحوال فإنه ربما كان بمقدور أهل السياسة أن ينجزوا أو يفرضوا أي شيء بما يملكون من سطوة وسلطان وامتلاك لأسباب القوة. لكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون فرضه على الآخرين هو ضمان استمرار سلطتهم الأخلاقية. إذ بوسعهم أن يشيعوا الهيبة والخوف لكنهم لا يستطيعون أن يجبروا الآخرين على احترامهم. ذلك أن السلطة الأخلاقية شعور داخلي يتوافر بالتراكم وبتواتر الالتزام بالقيم الأخلاقية المعتمدة. ومحورها في عالم السياسة لا يخرج عن نطاق العدل والحرية والكرامة الإنسانية للجميع بغير استثناء.
وبعد الذي خبرناه في التجربة الأمريكية سواء مع السود في الداخل وبشكل أفدح وأكبر مع المشتبه بهم أثناء ما سمي بالحرب ضد الإرهاب فإن ملف السمعة الأخلاقية للولايات المتحدة أصبح متخما بشهادات السقوط والإدانة. وقد كان من أحدثها وأقربها إلى الأذهان في العالم العربي على الأقل ممارسات جنودها في سجن أبوغريب بالعراق التي صدمت العالم الخارجي حين ذاعت صورها وانفضح أمرها في عام 2004.
إحدى مشكلات ومزايا السلطة الأخلاقية أنه يتعذر اصطناعها لأن التاريخ هو الحكم الوحيد فيها. وربما كان بمقدور البشر الغش فيها والاحتيال عليها بعض الوقت سواء من خلال الإخفاء والتستر أو من خلال التمويه الإعلامي. إلا أن ذلك كله لا يستمر بأي حال طول الوقت. وفي عالمنا العربي نماذج عدة لأنظمة تقدم في وسائل الإعلام باعتبارها نماذج ناجحة ومبهرة ومستقرة، لكنها في حقيقة الأمر حافلة بالانتهاكات التي تفقدها سلطتها الأخلاقية، التي محورها الإنسان وليس العمران.
لن نذهب بعيدا ففي التجربة المصرية تمت تبرئة مبارك وأعوانه، خصوصا أولئك الذين مكنوا لاستبداده ولتزوير الانتخابات. كذلك تمت تبرئة الضباط الذين اتهموا بقتل المتظاهرين.
حتى أعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية أن صفحة الشرطة صارت بيضاء تماما ولم يعد هناك ما يشوبها أو يجرحها. لكن حكم القضاء ليس بالضرورة حكم التاريخ. والأول مؤقت وعارض ويمكن افتعاله في حين أن الثاني هو الباقي والمستمر والعصي على التلاعب والافتعال. ذلك أن المجتمع يعرف جيدا أن هؤلاء جميعا ليسوا أبرياء وأنهم فاقدو السلطة الأخلاقية رغم كل محاولات التزيين وأقنعة التجميل التي أخفت أفعالهم وسترت عوراتهم.
إن تجربة نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا أكسبته سلطة أخلاقية ستظل باقية على مر الزمان. أما تجربة إسرائيل مع الفلسطينيين فإنها لم تبق لها على أي رصيد في مجال السلطة الأخلاقية. وإذا كانت المحرقة التي تعرض لها اليهود من أبرز الأسباب التي قوضت سمعة النازيين، فإن ما فعله الإسرائيليون بحق الفلسطينيين على مدى أكثر من ستين عاما يتجاوز بكثير أصداء المحرقة، رغم حملات الدعاية القوية التي أرادت أن تصور المحرقة كما لو كانت أفظع الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية.
في ثقافتنا العربية والإسلامية لا يشيع مصطلح السلطة الأخلاقية الذي هو من إفرازات الثقافة الغربية. وأغلب الظن أن كلمة النفاق تؤدي الغرض نفسه في وصف فاقدي السلطة الأخلاقية من حيث إنهم يظهرون غير ما يبطنون، وفي حدود علمي فإن موضوع السلطة المذكورة لم يثر جدلا يذكر بين علماء المسلمين وفقهائهم، أغلب الظن لأن شمول الرؤية الإسلامية لم يُقِم فجوة أو فاصلا بين الأخلاق والسياسة حيث اعتبر الدين مرجعا للاثنين الأمر الذي استوجب الاحتكام إليه في الوسائل والأهداف. وبالتالي ظلت الاستقامة شرطا أساسيا لشرعية الاثنين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2180921

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2180921 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40