السبت 20 كانون الأول (ديسمبر) 2014

تعددية صنّاع القرار

السبت 20 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par د. عصام نعمان

ثمة ظاهرة لافتة تعمّ معظم الدول والكيانات في عالم العرب والمسلمين . إنها تعددية صنّاع القرار . في الماضي، غير التليد، كان القرار في الدولة وقفاً على من يحكم أو عدد محدود من ذوي السلطة المقربين من صانع القرار الأول . . والأخير . في الحاضر المأزوم، ازداد عدد صنّاع القرار ليس في الدولة فحسب بل في كيان أو كيانات داخلها أيضاً توازيها وتتعايش معها . لماذا؟
لأن الأوضاع تغيّرت كثيراً في دول العرب والمسلمين ومن حولها . التغيير شمل ميادين الحياة جميعاً، ولا سيما الميدانين السياسي والاجتماعي . قامت انقلابات عسكرية في بعضها فآلت السلطة إلى حاكم فرد له السلطة والقرار، أو إلى مجموعة عسكرية يشاطره أعضاؤها السلطة والنفوذ . كما نشأت في بعضها الآخر أوضاع سياسية تتسم بقدر من التعددية الفئوية والحزبية ما أدى الى توزّع السلطة بين قادة ومسؤولين متعددين يشاركون في صنع القرار أو يحولون دون اتخاذه .
في النُظُم السياسية الأوتوقراطية، كان ثمة ملك أو رئيس واحد ومرؤوسون متعددون . الملك، أو الرئيس، يقرر والمرؤوسون ينفذون . في نظام الحكم العسكري قد يحتكر قائد الانقلاب القرار لمدة تطول أو تقصر، أو قد تتوزّع سلطة صنع القرار بين أعضاء مجموعة يشارك أعضاؤها، بنسب متفاوتة، في صنعه أو ربما يختلفون فيعطلون عملية اتخاذ القرار . وقد يتطور الوضع الداخلي في الدولة نحو نظام أكثر تعددية وديمقراطية فتتوزع سلطة اتخاذ القرار بين رئيس الوزراء ووزراء ورؤساء تكتلات برلمانية ما يؤدي أحياناً إلى حال من الفوضى وانعدام القدرة على صنع القرار .
لنأخذ العراق مثلاً . في العهد الملكي، كان القرار الأول والأخير للملك، يعاونه في اتخاذه رئيس الوزراء وبعض الوزراء المقربين إليه . بعد انقلاب 14 تموز/ يوليو 1958 آلت السلطة الى مجلس عسكري مؤلف من ضباط نافذين، ما لبث أن تفرّد بها اللواء عبد الكريم قاسم . ثم قام انقلاب على قاسم ومجموعته عام ،1963 فتسلّم السلطة مجلس عسكري ما لبث أن تفرّد بها ضابط نافذ، عبدالسلام عارف، وبعد مقتله أخوه عبدالرحمن عارف ومجموعة من الضباط والمسؤولين النافذين .
في العام 1968 قام ضباط حزب البعث وأعضاؤه بانقلاب، فتسلّم السلطة وصناعة القرار مجلس قيادة الثورة المؤلف من ضباط وأعضاء نافذين في الحزب المذكور . بعد نحو عشر سنوات تفرّد بالسلطة وصنع القرار زعيم الحزب صدام حسين الذي أصبح رئيساً للجمهورية وقائداً اعلى للقوات المسلحة . عقب احتلال العراق العام ،2003 آلت السلطة الى حاكم امريكي، بول بريمر، ومن ثم الى مجلس لإدارة شؤون الدولة عيّنه بريمر . وبين بريمر وهيئات أخرى كان عيّنها بنفسه، جرى “إقرار” مشروع دستور جديد على أساس الفدرالية كانت قد أعدّته وزارة الخارجية الأمريكية . في العهد الفدرالي تعدّد اصحاب السلطة وصنّاع القرار، بل توزّعت السلطة وصناعة القرار بين رئيس الجمهورية ونوابه ورئيس الوزراء والوزراء والمحافظين (حكام المحافظات) فضلاً عن رئيس اقليم كردستان العراق ذي الحكم الذاتي .
سبقت ظاهرة تعدد أصحاب السلطة وصنّاع القرار في العراق الفدرالي ظاهرة نشوء كيانات على أسس إثنية أو قبلية أو مذهبية في دول عربية وإسلامية عدّة . كل من هذه الكيانات له بعض مواصفات الدولة وسلطاتها ومهامها الى جانب تمتعه باعترافٍ سياسي ودبلوماسي من دول وحكومات، وبعقد اتفاقات وإقامة ترتيبات سياسية واقتصادية وأمنية معها . أبرز الكيانات التي تحاكي الدول في مواصفاتها ومهامها كيان طالبان في أفغانستان والكيان الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وكيان حزب الله في لبنان، فضلاً عن الكيان الكردي في شمال العراق .
لنأخذ الكيان الفلسطيني مثلاً . إنه كيان متعدد السلطات . ثمة سلطة وحكومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورئيس حكومة ووزراء في كلٍ منهما . وثمة حركات وجبهات مقاومة في كل منهما لها سلطة ونفوذ وقادة يشاركون الحكومتين في صنع القرار وتنفيذه أو الحؤول دون ذلك، فضلاً عن وجود منظمة التحرير التي يفترض أيضاً أن يكون لها دور في صناعة القرار .
إلى أصحاب السلطة وصنّاع القرار السالفي الذكر، ثمة أفراد داخل السلطات والهيئات الناشطة في الضفة والقطاع أو من خارجها لهم دور أيضاً في صنع القرار أو في الحؤول دون صنعه . إنهم أولئك الاستشهاديون الذين يبادرون، من تلقاء أنفسهم، إلى مناهضة ومقاتلة سلطة الاحتلال الصهيوني بشكل أو بآخر وباستقلال عن “السلطة الرسمية” الفلسطينية والهيئات النافذة الموازية أو المنافسة لها ما يؤدي الى نتائج سياسية ومادية محسوسة، فضلاً عن إحراجات مربكة لها ولسلطة الاحتلال .
هذه الحال من التعددية المرهقة التي ترتع فيها “إسرائيل”، ومثلها الحال في العراق ولبنان وليبيا واليمن، تجعل صناعة القرار في تلك الدول والكيانات القائمة فيها أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً .
صحيح أن لتركيبة الدول والكيانات المار ذكرها دوراً فاعلاً في وصولها في حال من الفوضى وعدم القدرة على صنع القرار، لكن ثمة دوراً لعاملين آخرين في هذا المجال . الأول، تدخلاتُ دول كبرى وأخرى إقليمية نافذة في تحريك أو تمويل أو تسليح واحد أو أكثر من المكوّنات التي تزخر بها مجتمعات الدول والكيانات المشار إليها آنفاً . الثاني، التطوراتُ التكنولوجية في شتى مناحي الحياة التي جعلت الفرد أكثر قدرة على التعلّم والتدرّب والتواصل والتسلّح والاستحواذ والتسيّد . باختصار، بفضل التكنولوجيا الحديثة وإنجازاتها أصبح الفرد أكثر قدرةً واستقلالاً وفاعلية .
يتحصّل من رصد ظاهرة تعددية صنّاع القرار التي تسود دول العرب والمسلمين أن الخروج منها عملية طويلة ومعقدة، وأن التدبير الأساس المطلوب لتجاوزها ربما يتمثل في توحيد السلطات وصنّاع القرار المتصارعين والمتنافسين أو، في الأقل، اختزالهم على نحوٍ محسوس لضمان فاعلية الإنجاز والتنفيذ .
المسار طويل ويتطلّب ثقافة جديدة وموازين قوى مغايرة ونَفَساً طويلاً .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2165580

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عصام نعمان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

27 من الزوار الآن

2165580 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010