السبت 13 كانون الأول (ديسمبر) 2014

العروبة بريشة كندية

السبت 13 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par نسيم الخوري

أمس، خرج جدّي الأوّل على رأس قبيلته من الغساسنة من خلف سدّ مأرب نحو الشمال بعدما انهار السد تحت أسنان فأرة قضمته . واليوم وغداً، يعود حفيدي نحو بقايا السدّ في اليمن قابضاً على الماوس Mouse ليفتح بها نوافذ المستقبل . نعم، استوى جدّي فوق رائحة السمك في بحور الشرق الأوسط راسماً تاريخه بقشّةٍ فوق الصحاري الممتدّة نحو الشمال وتركها لنا مجلدات رملية من التوصيات والتمنيات والمؤتمرات والهزائم تغذّى بها أبناء العرب طلباً لوحدتهم طوال ستين قرناً لا تغيير في بقعة العرب سوى في انتظار الأحفاد . وكانت بيروت، مدينتي مثلاً، التي استقرّت خطواته الأولى فيها، تقول بأنها عاصمة الفكر العربي ومطبعة العرب وجامعتهم ومدرستهم ومشفاهم ولوحتهم الجميلة الغالية .
تصرخ بأعلى صوتها حنجرةً لتلقّف المسؤولين العرب وكتّابهم وإعلامييهم وشعرائهم ومعارضيهم يراكمون في فنادقها ومقاهيها ومطاعمها وشوارعها التي لا تنام كلاماً جديداً في الديمقراطية والحريّة والموضة والمعارضة والتغيير . وبقيت بيروت بحيرة العرب وحبّة اللوز الأخضر يملّحونها ببقايا الصحراء العالقة فوق شفاههم، بعدما يطفئون شموسهم في نعاسها . لكنّ بيروت كانت الأولى التي تتأهّب للجرح والرحيل . وكانت الطفلة اليتيمة التي لا اسم لها أو شهرة أو ديناً أو مذهباً أو مهنةً، تنافس الجواهر المصفوفة في حقول المعارض والأفكار، وتعتبر نفسها العاصمة المشرقية الرائدة التي تلتفّ حول معصمها مجمل عواصم المشرق العربي . لم تكن تتردّد بالقول إنها الرائدة في توصيف التنافس والغيرة الفكرية والثقافية التي قامت وتقوم بين عواصم المشرق العربي ومغربه وخليجه .
فالمغرب العربي، كان وما زال يعاني من تداخل شرايين الحبر واللسان بين العروبة والفرنجة . يتكوّم المغرب العربي وبلدان شمالي إفريقيا فوق الشاطئ الشمالي لبحيرة الأبيض المتوسط وتحديداً فرنسا حيث تطفو الفرنسية والإيطالية والإنجليزية فوق الألسنة، بينما ينزاح المشرق العربي، اليوم، بالرغم من الاعتدادات كلّها مسلّماً أموره الفكرية والسياسية والثقافية وشعوبه إلى مناخ من الضياع وفقدان الهويات وضمور الإبداع وضجر الوقت والتلذّذ بالدم . وبين المشرق والمغرب، ينام بعض الكتّاب خلسة على نهضة تتبعثر في كتابة رسائلها بين بيروت ودمشق وبغداد وعمّان والقاهرة والجزائر وتونس وغيرها . ويبدو الخليج العربي، في هدأته المنقوشة بالقلق والحضارة الهادئة، مثل السهوب الكندية الممتدّة أمامي، مع فارق بسيط يضاف إلى الفروقات الطبيعية بين القيظ والثلج .
تستيقظ هنا في مونتريال أو هاليفكس وغيرها، ولا تجد في عناوين صحفها مثلاً، سوى شكر الحكومات وجوائزها للجمعيات التي ساعدت العائلات التي تبنت القطّط الشريدة فآوتها، أو تقرأ تحذيراً لمواطنيها من بعض النباتات والأعشاب الخطيرة التي قد تنبت في حدائقهم الأليفة التي تغمر بيوتهم الزجاجية، فتؤذي بإفرازاتها الصباحية العينين والجلد وكأنه أذىً يفوق تهديد “إسرائيل” أو الأمن القومي في البلاد المرتجفة في المشرق العربي . قد تقرأ عن الاحتفالات الرسمية بعد زرع الأشجار الجميلة المصفوفة على امتداد الشوارع تحيي المارّة عند الصباح وفي المساء بخضرتها بدلاً من تماثيل الزعماء الأبديين المنصوبة في الشوارع والساحات المناضلة، وحيث نقرأ في صدور صحفنا المآسي والمجازر والنديب اليومي الذي لا يكلّ في توصيف الفشل والهزائم والشكاوى .
أكتب من بعيد بين حبرين: حبر يسيل خلف الدم يغطّيه ويذكيه ويبقي على طراوته، وحبر يخاف من انحدار الدم فيقطع حيل العرب نزولاً نحو الماء ليطفيء حرارته ويذيب بعض الأحزان والأحقاد السياسية والمذهبية التاريخية المحشوة فيه . تلك هي مشقّة الكتابة بين الغرب والشرق أو بين مسلم وآخر وعربي وآخر أو فوق خطوط الهزات العربية وفيالقها، بحثاً عن فهم مستقبل بلدان الأوسط المستعصي . يستريح واحدنا في العرب ضجراً في المواقع الاجتماعية العربية والأجنبية المعروفة أو يقطن “الفيسبوك” فلا يبارحه متفرجاً على جماهير العرب النازحين يسكنون ببؤسهم فوق الأرصفة والصور . لا يقرأون لكنهم يرفعون إبهاماتهم منبهرين بكل شيء ولو بصوت بدبيب نملة تبشر بالاستقرار .
إنّه عصر “اللايك” حيث اللمحة بدلاً من القراءة السريعة أو العبور أو المرور في حقلك مرور الكرام في تعليقات تشبه نطف “التويتر” أو أحفاده قبل الذهاب إلى مقاعد الحضانة . تعليقات وكتابات تطمح لأن تصل إلى العناوين . وفي هذا مرارة أو لذّة يمكن أن يعيشها الحائرون من العرب والمبدعون والكتّاب الذين يقدّسون حركة أقلامهم وأرواحهم المتفجّرة على الدوام . وشاءت المصادفات الحضارية أن تغرينا جميعاً هذه المظاهر الجديدة، ورحنا نشتغل على نحت كلماتنا العاجزة عن أي تغيير، بعدما امتصت مجلداتنا كل الإبداع بالقطارة والإشارة، وأجبرتنا لأن نتسابق أصحاب مصانع عريقة للنصوص القصيرة والعناوين . لكن ما أعرق النص العربي الذي يصيب النسر بنقطة حبر ولو كان في كبد السماء . وما قيمة الإبهامات المرفوعة أبداً التي تضاعف حنينك إلى الشرق .
ماذا يعني عصر “اللايك” بالنسبة إلى من يكتب في هذا الشرق الأوسط سوى المزيد من القهر المقيم في غبطة الهدوء والعزلة والرتابة التي تجعلك كلّها، قبل أن تسمي نصوصك وتشاورها وتنشر بعضها ثم توضّبها وتطلقها وتتفاهم حول قرانها ولباسها ومهرها ومستقبلها فتزفه نحو الناس، سوى الحرص على إثبات القدمين في عروبتك، كما الدول العظمى، كي تحسن الوقوف مكان الخصم فلا تعريه أو تحقره، أوتحسن الوقوف في مكانك وعند أرائك وما تؤمن به كي لا يعيرون فيك فجاجة حبرك أو عرضه للبيع على الأرصفة المتنوّعة المذاهب والميزانيات في بلاد العالم؟
أليس أشقى الكتابة وأصعبها عندما يغط العربي ريشته بين حبرين: حبر النفط وحبر الماء إذ يختلطان ببحور الدماء ومحيطاتها في شرق تتكرّر مآسيه .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010