الجمعة 12 كانون الأول (ديسمبر) 2014

خدمة العلم والأمن الإقليمي العربي

الجمعة 12 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par رغيد الصلح

نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة مؤتمراً مهماً خلال الأسبوع الفائت تحت عنوان “دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظلّ المتغيرات”، والحقيقة أن تركيز المؤتمرين الذين تجاوز عددهم المئة من شتى أنحاء العالم انصب على التحديات . فبين مثقفي الخليج والعاملين في الحقل العام، هناك مراجعة واسعة ومناقشات مستمرة لأوضاع الأمن الخليجي في المرحلة الجديدة: مرحلة تتميز بصعود الجار الإيراني الذي يجمع الطموح والقوة “تراجع الحليف الأمريكي واتباعه سياسة الانعطاف شرقاً”، انتشار خطر المنظمات الدينية المسلحة . . إلخ .
يبحث مثقفو وناشطو الخليج بدائل كثيرة يمكن أن تحل محل التحالف الخليجي الأمريكي كضمان مفترض لأمن الخليج . من هذه البدائل، بالطبع، تنمية القدرات الذاتية كإجراء لا بد منه وكسياسة لا بديل عنها في الحالات كافة . ولقد توصلت ثلاث دول خليجية هي دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت، إلى أن التجنيد الإلزامي، أو ما يسمى في أقطار عربية أخرى مثل لبنان، بخدمة العلم، هي مدخل رئيسي لتنمية الإمكانات البشرية في مجال حماية الأمن الوطني والخليجي .
بين الدول الثلاث، كانت الكويت هي السباقة إلى تطبيق قانون التجنيد الإلزامي إلى أن جمدت تطبيقه عام ،2001 والمتوقع أن تعمد في المستقبل القريب إلى إحياء القانون بعد إدخال تعديلات عليه . أما قطر فقد بدأت بتطبيق نظام التجنيد الإلزامي ابتداء من العام الفائت . وقد تشكلت، وفقاً لهذا القانون، قوة من الشباب وظيفتها أن تكون رديفاً واحتياطاً للقوات المسلحة القطرية . وخلال مطلع الصيف الفائت، انضمت دولة الإمارات إلى قطر والكويت، إذ أصدرت قانوناً ينص على التجنيد الإلزامي . واللافت للنظر أن القانون يسري على الشباب والشابات، ولكنه يمنح الشابات الحق في اتخاذ القرار النهائي بصدد الالتحاق بالجندية الإلزامية .
إذا نجحت تجربة التجنيد الإلزامي في الدول الثلاث، فإنه من المرجح أن تتبع الدول الخليجية الأخرى الخطا نفسها . فللتجنيد الإلزامي منافع عدة . إنه يعزز القدرات العسكرية في الدولة التي تطبقه . وتعزيز القدرة العسكرية لا يعني بالضرورة، وكما يتصور البعض، تشجيع هذا البلد على دخول الحروب وافتعال أسباب الشقاق والتنافر مع جيرانه . بالعكس، قد يكون للتجنيد الإجباري نتائج معاكسة . إذ إنه قد يشكل رادعاً ضد الجار الأقوى الذي يستخدم قوته لفرض إرادته على دول الجوار . هكذا نجت سويسرا في دخول الحرب العالمية الثانية، لأنها اعتمدت سياسة الحياد/ الاستقلال المسلح، فطبقت أرقى أنواع التجنيد الإلزامي وأكثر هذه الأنواع فاعلية . فلما توصل الألمان الذين كانوا ينوون اجتياح أراضي ومصارف الجار السويسري الغني، إلى أن الحرب ضد الجار الذي يجند نحو 10% في القتال ضد المعتدي سوف تكون مغامرة خاسرة، قرروا صرف النظر عن مهاجمته سويسرا .
نجت سويسرا المستقلة من العدوان الألماني، أما بلجيكا التي اتبعت مبدأ الحياد/ الاستقلال القانوني المستند إلى علاقات تحالف وتنسيق مع الفرنسيين، فكان مصيرها محزناً . لقد اجتاحتها القوات الألمانية ودخلت العاصمة البلجيكية بروكسل خلال عشرة أيام من القتال . ولم يتخلص البلجيكيون من الاحتلال الألماني إلا بعد هزيمة دول المحور عام 1945 .
ومن المنافع المهمة التي يساهم التجنيد الإلزامي في تحقيقها أيضاً تعميق الوحدة الوطنية في الدول والمجتمعات التعددية الطابع . انه يعمق التعاون والمشاركة بين المجتمع المدني والجيش، كما يقول المقدم محمد رمال أحد الضباط اللبنانيين الذين درسوا بعمق تجربة التجنيد الإلزامي . فالجيش يحمي الوطن ويدافع عن المدنيين ضد العدوان الخارجي أو حتى الداخلي أحياناً . والمجتمع المدني يمد الجيش بما يحتاجه لكي يقوم بمهمة الدفاع عن التراب الوطني على أكمل وجه . ثم إن التجنيد الإلزامي يوطد العلاقة بين الفئات المتعددة الدينية والمذهبية والإثنية التي تتكون منها الدول . فأكثرية السويسريين هي من الذين ينتمون إلى الإثنية/القومية الألمانية، ولكن هؤلاء كانوا سويسريين أولاً وكانوا على استعداد للدفاع عن سويسرا ضد الغزو الهتلري المحتمل . هذا الوضع عمّق اللحمة الوطنية بينهم وبين السويسريين الفرنسيين والإيطاليين .
أخيراً لا آخراً، فإن التجنيد الإلزامي قد يتحول إلى أداة لتأهيل الأجانب والمغتربين لنيل جنسية البلد المضيف . هذا الأمر لم يبت به ولم يتحول إلى سياسات وقوانين في الدول التي تضم أعداداً كبيرة من المغتربين، وربما أعداداً أقل منهم من أبناء البلد الأصيلين . ولكن هذا الموضوع هو قيد البحث في الدول التي ينطبق عليها هذا الحال، وبين المعنيين بقضية الهجرة الدولية . ففي بلد مثل سنغافورة، يبدي بعض المواطنين السنغافوريين استغرابهم لما يعتبرونه - تمييزاً إيجابياً - ضدهم ولمصلحة المغتربين والمهاجرين . فهم مضطرون إلى قضاء سنتين في الخدمة العسكرية، بحيث يوفرون للمهاجرين الأمن وراحة البال، بينما ينصرف المهاجر خلال تلك الفترة إلى الارتقاء بأحواله الاجتماعية والاقتصادية من دون أن يكلفه هذا الحال شيئاً .
ويدعو بعض السنغافوريين إلى معالجة هذا الوضع عن طريق إلزام المهاجرين بدفع “ضريبة التجنيد الإلزامي”، كتعويض عن إعفائهم من الخدمة العسكرية . البعض الآخر، يقترح تحويل خدمة العلم إلى طريقة لاختبار ولاء المهاجر للوطن السنغافوري . يكون ذلك عن طريق تدريبه على مهام أمنية وعسكرية محددة، وتكليفه بمثل هذه المهام التي لا تؤثر تأثيراً كبيراً في المناعة الأمنية لسنغافورة . إذا نجح المهاجر في سنغافورة في هذه المهمة، فإن هذا النجاح سوف يثبت في سجله ويساعده على الحصول على أفضلية في سلم الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين التي تصل إلى ذروتها في حصوله على الجنسية .
إن تطبيق خدمة العلم في دول الخليج يساعدها على تعزيز مناعتها ضد التحديات، ولكن الطريق الأفضل، وإن لم يكن الأسهل، هو في سعي هذه الدول كمجموعة داخل مجلس التعاون إلى إنهاض النظام الإقليمي العربي . إن الدعوة إلى اتباع هذا النهج تقابل، في كثير من الأحيان، بقلب الشفاه والتعليقات الساخرة . ولكن من يتوخى البحث بجد عن طريق لترسيخ أمن الخليج، ومن ثم أمن المنطقة العربية، ومن يقارب هذه المسألة بروح الإنصاف له أن يعود إلى تجارب الدول العربية قاطبة، بل حتى وبعض الدول غير العربية أيضاً، سوف يجد أن مؤسسات العمل العربي المشترك لها في عنق الدول العربية، من دون استثناء، أكثر مما لهذه الدول من ديون في عنق النظام الإقليمي العربي ومؤسساته .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2178322

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178322 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40